كان أبي عاشقا كبيرا للسينما و كانت أمي تهوى الرّسم و شغوفة به . هكذا أحببت السينما و هكذا عشقت الرسم منهما معا .أما الكتابة فقد أتت إليّ من تلقاء ذاتها و على حين غفلة مني، مثلها في ذلك مثل الحب تماما. كان أبي منذ أن وعيت يعشق السينما عشقا بهيا ، فقد كان حريصا جدا على الذهاب إلى السينما كل أسبوع . كان يوم السبت بالنسبة إليه هو يوم السينما بامتياز .وكان كلما عاد من السينما ووجدنا ينتظر مجيئه يجلس بالقرب منا و يبدأ في الحكي لنا عما شاهده من أفلام .كان شغوفا بالسينما الأمريكية من جهة و السينما المصرية من جهة أخرى . و كان للحكايات المستقاة من الأفلام السينمائية التي شاهدها دور السحر في التأثير علينا نحن أبناءه و بناته. كنا نتحلّق حوله فرحين بسماع ما سيرويه لنا من حكايات ، وكنا أسعد حين كان يبدأ بوصف تأثير حكايات هذه الأفلام السينمائية على الجمهور الذي كان يتابعها بإعجاب . و حين كان ينتهي من حكيه هذا يبدأ في حكي آخر، يشمل هذه المرة أنواع الممثلين و الممثلات الذين شاركوا في الفيلم. هكذا حفظنا عن ظهر قلب اسم معظم الممثلين الأمريكيين و المصريين الذين كانوا معروفين في ذلك الوقت. و حين بلغت السابعة من عمري بدأ يأخذني معه لمشاهدة بعض الأفلام السينمائية سواء الأمريكية منها أو المصرية و فيما بعد الإيطالية إن وجدت. وكان الذهاب معه بمثابة تحفيز لي على التفوق في الدراسة و الحصول على النقط العالية فيها . و كان يعزز حب السينما لي بالإضافة إلى الذهاب مع والدي إلى السينما هو كون النادي المدرسي هو الآخر كان يبرمج لنا بعض الأفلام السينمائية المناسبة لنا ، وفي مقدمتها أفلام شارلي شابلن . هكذا عشقت السينما و هكذا أصبحت شغوفا بها .و لربما كان هذا العشق للسينما المتولد منذ الصبا هو ما شجعني على الكتابة فيها ، و تحليل الأفلام السينمائية التي تثير إعجابي ، و أرى أنها جديرة بالمتابعة النقدية . و بموازاة مع هذا العشق للسينما من لدن الوالد ، رحمة الله عليه، كان هناك عشق آخر للوالدة ، تمثل في شغفها بالرسم . لقد كانت الوالدة ترسم بشكل فطري أشكالا هندسية بديعة . كانت ترسم النساء وهن يرتدين أبهى الملابس ، كما كانت شغوفة برسم الطبيعة و برسم الحيوانات وهي تجوب هذه الطبيعة .كانت هذه الرسومات بسيطة جدا ، لكنها كانت تحقق للوالدة ، التي كفت منذ زمن عن الاستمرار في عملية الرسم، متعة حقيقية . لقد كانت تشعر بالرضى و الطمأنينة حين ترى ما قامت برسمه .و لربما مشاهدتي لها وهي ترسم حين كنت صغيرا ما دفع بي إلى عملية تقليدها و القيام بالرسم أنا أيضا . و قد شجعني على الاستمرار فيه ما كان يبديه بعض أساتذتي من رضى عما كنت أرسم ، و تشجيعهم لي على مواصلة ذلك. و بجانبي كل من عشقي للسينما و للرسم ، كنت و ما زلت أعشق الكتابة، ربما أكثر منهما معا . و أتساءل الآن عن سبب هذا العشق الكبير لها و لعملية القيام بها، رغم أنها ظلت مع كل هذا العشق لها مجرد هواية عندي و لم تتحول بالتالي إلى حرفة. ربما قد يعود الأمر إلى أنني كنت و ما زلت شغوفا بالقراءة، و بأن عملية القراءة مع مرور الوقت تدفع بالقارئ العاشق إلى الولوج إلى عالم الكتابة دون شعور منه حتى. أو ربما يعود الأمر بكل بساطة ، كما يذهب إلى ذلك العديد من الكتاب في حواراتهم حول هذه المسألة، إلى أن الكاتب يولد منذ البدء كاتبا ، و أن القراءة ما هي إلا وسيلة لتطوير عملية الكتابة و تحويلها من إطارها العفوي إلى إطارها الثقافي المحكم . و بالتالي فقد ولدت منذ البداية كاتبا ، وما قراءاتي العديدة للكتب سوى وقود يومي يساعدني على الكتابة و الاستمرار فيها بشكل مقبول . لكن و مع كل ذلك فغالبا ما قد تؤدي كثرة القراءة إلى الولوج إلى عالم الكتابة .هكذا يخبرنا ألبرتو مانغويل في كتابه البهي "تاريخ القراءة" . إن القراءة هنا تصبح دافعا للالتحام مع الكُتاب الذين قرأنا لهم، و لا يمكن أن يتم ذلك إلا من خلال الكتابة عنهم. و الكتابة عنهم ستجر إلى الكتابة عن غيرهم، ولا يدري بعدها القارئ إلا و قد تحول إلى كاتب مثلهم. وهو ما أشار إليه الكاتب الأمريكي هنري ميللر ببراعة في كتابه "الكتب في حياتي" . إن الكاتب حين يكتب يحاول من خلال كتابته التعبير عن ذاته، لكن هذا التعبير لا يمكن أن يتحقق إلا بوجود قارئ معين قد يكون معلوما أو قد يكون مجهولا بالنسبة له. يقول هنري ميللر في هذا الصدد في كتابه "الكتب في حياتي" السالف الذكر، و الذي نقله إلى اللغة العربية المترجم العربي أسامة منزلجي ، مايلي : "إحدى المكافآت القليلة التي يحصل عليها الكاتب مقابل جهوده المبذولة هي تبادل الحديث مع قارئ يتحول إلى صديق شخصي، و حميم" .هكذا هي الكتابة أيضا بالنسبة لي. إنها عملية تبادل الحديث مع الأصدقاء المعلومين و المجهولين من قرائي. و هي بالتالي وسيلة للقاء بهم عبر الكلمات. هذه الكلمات المحلقة بأجنحة من نور . إن الكتابة طبعا لا تأتي من فراغ . إنها وليدة الثقافة المنفتحة، المتنوعة و الغنية. تلك الثقافة التي تتجاوز مجرد قراءة الكتب و الاكتفاء بذلك فحسب. بل إنها تلك التي تشمل أيضا بالإضافة إلى قراءة الكتب، محبة الاستماع إلى الموسيقى و مشاهدة الأفلام السينمائية و الحضور إلى المعارض الفنية المتعلقة بالفن التشكيلي،و متابعة المسرحيات المعروضة و غيرها . إن الحياة في مثل هذه الأجواء الثقافية من كتب و رسم و موسيقى، و سينما في تعددها و تنوعها الإيجابي، و المنفتحة على الثقافات الإنسانية في غناها و أبعادها الفنية هو ما يمنح للحياة معنى بهيا. وهو ما يجعل من الآداب و الفنون وسيلة للمحبة و السلام و الجمال. نور الدين محقق