علينا أن لا نفرح كثيراً لمجرد سقوط الأنظمة ونبتهج لتفتح زهور ربيع الشعوب العربية ونجاح الشباب في فرض إرادتهم بعد سنين من الإهمال والتهميش واللامبالاة. فالطريق صعب وطويل ومحفوف بالأخطار ومزروع بحقول الألغام، وما تحقق ما هو إلا خطوة أولى في درب الألف ميل لترجمة الشعارات إلى وقائع والأقوال إلى أفعال وأحلام الشعوب، وشبابها بالذات، إلى حقائق على أرض الواقع والحياة العملية. وبانتظار بلورة الشكل الجديد المعدل لأنظمة الحكم المستقبلية بعد نجاح الثورات العربية في رمي حجارة لتحريك المياه الراكدة منذ قرن من الزمان، وبعيداً من السياسة وشؤونها وشجونها وما يخطط له من دساتير وقوانين وانتخابات وصراعات وتنافس أحزاب وقوى عريقة وناشئة ومستحدثة، لا بد من دق نواقيس خطر لقضية شائكة تتعلق بحياة الناس وحاضرهم ومستقبل أجيالهم. إنها القضية الاقتصادية وما يتشعب عنها من قضايا مصيرية وحيوية يجب وضعها في المقام الأول قبل مماحكات السياسة وترف الديموقراطية وأحاديث القوى النافذة وشكل الحكم ومن ستكون له الغلبة، ومن سيتقدم ومن سيتأخر ومن سيهيمن ومن سيتوارى. فالاقتصاد العربي بشكل عام واقتصاد كل دولة على حدة وصل إلى حافة الانهيار بسبب سلسلة الأخطاء وتراكمات الماضي وتجاربه الفاشلة وآفات البيروقراطية والفساد واستيراد المبادئ وتطبيقها بشكل خاطئ على مجتمعاتنا أو فرضها فرضاً على رغم خصوصية كل منها وظروف المنطقة والدول والأنظمة وتوالي الانقلابات والثورات والمتغيرات الدراماتيكية وعملية الانتقال بين الشيء ونقيضه ومن قمة اليمين إلى قمة اليسار والعكس بالعكس. فقد جربت أنظمة المبادئ الرأسمالية وتركت الحبل على غاربه فعمّ الجشع وزادت الهوة بين الناس وانحصرت الفوائد والمكاسب بفئة معينة لا تمثل سوى قلة من السكان، كما فرضت أنظمة أخرى المبادئ الاشتراكية والشيوعية فعمت الفوضى وانتشر الفساد وسقطت مؤسسات الدولة الواحدة تلو الأخرى وتحولت مؤسسات القطاع العام إلى بؤر للنهب والهدر والفساد والفشل. وسقط النظام الشيوعي وتخلت عنه الدول التي كانت خاضعة له، ثم انهار النظام الرأسمالي واهتز العالم كله للزلازل المصاحبة لهما، فدفع العرب الأثمان الفادحة في الحالتين ولم يتمكنوا حتى يومنا هذا من النهوض واستعادة التوازن وتصويب المسار، ما أدى إلى سلسلة انهيارات كانت الدافع الأول للثورات الناجمة عن النقمة والحرمان والأزمات الكبرى المتكررة التي خلفت الفقر والبطالة وهروب الرساميل والأدمغة والتخلف العلمي والتكنولوجي والثقافي. فقبل الربيع العربي كانت المعالجات الاقتصادية تقوم على تجميل وإخفاء الندوب والأخاديد والتجاعيد وتحسين صورة العواصم وإهمال الريف والمناطق النائية لتبييض صفحة الحكام والإيحاء بالتقدم والتطور وفسح المجال أمام فئة محتكرة للاستفادة من التسهيلات والمحسوبيات، وقامت طبقة طفيلية لا ترعى حرمة للوطن ولا شفقة على المواطن المغلوب على أمره. ونجم عن الأمر بناء اقتصادات شكلية هزيلة بلا أسس ولا بنى تحتية قامت على أساس العجل والحجر، أي سيارات فخمة وأبنية وقصور فارهة بدلاً من التركيز على البشر قبل الحجر وقيام مشاريع منتجة لا مجرد مشاريع وهمية وسياسات تشجّع الغرائز الاستهلاكية. والأنكى من كل ذلك تمثل في رفض الاعتراف بالواقع المزري والحقائق الدامغة فقد عمت سياسة الإنكار وسادت ثقافة الرفض لأي انتقاد، بل تم تشديد العقوبات على كل من يتجرأ ويضع يده على الجرح ويدل على مواطن الخلل. وأذكر للمناسبة الحملة التي تعرضت لها في الثمانينيات عندما أشرت إلى ظاهرة «الحيطيست» في الجزائر حيث ينتشر الشباب في الشوارع وهم يسددون ظهورهم إلى الجدران ويمضون الليل والنهار في تبادل الأحاديث وبث الشكوى من الواقع، وحذرت من أن هذه الظاهرة تحمل إلينا نذر شر مستطير، لأن البطالة ستولد النقمة والأحقاد والفقر سيؤدي بالمجتمعات إلى الخراب والفراغ سيحمل إلينا بذور العنف وصولاً إلى الفوضى والثورات والتطرف والإرهاب. وكانت الردود كلها تجمع على أن الأوضاع بخير وان الشعوب تنام في بحور العسل وأنها راضية تنعم بالرفاه والعز وتطال أيديها كل ما تشتهيه من منّ وسلوى وطيبات بيسر وسهولة. وبنظرة سريعة على واقع الحال نجد أمامنا صورة قاتمة مرعبة عن كل منحى من مناحي حياتنا: 52 مليون عربي تحت خط الفقر، 50 مليون عربي يعانون من البطالة، أي عربي من كل خمسة بلا عمل ولا أمل، أو يقل دخله عن دولارين في اليوم. مليون ونصف المليون، طفل مشرد في شوارع القاهرة... مليونا مصري يعيشون بين المقابر. 65 مليون عربي يعانون من الأمية ثلثهم من النساء، علماً أن عدد السكان ارتفع إلى 300 مليون فيما أشارت دراسات حديثة إلى أن نصف العرب فوق سن 15 عاماً أميون. أما الإنتاج فحدث عنه ولا حرج، إذ انخفض بمعدلات كبيرة في مختلف المجالات الصناعية والزراعية. وزاد الطين بلة ما تعرضت له عدة دول عربية خلال العقدين الماضيين من حروب، مثل لبنان وفلسطين المحتلة والعراق والسودان والصومال، ما أدى إلى ازدياد معدلات الفقر والبطالة والأمية وتعطل الإنتاج وعدم القدرة على إعادة البناء وتعويض الخسائر والأضرار. ثم جاءت ثورات الربيع العربي لتصب الزيت على نار الاقتصاد. فعلى رغم الأفراح والليالي الملاح ومهرجانات الميادين وأحاديث الحرية والتحرر والشباب ودورهم وآمالهم برزت إلى الواجهة وقائع جديدة تضاف إلى الأزمات السالفة لم يعد هناك من مجال لإنكارها أو مبرر لتجاهل مخاطرها أو التقاعس في مواجهتها والمسارعة إلى إيجاد الحلول وإنقاذ ما يمكن إنقاذه قبل فوات الأوان، ما يؤدي إلى ضياع إنجازات هذه الثورات وإعادة الأوضاع إلى نقطة الصفر وإلى مستويات ما دون خط الفقر. ولن نقول إن هذا الواقع سيؤدي إلى انقلاب السحر على الساحر، بل ندق نواقيس الخطر للتحذير مما حدث وصولاً إلى الدعوة إلى قيام ربيع اقتصادي عربي يسير جنباً إلى جنب مع الربيع السياسي والاجتماعي والثقافي والإنساني. فما جرى حدث تاريخي هام ونقلة كبرى في حياة العرب، لكن هذا لا يمنع من الاعتراف بأن عملية التغيير رافقها نشوء أزمات كبرى على الصعيد الاقتصادي لم تكشف عن الوجه العفن للأنظمة المنهارة فحسب، بل أحدثت مشاكل تحتاج إلى حلول وأوصلت الاقتصاد إلى حافة الخطر. وعلى رغم كل ما دبج من مقالات وما كتب من أشعار ومدائح عن مزايا الربيع العربي، فإن معظم الناس لم يلتفتوا للشأن الاقتصادي وما خلفته الأحداث من أضرار. فقد تعطلت عجلة الإنتاج وتراجعت البورصات وأسهم الشركات، وتراجعت مداخيل السياحة لا سيما في مصر وتونس بنسب كبيرة ومخيفة، وهربت البلايين من الرساميل الوطنية والأجنبية، وتجمدت عمليات الاستثمار وضاعت الثقة بالمستقبل القريب على الأقل وتضررت العملات الوطنية وتأثرت الزراعة وازدادت معدلات الفقر والبطالة بعد تسريح آلاف العمال، ما أدى إلى هروب الكثير من الأدمغة وأصحاب الخبرة إلى دول تستفيد منها. كما أعلن أخيراً أن اقتصادات الدول العربية خسرت ما قيمته مئة بليون دولار خلال عام واحد. هذا الواقع يدفعنا مجدداً إلى التحذير من مغبة الاستثمار في سياسة الإنكار واللامبالاة والدعوة عبر دق نواقيس الخطر إلى المسارعة لقيادة عملية إصلاح شاملة على مختلف الأصعدة من أجل مواكبة ربيع الاقتصاد لمتطلبات ربيع العرب من الدول التي قامت فيها ثورات والدول التي نأت بنفسها عنها. فالكل سواسية في الآثار والنتائج والتبعات، والعلاج مطلوب حتى يزهر الربيع ليثمر ويبشر بمستقبل كله أمل.