مؤكدٌ أن التحضر الفكري لا يقاس بتقدم الزمن. مؤكد أيضا أن العيش مع أقوام وحضارات متطورة لا يعني أننا نعيش التطور نفسه أو أن نُصاب بعدوى التقدم. لا بل قل إن وجودنا في عالم واحد مع أمم متحضرة لا يزيدنا إلا نكوصا وارتدادا إلى هوية منغلقة لأن الآخر بات يخيفنا بتحقيقه لما نعجز نحن حتى التفكير فيه. مشاجبنا كثيرة نعلق عليها فشلنا وإحباطاتنا في كل مناسبة. قالوا تخلفنا لأننا زغنا عن الطريق القويم. سقطت خلافتنا لأننا ثملنا بالملذات واعتقدنا أننا وحدنا الموجودين في هذا العالم ودوننا الفراغ. قالوا أضعنا الأندلس لأننا تفرقنا أمصارا فاستفرد بنا العدو وفعل بنا ما فعل… واليوم، نواصل اختلاق المشاجب لأننا نعجز عن مواجهة الحقائق بعقلنا الذي وهبه الله إيانا. في زاويتها ليوم الثلاثاء الماضي، عرجت الصديقة سناء العاجي على موضوع انحباس المطر وتبريرات البعض منا لهذا الانحباس من منطلق إيمانهم بأشياء لا تستقيم في ذهن كل ذي عقل سوي. أصابت العاجي وهي تضع الأصبع على معتقدات صارت- للأسف الشديد- تجد لها مكانا مريحا في عقول الناس اليوم. في انحباس المطر عقاب للعباد. في سقوطه رحمة منه وتيسيرا لعمل إسلاميي الحكومة كما يذكر بذلك رئيسهم كلما سنحت له الفرصة. في الفياضانات ابتلاء من عند الله لعباده… تتعدد الأمثلة على هذا الفهم الغريب لأشياء وظواهر أصبح العلم اليوم يفسرها بالدقة الرياضية المبهرة. الأمم المتحضرة قطعت أشواطا طويلة على دروب العلم وفهم الكون دون الحاجة إلى ربط الأمر بالخالق عز وجل. العمل عمل والدين دين والعلاقة مع الرب شيء شخصي. لا بل إنه شيء قد يخضعه العبد لرؤيته الخاصة بعيدا عن الرؤى الجاهزة التي تريد حشر الكل فيها قسرا. ما يقوله الفقهاء والأئمة في المساجد ليبرروا انحباس المطر بإرادة الله أمر فيه الكثير من التجني. والأخطر أنه يحمل الكثير من بذور الكره والضغينة ضد الغير… ضد المرأة ووجودها في الشارع وفي مكان العمل… ضد الآخر المختلف عنا… ضد الغير الذي لا يرى في اعتقادنا ما نراه نحن. والأسوأ في هذا كله أن يحمل العبد فكرا منغلقا، مملى عنه، مفروضا عليه، لا يجد مهربا منه. فنصنع أجيالا لا تؤمن إلا بقول الإمام الذي لا تتسع رؤيته للأشياء لتنفذ إلى عمقها. إن في الأمر إصرار على الإطباق على إرادة العبد والتحكم فيه وطمس قدرته العقلية على كشف الأشياء بما منحه الله سبحانه من عقل وإدراك. في الأمر إلحاح على أن لا نرى في الدين إلا المتشدد منه. في الأمر إرادة غريبة على تغييب مناحي اليسر في الدين. الدين في نظر هؤلاء سلسلة مترابطة من الممنوعات والمحظورات والإملاءات ولا مجال البتة لمحاولة فهم الأشياء بمنطق إرادي، شخصي، لا يخرج في النهاية عن منطق الصلاح والخير الذي كان المبتغى في أصل الحكاية مذ بدأت في شبه الجزيرة. ثم ألا يستحق منا هذا المسلم أن نفرح به؟ أن نحكي له من منابر المساجد حكايات الإسلام الجميلة؟ أن نمده بالقوة الإيجابية التي تمنحه أسرار مجابهة الحياة الصعبة بدل إحباطه وتذكيره بكل الويلات التي يبرع أئمتنا – سامحهم الله- في تصويرها بكل الاجتهاد؟ ألا يستحق العبد المسلم أن ينعم بحسنة تثمين وجوده في هذه الدينا بإرادة ربانية؟ إلى متى نصر على القول بأننا لن نعطي الدين حقه مهما فعلنا ونجعل في نفسية العبد ما يثبط عزيمته في أن يعيش الدين بمنطق العقل لا الوصاية؟ المسلمون اليوم يعدون بالملايير عبر العالم وعالم اليوم ليس هو عالم الأمس. الإسلام اليوم في كل مكان برغم كل ما يعتبرهم أئمتنا مظاهر فساد وتلهية وغواية. ألا يكفي هذا؟. مسلم اليوم مسلم آخر، مختلف عن مسلم الأمس. مسلم اليوم جزء من عالم تغير فيه مفهوم الوجود الإنساني بصفة كلية. واجبٌ على مسلم اليوم أن يفيق في الصباح الباكر، أن يحضر نفسه للعمل، أن يصطحب أبناءه إلى المدرسة، أن ينتقل إلى مكان العمل البعيد عنه، أن يشتغل ثمان ساعات على الأقل في اليوم، أن يعود إلى البيت ويواصل تدبير حياته الشخصية والأسرية الصغيرة والكبيرة، وأن يحمل همَّ تأمين مستقبله وتأمين أبنائه وهم تقاعده الذي تعبث به سياسات حكومة بلده… وما هذه إلا صورة مبسطة ومجملة من واقع ليس بالضرورة بكل هذه البساطة والجمال. فالمسلم قد يكون عاطلا عن العمل. قد يكون فقيرا، معدما. قد تتلاطم به أمواج الحياة وتدفع به بعيدا إلى الهامش حيث البؤس والانحراف والضياع. قد يشقى ويكد ويجتهد دون طائل. مسلم اليوم يخرج إلى عالم ليس به جبال يتعبد فيها ويتأمل في ملكوت الله، ولا نخيل مهجور يتغذى على ثماره، ولا كرم حاتمي يكفيه شر الجوع والعطش، ولا قبيلة تحميه… المسلم، اليوم، مطالب بأن يضمن وجوده الطبيعي أولا في عالم متوحش… ومع ذلك، ينجح في أن يصلي في المسجد ويصوم ويزكي ويحج ويعتمر مرات ويحج ويستغفر ربه ويطلب الصفح والتكفير ويُحسن لغيره ويصدق. لماذا يُغيب، إذن، هذا الجانب المشرق من قوة المسلم بيننا على المقاومة والتشبث بأمل الحياة والقبول بالأمر الواقع والاقتناع بالقدر خيره وشره؟ أليس في هذا آيات بليغة تنضح بقيم المقاومة والإصرار على السلوك القويم؟ ألا يستحق منا هذا المسلم أن نرفع من معنوياته في خطب المساجد بدل أن نحشو عقله بغيبيات لم تعد من زمننا ولا من حضارة إنسان اليوم؟ لماذا نأبى إلا أن نتشبث بمنطق الوصاية على الناس ونخطب فيهم بما لا يفيد في أن نعتقهم من جبروت الجهل؟ لا أملك إلا السؤال. وأما الجواب، فأوانه مؤجل إلى حين.