تنطوي الكتابة عن ظواهر اجتماعية سياسية ضخمة وغير مسبوقة، بحجم “الحراك الاجتماعي” الذي طال خلال الأشهر الأخيرة عددا من الدول العربية، على محاذير منهجية يتجنبها أي كاتب أو محلل، مهما علت درجة تخصصه وقدرته على مواكبة التطورات السياسية في المناطق الساخنة. وأخذا في الاعتبار بهذه الملاحظة، فإنه يجب التعامل مع هذه المداخلة وكأنها “شهادة” قابلة للتغيير. ذلك أن أقصى ما يمكن المساهمة به في لقاء مخصص لإنارة جوانبَ موضوعٍ تجاورت فيه العتمة والضياء، أن تقف أي مقاربة عند حدود إبداء ملاحظات أولية، تصب في المجرى الكبير من المقالات والتحليلات والاجتهادات التي نطالعها يوميا في الصحف والدوريات، تلاحقنا أصداؤها، صباح مساء، في وسائل الإعلام، منذ اندلاع شرارة الأحداث، في تونس أولا، وانتقال “الحريق” وبسرعة إلى مناطق أخرى. وما ينبغي استحضاره في هذا السياق، هو أن التغيير الذي انتهت إليه الأحداث في مصر، شكل مفاجأة وحالةً استثنائيةً. فقد جرى تصنيف البلاد زمنا ضمن “الدول المستقرة” رغم أزمتها الاقتصادية المزمنة، ما جعل محللين، مصريين وأجانب، يستبعدون فرضية تكرار “سيناريو تونس” نظرا لاتساع الرقعة الجغرافية في مصر وتماسك مؤسسة القوات المسلحة القابضة، في حقيقة الأمر، بزمام السلطة بواجهة مدنية، منذ انقلاب يوليوز 1952. وربما كانت تلك “الطمأنة” وراء استهانة السلطات بأحداث 25 يناير. ومن الأسباب التي راج أنها ستحول دون قيام حركة شعبية على شاكلة “ربيع تونس” تَفَرُّقُ المحتجين في مصر إلى مجموعات وتوزُّعُهم بين ولاءات عقائدية متباينة، ما يشكل صعوبة تجميعهم في” بؤرة حرجة” واحدة . وذهبت آراء إلى القول إن استقرار الحكم متأصل وراسخ في مصر، يعكس طبع أهلها الميال إلى السلم، انسجاما مع تقاليدِ هَرميَّة السلطة المركزية المتوارثة، المُحاكِية لمجرى مياه نهر النيل ونظام الري المتفرع عنه، منذ عهد الفراعنة. إن توالي الأحداث وترتيبَ وقوعها، في مصر قبل سوريا، وبعد تونس، يُسائل الباحثين والمحللين، عربا وأجانب، ويفرض عليهم مراجعةَ أساليب التحليل وإعادةَ تقييم مؤشرات استقرار أنظمة الحكم وعدمه، التي طالما اعْتُمِدَت لفهم حركية التحولات العميقة التي تجتاح المنطقة العربية، بما فيها تلك الدول التي تعطي الانطباع بالهدوء وثبات الأوضاع. إن البطء أو العجز عن توقع الزلزال الكبير المفاجئ في مصر من قبل المحللين والمهتمين يدل، من وجهة نظري، على تراجع الاهتمام الأكاديمي في الغرب وضعف مواكبة أوضاع الشرق العربي وتطور أحواله وهياكله العامة من قبل مراكز الأبحاث والدراسة والاستطلاع. بل ربما يشير أيضا إلى تقاعس أجهزة الاستخبارات التي من بين مهامها استباقُ الأحداث والتنبؤ بها قبل وقوعها. سأبتعد قدر الإمكان عن الدخول في نقاش أكاديمي بخصوص التسمية الملائمة لما حدث في أجزاء من العالم العربي. من الطبيعي أن تختلف التسميات والتوصيفات التي أطلقتها في الغالب وسائلُ الإعلام. هل ما وقع ثورة، انتفاضة، تمرد على الأوضاع، تطلع مشروع إلى عيش أفضل؟ حراك سياسي تقف خلفه قوى حزبية منظمة؟ رفض للشروط الاجتماعية المجحفة؟ أم هو صراع ثقافي وقيمي بين بنيات ثقافية وسياسية عتيقة، في مواجهة منظومات فكرية حديثة ؟ من الأسئلة الجديرة بالطرح كذلك: هل يؤشر الحراك الاجتماعي على انتشار كاف للوعي في العالم العربي حتى أصبح مؤهلا لإنجاز التغيير؟ ما نصيب ودور وتأثير النخب الفكرية بما فيها الجماعات الدينية في مسلسل الانتفاضات الشعبية؟ أيجوز القول إن الحراك نهج مستقل في التنظيم والإعداد ، فرضه فكر نابع من أرض الواقع، يَتوقَّ إلى تدبير الشأن الوطني الكبير، بمعزل عن أي تبعية فكرية وسياسية للغرب؟ ما درجة استعداد المجتمع المدني في الأقطار العربية ليصبح قادرا ومؤهلا للانخراط والفعل في حركات التغيير؟ هل اكتملت الشروط الموضوعية وتهيأت الأوضاع للقيام بذلك؟ ألا يُعتبر ما يحدث قفزة نحو المجهول، يُدخل العالم العربي في مغامرات سياسية فردية وجماعية غير محسومة العواقب، قد تفضي إلى أوضاع شديدة الاضطراب مثلما هو حاصل في مصر وتونس، وليبيا، وسوريا، واليمن. ما يلاحظ أن أجزاء من العالم العربي تتعرض لرياح تغيير تقوده قوى اجتماعية مستعجلة، تريد اقتلاع ما يعرقل طريقها من حواجز، ساعية بجرأة محيرة أحيانا، من أجل استبدال نظم سياسية تراها متجاوزة وعتيقة ومستبدة وتعويضها بأخرى لم تتبلور ملامحها. وفي هذا السياق، يحق التساؤل عن طبيعة هوية الأفكار والإيديولوجيات التي تستهوي الشباب الغاضب في العالم العربي؟ ما هي ملامح (بروفايل) ومواصفات “الفاعلين والقادة” الذين يوجهون ويرسمون الطريق لهذا الخضم البشري الهائل؟ الملاحظ أن الموجودين في الساحات، غيرُ مكترثين بما إذا كانت الثورات تقترن في ذهن الرأي العام بالفوضى العارمة واحتمال مواجهة أوضاع صعبة وخطيرة، ليس أقلها انهيار بنيات السلطة القائمة وانتشار الفوضى، وما يرافق ذلك من انفجار الهويات وبروز الأقليات وتصفية الحسابات، فضلا عن انقسام حاد وعميق في الرأي. إنها مخاطر جمة ومحتملة، قد تلقي بظلالها على نسيج الوحدة الوطنية وتماسك المجتمعات. نعم، توجد قطاعات واسعة من الرأي العام العربي تعتقد أن ما هو حاصل أفضل من الأوضاع القائمة ويبشر بحالٍ أحسن اجتماعيا وسياسيا واقتصاديا، أكثر استقرارا وأمنا وحرية وعدلا وانسجاما مع ثقافة وقيم العصر. هل يقوم هذا التفاؤل على سند أم أنه نزوع انتحاري؟ لا توجد أجوبة قطعية على تساؤلات تتردد على أكثر من لسان. وفي الواقع فإننا حيال انعطافة اجتماعية قويةٍ متلاحقةِ الفصول، سريعة التقلب، ينبغي التريث ،في زمن يؤمن بالسرعة، قبل الحكم عليها. ولا يمنعنا ذلك من الإدلاء باستنتاجات مؤقتة، أفرزتها فصول الحراك الاجتماعي، بكيفية متفاوتة، تبعا لأوضاع كل مجتمع والقوانين المتحكمة فيه. لا بد من التأكيد أن الحراك العربي ظاهرة سياسية تاريخية “فريدة” اتسمت بالشمول وتعدد الأبعاد. لا تقاس وتقارن بما سبقها من أشكال وتجارب التمرد على أنظمة الحكم، والانتفاض ضدها في الماضي، حتى في عهود الاستعمار. ليست لها صلة بالانقلابات العسكرية التي بررت الاستيلاء على السلطة ، كون القوات المسلحة تعبر عن مطامح الجماهير الشعبية العميقة لتمكينها من حقوقها المهضومة. الآن وبعد مسلسل “الثورات” المتلاحقة، أصبحت المؤسسة العسكرية شبه فاقدة لشرعيتها الثورية في نظر الجماهير. بل ربما شككوا في دورها المهني المتمثل حصريا في الدفاع عن حوزة الوطن. لم يعد مُبرِّرُ الانقضاض على السلطة هو ادعاء محاربة الاستعمار والغرب. تجتاح العالمَ العربي “ثوراتٌ” شعبية اتسمت في بداياتها بالعفوية والنزعة السلمية. لم تتحكم فيها زعامات تقليدية، ذات “كاريزما” جاذبة تلهب الحشود بالخطابة. إنها، وهذا تطور في حد ذاته مثير للتساؤل، تكتلات جماهيرية، تصدر عنها ردود أفعال غاضبة وجارفة مثل الطوفان. لم تحدد سقفا معلوما ونهائيا لمطالبها وأجندتها كما لم تعلن الانتساب لمرجعية فكرية بعينها. هكذا، يوجد خلط في كثير من التظاهرات بخصوص نوعية الشعارات المرفوعة. تارة يهتف المحتجون بإسقاط النظام برمته، ليكون الشباب بديلا له. أحيانا يركزون على الإطاحة برموز الفساد، إلى جانب الاحتجاج على غلاء المعيشة والشكوى من تدني وسوء بعض الخدمات، مثل فوضى النقل والمرور في المدن، وارتفاع أسعار الدواء والعلاج. كما يُوجَّهُ النقد إلى بطء البيروقراطية الإدارية وظاهرةِ الرشوة. هذا يعني أن كتلة المتظاهرين والمحتجين ليست موحدة ومحصورة في الشباب الواعي، بل تم استقطاب فئات أخرى التقت معهم تحت مظلة مطالب سياسية واجتماعية عريضة. هذا “التمازج” بين المكونات يفسر إلى حد كبير، التأرجحَ والاضطرابَ، بل الصعود والنزول، في لائحة مطالب المحتجين. في ظل غياب الرؤية الثورية، وتداخلُ الحلم بالواقع، وصعوبة التوفيق بين الرغبات المشروعة والمستحيلة. وإذا كان من أمر يدل عليه “غموض الرؤية”، فهو المستوى الذي وصله الاحتقان الاجتماعي، وانسداد الأفق السياسي، وضيق قنوات التنفيس في عدد من الأنظمة العربية. انعدم الحوار وتأزمت العلاقة، منذ عقود، بين الحاكمين والمحكومين. فشلت الديمقراطية التمثيلية الشكلية التي احتمت بها بعض الأنظمة، في عقد تصالحٍ ووفاقٍ مع المواطن. كما فشل نموذج التنمية. لا غرابة أن اندلع الانفجار الكاسح أولا، من التربة التي استشرى فيها الفساد السياسي والمالي، وحيث كُمِّمت أنفاس المواطنين واحْتكرَ السلطةَ حزبٌ واحد وأقلية عائلية أو قبلية. هذا مع اختلاف الأوضاع بين مصر وتونس واليمن وليبيا وسوريا. إنه معطى يوضح التفاوتَ والمراوحة في مطالب التغيير لدى المحتجين، واختلافَ تعبيرات وشعارات الفئات التي تنزل للتظاهر في الشوارع والميادين العامة لتُفْرغ ما في صدورها من غضب ونقمة على الحاكمين. غير أن هذا الحراك العربي “الفوضوي والعفوي” أفرز منذ أيامه الأولى مفارقاتٍ إيجابيةً تجلت في حدوث تمازجٍ وانصهارٍ بين فئاتٍ اجتماعية متعارضة ألغت مؤقتا خلافاتِها الإيديولوجيةَ وأجَّلت إعلان انتمائها المذهبي وانتسابِها العرقي. لقد جرى، في بوتقةٍ واحدة، استقطابُ العاطلين والمهمشين المحرومين والمثقفين وخريجي الجامعات والكوادر العليا، مثلما تم تحريكُ فئاتٍ عمريةً بدا أنها فقدت القدرةَ والحافز على المشاركة في الثورة، وآمنت بضرورة فسح المجال للشباب. تميز هذا الحراك كذلك بلقاء وموعد بين الأجيال. خرجَ الآباء والأبناء في صف واحد لينضموا إلى الحشود. كم سيدوم هذا “الوئام” وأية قوة ستستفيد منه؟ وبطبيعة الحال، لا يمكن لهذا الانسجام في الرأيِ والموقفِ والتوجُّهِ أن يدوم. ويجب أن لا تفاجئنا، في يوم ما، بوادر الانقسام وتشتت الصفوف. فإن استطاع “الثوار الجدد” تدبيرَ خلافهم بوسائل الحوار السلمي، فسيحسب لهم أنهم طوَّرُوا الممارسة الديمقراطية والسياسية في الأوطان العربية. لكن يُخْشى أن يصبح الصراع متعددا وعلى أكثر من واجهة: السلطة في جهة والمحتجون متفرقون في مواقع وجهات. يتساءل المواطنون والمحللون على حد سواء، عبر أنحاء الوطن العربي، لماذا اندلعت وتسارعت الأحداث بمثل القوة والكثافة، وبصورة متزامنة ومتقاربة في أمكنة عدة من الرقعة العربية؟ بالتأكيد، لا يمكن إغفالُ الدورِ الذي مارسته وسائل الاتصال الحديثة في إذكاء جذوة الثورة الكامنة في نفوس الشباب، وهم القوة الطليعية في الميادين، بما وفرته من انسياب التواصل الآني فيما بينهم، وسرعة تبادل الآراء وتداول المعلومات عبر منتديات الدردشة الإلكترونية. ما مكن تلك الفئات الجديدة من التعبير بحرية وتلقائية وبلغة عفويةٍ، وعقلية متحررةٍ من القواعد والأعراف الجاهزة. تتدفق خطاباتهم كالشلالات من منابعِ غرف الدردشة. تُنْقل الحالمين إلى عوالمَ افتراضية، فيشيدون فوق الواقع الذي تمردوا عليه مدنا ومجتمعات فاضلة، يسودها العدل والمساواة والتسامح والحرية بدون حدود أو قيود. إنهم يبشرون بعالم جديد. ففي ظل الأجواء التي أتاحتها ثورة الاتصالات، هرع الشباب والمراهقون إلى الفضاء الخارجي، لتنزيل أو فرض ما تداولوا بشأنه واتفقوا عليه في “برلمانهم” الافتراضي، العابر للأمكنة والأوطان. اصطدموا بأجهزة نظامٍ سائدٍ فاقد للشرعية، من وجهة نظرهم، خارجٍ عن العصر. فاحتدم الصراع بين الجانبين لينتهي بالعراك والعنف وسيل الدماء. لا ينطبق هذا “التوصيف” على كل المجتمعات العربية التي وصلها ما أصبح يسمى في الأدبيات الإعلامية “الربيع الديمقراطي العربي”. ثمة خصوصيات تنفرد بها تجربة دون أخرى. لكن الخصوصيات لا تلغي التشابه في المنطلقات العامة والرغبة الدفينة في التحرر، فضلا عن تشابه الأهداف المتمثلة في تَوَقِّ المجتمعات العربية إلى “التغيير” الشامل وتشييد نظام بديل. ومهما اتسع تأثير التكنولوجيا، فإن الأوضاع السياسية المقيدة والمانعة للمشاركة والمراقبةَ الشعبية، وانتشارَ الظلم الاجتماعي، هي المحفزة أكثر على الاحتجاج والثورة من الوسائل الأخرى، بما فيها الثورة المعلوماتية. في هذا السياق يبدو معقولا إثارة سؤال: لماذا انحصر الحراك في دول عربية ولم يمتد إلى أخرى، انعدمت فيها الديمقراطية وتقلصت الحريات إلى حد مساحة ضيقة؟ لا يمكن التكهن بإجابة دقيقة. فالحراك، في جولاته الأولى، يمكنه أن يعاود الظهور في أمكنة جديدة وبأشكال مغايرة، مستفيدا من تقييم التجارب السابقة. كما يجوز أن يخمد ويصبح رمادا ناطقا بالذكريات، ينسحب عليه ما حدث في فرنسا خلال حراك مايو 1968. وأحسب أنه لا يوجد نظام حكم عربي لا يأخذ الآن في الاعتبار ما يمكن أن يندلع في الشارع بشكل مباغت بين عشية وضحاها. في هذا الصدد أدركتْ أنظمةٌ سياسية المخاطرَ المقبلة، وسارعت إلى بلورة سيناريو للإصلاحات واتخاذِ إجراءاتٍ وقائية. ويصح القول نظريا بأن “مآل الحراك” يتوقف على كيفية استجابة وتعاطي الأنظمة السياسية المعرضة أكثر من غيرها لسهام الاحتجاج. مثلما يتوقف أيضا على وعي “المحتجين” واستيعابهم لطبيعة الظرف التاريخي وحسن تدبيرهم لثورتهم الخاصة انطلاقا من ميزان القوى وطبيعة التحالفات والروابط والمصالح القائمة التي تجمعهم. وما يقلق ويدعو إلى الحيرة، هو احتضان الغرب وحماسه المريب لمسلسل الثورات العربية المتلاحقة. لماذا يؤيدها أكثر من العرب المعنيين بها، من خلال مواقف رسمية وتحريض إعلامي؟ ما هي مصلحته القريبة والبعيدة في ذلك؟ ألا يخشى انقلاب تلك الثورات عليه بعد أن تستقوي؟ ولماذا لا نتصور انتقال عدوى الحراك الاجتماعي إلى الدول الغربية نفسها؟ خاصة وقد ظهرت مؤشرات في إسبانيا وإسرائيل، حيث قال الشباب إنهم متأثرون بالربيع العربي؟ وفي هذا الصدد، يتساءل كثيرون وبقلق مشروع: متى كان الغرب، المستعمر السابق، متعاطفا مع قضايانا العادلة وأهمها فلسطين؟ أليس هو الداعم لأنظمة متطرفة رعت مصالحه في الماضي والحاضر؟ أشدد هنا على التنبيه إلى الدور “الملتبس” لعددٍ من وسائلِ الإعلام العربية والأجنبية. لقد غَذَّت في أغلب الأحيان الاحتجاجات وحرضت عليها، وأضفت عليها أشكالا من المبالغة والتهويل، وغابت المهنية والموضوعية عن مراسلاتها وتحاليلها. صحيح أنها تتعلل بصعوبة التحقق من المعلومات في عين المكان للحصول على الرأي الآخر. وهي شكوى قد تكون مبررة، لكنها لا تجيز بأي حال الجري وراء الإثارة والتخلي عن أخلاقيات المهنة واللجوء إلى إصدار الأحكام والفتاوى بالانحياز المكشوف لطرف، والاعتماد في التحليل والتقارير على صور يبعثها الهواة عبر الهواتف النقالة، إرضاءً للمشاهدين والقراء والمستمعين وانسياقا مع عواطفهم إن لم نقل غرائزَهم. أريد أن أخلص مما سبق إلى أن الأوضاع في غالبية العالم العربي متباينة ومعقدة، زادها الاستبداد والتخلف السياسي والوضع المعيش صعوبة، فلم تعد تنفع في علاجها الإجراءات التقليدية والمسكنات الظرفية. تلك بديهية أكدها الحراك. وكما هو معلوم، فإن هذه الرقعة الجغرافية الممتدة من الخليج العربي إلى المحيط الأطلسي، لم تنجز ثورتها الوطنية الديمقراطية بالكامل في الإبان المناسب. فقد حال دون ذلك التخلف والاستعمار. لم تمتلك أغلبية الحركات الوطنية العربية، الأدوات السياسية الكفيلة بتأسيس دولة عصرية. إن ما قام به مفكرون ومصلحون متنورون في المغرب والمشرق، لا يعدو أن يكون مجرد اجتهادات ومحاولات تقريب بين العلم والدين. لم يثوروا على التفكير التقليدي الغيبي برمته، ما أوجد التربة الملائمة لانتشار الاستبداد السياسي وتبريره والذي ورثته أنظمة الحكم العسكرية فيما بعد، لبسط سيطرتها، مستنسخة الماركسية الحرفية ونظام “الحزب الوحيد” أصل الداء. وجد محتكرو السلطة في أغلبية العالم العربي مسوغاتٍ لاستثارهم بها في الحرب الباردة بين المعسكرين من جهة، وعدم تفهم واستيعاب مراكز القرار في الغرب لمطامح العرب والمسلمين. فاستحكم العداء بين الجانبين، وانتعش التسلط، بل أصبح نموذج الحكم الوطني يحظى بتزكية ورضا من الغرب، الحريص على مصالحه المادية والإستراتيجية. يضاف إلى كل ذلك أن العالم الإسلامي، ظل بمنأى عن منجزات عصر النهضة الأوروبية وما رافقها من تحولات جذرية عميقة تزامنت مع ثورة معرفية شاملة. وفي هذا السياق، لم يكن مستغربا أن تندلع حركات الاحتجاج الأولى من مهد دول حكمها حزب واحد بواجهة مدنية أو عسكرية مثل تونس وسوريا واليمن أو بلدان سادتها شعبوية فوضوية (مثل ليبيا). وحتى مصر، التي أسست تعددية بيروقراطية تسلطية، سهلت استشراء الفساد السياسي وانسداد شرايين نظام الحكم. في ظل تلك الأنظمة المعادية للحرية الخارجة عن سياق الزمان والمكان والتاريخ، انتعش الفكر الثوري والمحافظ، بقدر غير متساو، مستغلين معا الأوضاع الاجتماعية البائسة وانفتاح الشباب على آفاق المعرفة، مستفيدين من منجزات العولمة، السلمية والهدامة على الصعيد الفكري والسياسي والاجتماعي. ومن المفارقات أنهما يقفان جنبا إلى جنب في بعض ساحات الاحتجاج. لقد سقط الخوف بالتدريج، وتحولت “الكتاكيت” إلى ديكة ذات صياح مزعج للأنظمة القائمة. منها من دخل معها في مواجهات منذ البداية، جَرَّت إلى نفق العنف. مثلما أدركت أنظمة أخرى حرج اللحظة وانتبهت إلى مشروعية المطالب فجنحت إلى السلم والتهدئة. أعتقد من المناسب، ولأسباب وجيهة، الإشارة إلى تجربة المغرب، في التعامل مع حراك الشارع، مستبقا تعقيدات وتداعيات واجهها آخرون، فأوقفت المعالجةُ الهادئةُ والجريئة الطوفانَ عند مستويات معقولة. ومنذ ارتقائه الْمُلك، دعا الملك محمد السادس إلى إصلاحات عميقة في الشكل والمضمون، مشددا على ضرورة تأهيل النظام السياسي وتجديد بنياته، داعيا إلى إقرار مفهوم جديد للسلطة متمثلا في “سياسة القرب” من المواطنين والإنصات لمشاكلهم وإيجاد الحلول لها بسرعة، متخذا المثل من نفسه. وبالتالي لم يتفاجأ عاهل المغرب بالمطالب الشعبية التي حركت الشارع. توقعها فتجاوزها بإجراء تعديل دستوري، هو قاعدة أي إصلاح والأول في محتواه ومقاصده في العالم العربي. فوض الدستور الجديد بمقتضى التعديل صلاحياتٍ تنفيذيةً واسعة لرئيس الحكومة، وفق معادلة جديدة، لتقاسم السلطة وتوازنها بين المؤسسة الملكية والهيئات المنتخبة. كما حدد الدستور الجديد آليات المراقبة والتحكيم لكي لا يحدث شطط. صحيح أن الخطوات الإصلاحية الواسعة التي بدأ تطبيقها في المغرب، لم تُرضِ سائر فئات المحتجين، وخاصة المرتبطين بتنظيمات يسارية متطرفة أو الملتفين حول حركات دينية سلفية. و من وجهة نظري، فإنه رفضٌ أو ممانعةٌ عابرة، يندرج ضمن المزايدات السياسية المألوفة، خاصة وأن الإرادة الشعبية، المُعَبَّرِ عنها بواسطة الاستفتاء الدستوري، حسمت بما يشبه الإجماع وصوتت لصالح الاستقرار والتحالف مع ملك البلاد في إطار ميثاق بيعة جديدة. هل أعطى المغرب النموذج لمعالجة إشكالٍ صعبٍ وهيَّأَ الأرضية المناسبة لحكام آخرين؟ إن “النقلة” السياسية الكبرى في المجتمعات لا تتحقق دائما بسلاسة، لأنها تقلق المستفيدين المقاومين للإصلاح. أصغى ملك المغرب إلى نبض الشارع وأدرك التطلعات العميقة للشعب، وانتهى إلى قناعة أن المطالب المرفوعة لا تتعارض مع توجهاته في التحديث. فخطا الخطوة الكبرى، بصرف النظر عن مطالب الشارع الذي كانت له فضيلة التسريع بمسلسل الإصلاح. سبق أن حذر مفكرون وإعلاميون عرب في الوقت المناسب من مخاطر الانزلاق نحو الاستبداد، وبينوا عواقب توريث الحكم في الجمهوريات ومنع التداول السلمي على السلطة. كان حدوث الزلزال متوقعا وحتميا، ربما ليس بالعنف والتضحيات التي رافقته. قد يستمر الحراك الاجتماعي زمنا ويصبح ظاهرة مألوفة، بوسائلِ تعبيرٍ مختلفةٍ ومتطورة، و لن يستمر بمثل الفوضى والزخم المخيف الذي طبعه خلال الأيام الأولى. سيتجه الحراك أكثر نحو المنحى السلمي. وستتيح الدينامية الجيدة اختبار قدرةِ الأنظمة على استيعاب أهداف الحراك بالتحاور معه وليس إسكاته بالقوة والقمع. أود أن أختم هذا العرض بخلاصات مفتوحة أصوغها في نقط: 1 – مهما يكن الاتفاق أو الخلاف بشأن تقييم الحراك العربي، فإنه في المحصلة ظاهرة سياسية واجتماعية إيجابية بل نقلة حضارية، ويكفي أنه حرك السواكن، ونبه إلى حتمية التغيير والإصلاح. 2 – الحراك أعاد السياسة بمعناها النبيل إلى صدارة الأحداث وأحرج السياسيين التقليديين وساءل الأحزاب بمختلف توجهاتها. 3- الحراك دليل على صحوةٍ وجدليةٍ منتظمة تحدث في المجتمعات بين الفينة والأخرى. يمكن القول إن العالم العربي عرف معه “ثورته العربية الكبرى الثانية”. 4- وبفضل الحراك تم ربط العالم العربي بالعالم المتقدم من خلال شبكة الاتصالات والإعلام الحديثة، ورفع درجة اهتمام الناس بما يحدث وأدمجهم في نقاش شامل يهم حاضرهم ومستقبلهم. 5 – كما يحدث في أي حراك عفوي وغير منظم، فإن حصيلة الخسائر ترتفع، حيث تلجأ الأطراف إلى العنف. لكن هل يتحمل المحتجون الشباب مسؤوليته وحدهم أم الاستبداد السياسي الأصم؟ 6- سيدعم حراك الشباب “قوة المجتمع المدني” في الدول العربية، بل هو ملاذه وخيمته. إذا ابتعد الشباب عن هذا النطاق، فإنهم سيعزلون نفسهم بدون حلفاء. هذه بعض إيجابيات الحراك، فأين تكمن مخاطره وما هي التوقعات؟ إن الفوران الشعبي القائم في صورة اشتباكات دموية عنيفة بين المتظاهرين والمدافعين عن النظام، قد يتطور إلى حرب أهلية وبينية واسعة. توجد بوادر هذا الانزلاق في تحركات تنظيم القاعدة الإرهابي، ما ينذر بتوسع دائرة الصراع وبروز دواعي جديدة تبرره مثل المشاكل العالقة بين الأقليات. ولذلك فإني أميل إلى الاعتقاد أن الحراك الهادئ العقلاني، سيؤدي إلى قيام مؤسسات ديمقراطية لمواجهة تحديات اقتصادية كبرى. ذلك أنه من الصعب التوفيق بين البناء السياسي والانهيار الاقتصادي في وقت واحد. لكن ما أخشاه أكثر، هو عودة الاستعمار الجديد، وممارسةُ وصايتِه الكاملة على مقدرات الأوضاع العربية، ما يمكن أن يترتب عنه من ردود أفعال قوية صادرة عن الحكومات الوطنية التي ستنبثق عن الصراع الراهن، فيحدث الصدام مجددا مع الغرب. وبذلك سيدخل العالم العربي في دوامة صراع طويل تتشوق إليه دول في الجوار العربي ذات مطامع معلنة في لعب دور إقليمي أكبر من حجمها، تسعى لتحقيقه بوسائل يطول الحديث عنها الآن. ما يوجب على الغرب إعادة النظر في المعادلة الإستراتيجية والسياسية. كيف هي صورة المستقبل؟ لا أحد يدري. ولكنها ستكون حتما بخلاف الماضي. أعتقدُ أن حراكاً اجتماعياً عقلانيّاً ومعقولاً وحدَه من شأنه أن يُؤديَّ إلى إقامةِ مؤسساتٍ ديمقراطيّةٍ قادرة على إقرارِ حكمٍ رشيدٍ يُؤمِّن حريةً حقيقيةً، وعدالةً اجتماعية، وتنميةً اجتماعية واقتصادية مُستدامةً ما سَيستفيدُ منه كلّ فئات الشعب. إنه ربما حُلمٌ. ولكن ألمْ تكنْ بداية كلِّ الثورات الحقيقيةِ حُلماً؟