لاشكّ أنّ قارئ الكاتب الياباني هاروكي موراكامي سيقفُ على أمرٍ لافِت للنّظَر تنمازُ بهِ معظمُ شخصيّات رواياته، إنّهُ ذلكَ الوَلع بالكتب والمكتبات، ناهيك عن عشقِها (الشخصيات) للموسيقى الكلاسيكية ( سمفونيات بيتهوفن وباخ ) وموسيقى الجاز خاصّة، ولاشكّ أنّ جُرثومة حبّ الكتب والقراءة ستنتقل من الكاتب إلى القارئ، ذلك أنّ إحالة الكاتب على كُتّاب آخرين بين تقاسيم كُتبه أمرٌ يغرِي بقراءتهم، ولِمَا لا الوُقوف عندَ التقاطعات الموجودة بينهم وبين موراكامي، من أجلِ تعمّق أكثَر في عوالمه المحكيّة . موراكامي، الكاتب الذي وصلت كتاباته إلى أٌقاصي القرّاء وتُرجمت أعماله إلى لغاتٍ متعدّدة، لم يكُن أبداً يرى نفسهُ روائيا، بل إنّه لم يسعَ إلى ذلك بالمرّة، ففي مقال تحت عنوان «اللّحظة التي صرت فيها روائيّاً» منشور على الموقع الرسميّ له، يحكِي الكاتبُ عن حياته قبلَ أن يدخُل غمارَ الإبداع الأدبي، حيثُ تزوّج وبدأ في العمل ثمّ تخرج من الجامعة بعد ذلك، في خرقٍ سافِر لمَا جرت عليه عادةُ المجتمع الياباني، إذ يحصُل النّاس على الشواهد الجامعيّة فيبحثون عن عمل ليأتي الزواج بعد ذلك. ولأنّه يكرَهُ العمل لدى الشركات فقد كان حلمه أن يفتتحَ مكاناً حيثُ يستطيعُ المرء أن يستمعَ إلى موسيقى الجاز ويحتسي قهوة أو شراباً وربما يتناول شيئاً خفيفاً، بعيداً عن ضجيج النوادي اللّيلية والمطاعم المزدحمة، وستكون الفرصة سانحة له أيضاً للتمتّع بموسيقاه المفضّلة (الجاز) من الصباح حتّى المساء. كانَ مخطّطا بسيطاً، لكن الأمور لم تسر بتلك اللّيونة المتوقعة، إذ وجدَ نفسه تحت الضغط الرهيب للعمل وضرورة الوقوف على كافة الترتيبات بنفسه، فكان يعمل من ساعات الصباح الأولى إلى آخر اللّيل، مُدارياً الإرهاق والتعب، من أجل تسديد الديون التي حصل عليها لإقامة مشروعه، لقد كانَا يعملانِ، هوّ وزوجته، كالعبيد على حد قوله، فلم تكن الظرفيّة مناسبة للراحة والاستمتاع بمَلذّات الحياة الشّبابية . إلاّ أنّه، وفي المقابل، كانَ يقضي كلّ دقيقة من وقت فراغه في القراءة مصحوبة بالموسيقى، الكتب كانت سعادته العظيمة، لا يهمه كم هو مشغول أو مرهق أو نفسيّته محطّمة، لم يكن أي أحد يستطيع سحب تلك المتع منه (القراءة والموسيقى). فالقراءة كانت نافذته الوحيدة للخُروج من رتابَة اليوميّ ومشاغِل العمل، ومع نهاية عشرينياته بدأت الأمور في التحسّن، كان لا يزالُ مديناً بالمال، لكنّ المُستقبل كان يبشّر بالخير، خصوصاً أنه كان يفعل شيئاً يحبّه من أعماقه، وليس ملزماً بالخضوع لمدير لا يطيقُه. لكنّ الأمور ستتغيّر جذريا في لحظة معيّنة، ففي سنة 1978، سيحضُر موراكامي مباراة للبايسبول في ملعبٍ ليسَ بعيداً عن مكان سكنه، رغبةً في الترفيه قليلاً، وهو يتابعُ مجريات المباراة ستقعُ له إشراقة ذهنية غريبة لا سبب منطقي لها، نوع من الوحي الداخلي، «أنا أظن أنّي أستطيع كتابة رواية»، هكذا قال لنفسه. ذلك اليوم، وهو عائد إلى بيته، اقتنى العدّة اللازمة وفي الليل شرع في الكتابة، على طاولة الطعام في المطبخ. وهكذا سار الأمر بعد ذلك، كلّ يوم، حين يعود من العمل ليلاً، يستأنف الكتابة، على الطاولة نفسها أبداً . ومن ثمّ ستبدأ رحلة الأدب والخلق، والبحث عن أسلوب خاصّ يقطع مع التقليد أو التشبّه بالآخرين . «بمجرّد أن أشرع في قراءة كتابٍ مَا لا أستطيعُ أن أطرَحه أرضاً، كانَ الأمرُ أشبه بالإدمان، أٌقرأ حين أتناول طعامي، في القطار، في السرير قبل أن أنام ليلاً، في المدرسة حيث أخفي الكتاب عن أنظار الآخرين حتى أتمكّن من قراءته داخل القسم، لكن لم تكن لي رغبة تقريباً في الحديث مع أحدهم عن تجربتي مع القراءة والموسيقى، كنت سعيداً وأنا مكتف بذاتي لا غير.. «، هكذا تتحدث الشخصيّة الرئيسة في «جنوب الحدود غرب الشمس»، وربّما لن نجانب الصواب إذا ما قُلنا أن الكاتب يتحدّثُ عن نفسه عبر تلك الشخصيّة الروائيّة، خصوصاً أنّ هذه الرواية تستلهُم الكثير ممّا يحكيه الكاتب في المقال السالف الذكر، والذي يقدّم لمحات من السيرة الذاتية . بالعودة للكُتب والموسيقى، نجدُ أنّ روايات موراكامي تحتفي بهذين العنصرين بشكل كبير، فشخصيّاته مسكونة بعشق القراءة والموسيقى، من «كافكا على الشاطئ» إلى «سبوتنيك الحبيبة» و»ما بعد الظلام» مروراً ب»رقص رقص رقص» و»جنوب الحدود غرب الشمس»، شخصياته تملك ثقافة موسوعية، تقرأُ كثيراً وفي أيّ مكان، بل إنّها تنتقدُ وتناقش ما تقرؤه، تزُور المكتبات بشكلٍ متواصل، كما أنها (الشخصيات) تملكُ معرفة عميقة بتاريخ الآداب والفنون والموسيقى خاصّة، ممّا يقودُ القارئ إلى الدخُول في دهاليز المعرفة الإنسانية ومساءلَة الكتابات والثّقافات المُختلفة، وهذا راجعٌ طبعاً لخلفيّة الكاتب، فمن يتحدّث عن الكتب والموسيقى والفنّ بتلك الطريقة لاشكّ أنه قارئ يفترس الكتب كما كان فلوبير يقول، وهذا يؤكّد مقولة أنّ الإبداع هو اشتغال ومراكمة وتجربة قبل كلّ شيء، وليس وحياً منزّلاً من الفراغ . إن قارئ موراكامي سيتملّكه الفُضول لقراءة مؤلفات كافكا وجورج أورويل وجيمس جويس وياسوناري كاواباتا وهنري ميللر وغيرهم كثير من الكتاب الفارقين في تاريخ الأدب الإنساني، وكذا الرّغبة في الاستماع للمعزوفات الكلاسيكيّة وموسيقى الجاز الخالدة. إنّ أدب موراكامي هو تحريضٌ على القراءة والبقاء في المكتبات لساعاتٍ طويلة، ثمّ حبّ الموسيقى وتقدير الفن والجمَال: