الليبيون يسحلون القذافي بعدما أخرجوه من نفق كالجرذ. في صورة أشبه بالجرذان، خرج معمر القذافي من نفق لتصريف المياه بمدينة سرت، بعدما اختفى عن الأنظار طيلة ثمانية أشهر شن خلالها حربا شرسة ضد شعبه. كانت آخر كلماته أن تساءل عما يحدث: “خير، خير. شنو في؟”، كأنه لم يصدق أن نهايته كانت تدنو، بعدما حكم ليبيا بقبضة من حديد طيلة اثنين وأربعين عاما. وقد جاء موته على أيدي الثوار، الذين لم يرحموه، وهم ينفذون فيه حكم الإعدام، حيث سحلوه ومثلوا بجثته، ورقصوا فوقها، مثلما فعلوا بابنه المعتصم، ورئيس أمنه أبو بكر يونس جابر. الورقة، التي ننشرها هنا، منقولة عن مجلة “باري ماتش”، ترصد آخر اللحظات في حياة حاكم طرابلس المطلق و”ملك ملوك أفريقيا”. كما تقدم صورا عما فعله الثوار بجثة الطاغية المجنون، بعدما دانت بلاد المختار لليبيين من جديد: لم يقرر القذافي الفرار، إلا بعد أن سمع لعلعة الرصاص، وهي تنفجر على جدران بيته. قبل ذلك، كان يريد أن يقاوم. فالعقيد المخلوع، الذي كان يختبئ في “الحي الثاني”، الواقع في قلب مسقط رأسه سرت المخربة تحت وقع التفجيرات، دون مأكل تقريبا، وبقليل من الماء فقط، ظل يعتقد، طوال أسابيع، أنه يستطيع أن يلملم الصفوف استعداد لرد الهجوم. لكن لعلعة الرصاص كانت تقترب أكثر فأكثر، حيث لم يعد أنصاره يسيطرون سوى على دائرة مغلقة من البيوت، ينتابهم الخوف من ضربة جوية ينفذها حلف الناتو. لم يتعد أنصار القذافي، الذين كان يقودهم المعتصم، وهو أكثر أبنائه تشددا، خلال الأيام الأخيرة، مائة شخص يشكلون آخر مربع من أوفيائه. إذ كانوا يشكلون، بانتشارهم بين الأنقاض وفوق سطوح عمارات بقيت سالمة من الهجوم، الحلقة الأخيرة، التي تصد هيجان الليبيين الانتقامي. فمساء يوم الأربعاء، شحن المعتصم السيارات بالأسلحة والمحروقات بغية محاولة خلق نافذة للفرار، حيث وضعت كل سيارة في ساحة، أو أخفيت بالأنقاض. وفي الصباح الباكر ليوم الخميس 20 أكتوبر، فرّ رتل من السيارات. إذ كان المقاتلون المدججون بالأسلحة يحاولون التسلل بين خطوط الثوار، بينما لا يزال هؤلاء يغطون في النوم. “السيارة التي ركبتها رفقة القذافي كانت في مؤخرة القافلة. لم تكن سيارة “تويوتا لاند كروزر” تتميز عن باقي السيارات سوى بصفائح خفيفة”، يقول منصور الضو، الساعد الأيمن للدكتاتور وأحد الناجين من الحملة. ودون أن تطلق النار، استطاع الرتل الخروج من وسط المدينة. لكن إذا كانت الخطوط الأولى للثوار، الذين أنهكتهم أسابيع القتال، لم ينتبهوا إلى مرور الرتل، إلا أن طائرة أمريكية رصدت الرتل، الذي يحاول التسلل. كان يأمل الوصول إلى القرية، التي شهدت ميلاد القذافي، هناك حيث رأى النور، كما تقول الرواية، تحت خيمة بدو، على أطراف الصحراء، منذ تسع وستين سنة. لكن الطائرة الأمريكية ستصوب صاروخا نحو القافلة، التي في طريقها بضاحية سرت، لتصيب ثلاث سيارات. ولم يكن حلف الناتو يعرف ما إذا كان الأمر يتعلق بقافلة القذافي، غير أن الصاروخ أخطأ سيارته. بينما أصيب منصور الضو بشظاياه. عقارب الساعة تشير إلى التاسعة صباحا. كان الثوار متأهبين. اختار رتل القذافي، لسوء حظه، أن يسلك طريق الجنوب، آملا بلوغ الصحراء بغية عبورها نحو الطوارق. بيد أن جنوبالمدينة كان يخضع لسيطرة الثوار القادمين من مصراتة، تلك المدينة الساحلية التي انقض جيش الدكتاتور وأخضعها لسيطرته طيلة شهور. إذ أضحى الناجون من الموت أشرس المقاتلين في فيالق الثورة، حيث هم من غلّب كفة المعركة في طرابلس، وهم من طرد القذافي من عاصمته خلال شهر غشت الماضي. فالثوار، الذين كانوا يطلقون على المدينة اسم “المدينة الشهيدة”، يفضلون الآن تلقيبها: “مصراتة صانعة الرجال”. ففي مصراتة يبقي الثوار القبطان منصور الضو تحت حراسة مشددة، حتى لا تقتله الحشود، مثلما فعلت بالمعتصم، الذي قبض عليه حيا يوم الخميس، والذي ترقد حاليا جثته المشوهة، إلى جانب جثة والده. وقد قبِل قبطان التقيناه خلال حصار مصراتة في أبريل الماضي أن نلتقي بمنصور الضو. فهذا الأخير، رئيس الحرس الشعبي بدون منازع، والرجل الثالث في النظام الذي حكم طرابلس، كان واحدا ممن ينشرون الرعب داخل نظام القذافي. إذ ما يزال قادة الثوار يتحدثون عنه بقليل من الخوف، وبالاحترام اللازم لعدو لم يستسلم بعد. لقد عالجوا الرجل العجوز، بعدما مقتوه كثيرا،، وهم يؤكدون أن سيضمنون محاكمته محاكمة عادلة. صرح الملازم الوفي ببعض نتف من حقيقة الأسابيع الأخيرة من حياة الطاغية. يروي منصور قائلا: “قيل إنني غادرت البلاد نحو النيجر بعد سقوط طرابلس. لكن القول خاطئ. لقد ظللت أرافق القذافي. وخلافا لما ظن كثيرون، لم يبق في حوزة المجموعة مال، ولا سبائك ذهب. يؤكد منصور بقوله: “غادرنا طرابلس في أسرع وقت ممكن، بحيث لم نأخذ معنا ما يمكن أخذه”. بعدما انسحب القذافي إلى بني وليد الواقعة جنوب العاصمة على بعد مائة وسبعين كيلومترا، ودع عائلته أواخر شهر غشت الماضي. تسللت زوجته في قافلة، مصحوبة بابنتها واثنين من أبنائها اللذين لا يشاركان في القتال، نحو الجنوب، ساعيا إلى بلوغ الحدود الجزائرية. بينما مكث ابنه سيف الإسلام، الذي يعتبر أهم أبنائه، في مكانه بغية إعادة تنظيم صفوف المقاومة. أما القذافي، فقد غادر إلى سرت مباشرة، يحرسه ابنه المعتصم وحارسته البريتورية. “منذ شهور نطالبه بالتنحي ومغادرة ليبيا. لكن لم ينظر في أمر الرحيل ولو لثانية”. إذ ظل يختبئ في بيوت متفرقة في سرت “لأنه لم ثمة أي حصن”، ولم تعد المجموعة تطلع على أخبار الخارج. أما رجال المعتصم، فكانوا يقودون مقاومة في المحيط، لكنهم لا يقتربون أبدا من القذافي. “كنا نملك هاتفا متصلا بالأقمار، لكن لم نستعمله، حتى لا يرصدنا الأمريكيون”. في آخر بيت، لم يتجاوز عدد المحيطين بالزعيم اثني عشر شخصا. وعندما جرح الطباخ بسبب صاروخ، كانوا يتناوبون على إعداد المأكولات، التي تمثلت في حصص أرز ومعكرونة. إذ سرعان ما بدأ يشح الغذاء. يقول منصور، وهو يروي كيف انتهت المجموعة إلى الاكتفاء بأكل الخبر والماء المحلى: “ظل القذافي سيدا، لكن بقينا متساوين في البيت. كان الزعيم يقرأ القرآن، ويكاد لا ينبس ببنت شفة.” بقي القذافي، طوال أسابيع، مقتنعا بأنه سيجمع رجال قبيلته القذاذفة، ويستعيد السلطة. ففي سرت، كان عددهم حوالي 400، يراقبون وسط المدينة. لكن كان العدد ينقص. وفي كل ليلة، يهرب اثنان أو ثلاثة. “لقد تخلى عنا القذاذفة. كانوا يغادرون المدينة رفقة زوجاتهم، متظاهرين بأنهم مديين”، هكذا يتذكر منصور تلك اللحظات. ولم يدرك القذافي فداحة خسارته إلا عندما في مستهل أكتوبر، عندما وصل الوار إلى وسط سرت. “انطلاقا من هذه اللحظة، كان الأمر قد انتهى، حيث كان ينتظر الموت”. غير أن ابنه المعتصم رفض أن يموت مستسلما. فهو الذي أقنع والده، صباح الخميس، بركوب القافلة الأخيرة. واستطاع الرتل أن يتقدم، رغم كثافة الرصاص، مئات الأمتار بعد ضربة الطائرة الأمريكية. إذ حاولوا أن يسلكوا طريقا مختصرا نحو الطريق الكبرى عبر فلاة رملية. وعلى مشارف المدينة، بضاحية مزرعة الزعفران، على بعد خمسة كيلومترات من وسط المدينة، وقعوا فريسة كتيبة النمر، وهي إحدى أشرس الوحدات المقاتلة في مصراتة، حيث حاصرهم الرجال تحت وابل من الرصاص. حينها شكلت القافلة دائرة لحماية زعيمها. دامت المعركة الضارية حتى منتصف الصباح، حيث سقطت أشجار الأوكاليبتوس، وتكسرت جذوعها إلى النصف تحت ضراوة المعركة. ونظرا لنقص الذخيرة، طلب الثوار تعزيزات كتيبة أخرى، تسمى كتيبة الخيران، التي التحقت بساحة الوغى من إحدى ضواحي مدينة مصراتة. وكان على الوحدة الثانية، غير المجهزة بشكل جيد، من دون زي موحد، أن تضرب حصارا على المنطقة قبل أن تبدأ تمشيطها. كانت الساعة تشير إلى الساعة الحادية عشرة قبل أن تتدخل الطائرات الفرنسية التابعة لحلف الناتو. يتذكر منصور الضو “أنهم أطلقوا قنبلتين وسط فيلقنا، وهو الأمر الذي خلف مجزرة”. وهو يرقد حاليا على سرير ملطخ، في بيت بمصراتة حولوه إلى سجن، يبدو وجه هذا الرجل الوفي، إلى جانب أوفياء آخرين، منتفخا بسبب الشظايا، وجروح عديدة ظاهرة على ظهره وساعده. يشرح منصور أن “السيارات احترقت لأنها شحنت بالبنزين والذخيرة”. ففي مزرعة الزعفران، يستطيع المرء أن يرى الحفرة الكبيرة، التي خلفها انفجار أحد الصواريخ الفرنسية في الرمال. إذ لا تزال بعض الجثث مضرجة داخل بعض السيارات، متفحمة في وضعيات شنيعة، في الوقت الذي كانوا يحاولون الفرار، حيث خلف رجل منزوع القدمين وراءه سيلا طويلا من الدماء، وهو يحاول الابتعاد عن نيران الرصاص، في الوقت الذي كانت تنفجر صناديق الذخيرة. لفظ أنفاسه بعيدا عن المكان، بعدما جحظت عيناه من الألم. في قلب المدينة، كان الثوار قد وضعوا جثث أربعين قتيل في أكياس واسعة مصنعة من قماش أبيض. ورغم رائحة العفن وسحابة البعوض، إلا أن علي العزلي، المقاتل المنحدر من مدينة بنغازي، يفتحها من جديد لإلقاء نظرة على كل وجه من وجوه القتلى، التي أكلها الذباب. يقول مفسرا هذا الفعل: “لست أفعل ذلك من أجل متعة. فأنا أبحث عن ابن عمي. كان طبيبا أخذ أنصار القذافي درعا بشريا خلال تقهقرهم إلى الوراء”. كان القذافي، الذي أصيب بجرح في الرأس أثناء الانفجار، ينزف كثيرا. كان يستطيع الوقوف، لكنه لم يقو على الجري. تخلى عنه ابنه المعتصم، وبقية الرجال، بغية الهرب مشيا على الأقدام، حيث كان ثوار “كتيبة النمر” يقتفون آثارهم. ظل منصور الضو مع سيده. “أسندته على كتفي، ثم بدأنا نحث الخطى بين الأشجار”. ولم يعد برفقة الزعيم سوى أبو بكر يونس جابر، رئيس أمنه الخاص، ولفيف من الحرس الشخصي. عندما ساروا 140 قدما نحو الشمال، انطلاقا من موقع الضربة الفرنسية، تمكنوا من اكتشاف طريق عالية وواسعة. “كنا نرى ثوارا آخرين يتقدمون نحونا، وهم يصوبون علينا برصاصاتهم. أدخلت القذافي في النفق قصد حمايته”. يتعلق الأمر، في الواقع، بأنبوبين كبيرين لتصريف المياه، موضوعان تحت الطريق. دخل بكر يونس جابر في الأنبوب الأيسر، بينما أدخل منصور القذافي في الأيمن. يتابع منصور قوله: “لكنه كان ضيقا بالنسبة لنا نحن الاثنين. هكذا انقبلت على عقبي راجعا، بينما كان هو يتقدم، زاحفا على أربع، نحو المخرج الآخر”. أضحى الدكتاتور، بعد اثنين وأربعين من السلطة المطلقة، وحيدا الآن، مثل جرذ داخل هذه البالوعات، التي زعم إن الثوار خرجوا منها قبل بضع شهور. على الطريق، كان مقاتلو الوحدة الثانية، كتيبة الخيران، تنظف البلد من آخر أنصار القذافي. إذ يروي زعيمهم عمر شيباني، البالغ من العمر 37 سنة، الذي كان يشغل منصب مهندس المحروقات قبل الثورة أن “الرصاص كان لا يزال يلعلع في هذه اللحظة”. حرس القذافي في زي مدني، لكن عمر لا يعرفهم. “وضع أحدهم وشاحه على سلاح الكلاشنيكوف، بغية الاستسلام. لكن عندما اقتربنا منه، أرداه الآخرون قتيلا، وأطلقوا الرصاص فوقنا”. ولإنقاذ حياته، اختار الخيانة. “قال لنا: ‘سيدي. سيدي، موجود في الحفرة'.” ظن عمر، الذي لم يدرك بمن يتعلق الأمر، أن الموضوع يهم ضابطا ما. إذ يقول: “في معركة كهذه، لا يمكن أن نتحقق من كل شيء. لكن هنا، قررت إرسال مجموعة بغية تفتيش المكان”. هكذا كانت آخر كلمات الدكتاتور: “خير، خير. شنو في؟” اقترب ستة رجال من مخرج الأنبوبين. إذ يقول نبيل درويش، الميكانيكي البالغ من العمر 24 سنة: “صراحة، انتابني الخوف”. وباقترابهم من الأنبوب الأيمن، أطلق بكر يونس جابر، رئيس الأمن، رصاصات على الرجال الستة، لكنهم فأردوه قتيلا. يشرح عمران شعبان، الطالب المتخصص في الكهرباء، البالغ من العمر 21 سنة: “ثم اكتشفت أن ثمة شخصا في الأنبوب الأيسر، مسالم لا يطلق النار، حينها ذهبت إلى هناك حيث هو”. دخل الشاب النفق. وهنا يروي أحمد غزال، بائع الكباب، البالغ من العمر 21 سنة، والذي كان يحرص المدخل: “سمعناه يصرخ: ‘أنا معمر، أنا معمر'. لم أصدق الأمر. داخل العتمة، انتزع عمران شعبان بسرعة المسدس من يد القذافي اليمنى، دون أن يطلق هذا الأخير النار. “جررته من طوق قميصه إلى الخارج”. بقي في مسدس القذافي، وهو من نوع ‘سميث أند ويسون”، ثلاث رصاصات من ستة. ورغم أنهم ألقوا القبض على الطاغية، إلا أنهم ظلوا مندهشين أمام سجينهم. وهم يعرضون الآن، في بعض مقرات مصراتة بعضا من غنيمتهم: مسدسا ذهبيا مزخرفا كان يضعه القذافي في غمد على خاصرته، وسلاحا من نوع كلاشنيكوف، وبندقية رشاشة من نوع ‘إف. إن. فال' وجدت داخل النفق، بالإضافة إلى الزوج الأيسر من حذاء الدكتاتور. يقولون إن القذافي، شأنه شأن منصور الضو، لم يكن يعاني سوى من جرح غائر على الجهة اليسرى من الرأس، ناتج عن الانفجارات. يذكر محمد لهويك، رئيس مجموعة الستة، الذي قاد القذافي إلى سيارته بغية نقله من هذا المكان: “كان ينزف دما، ولم يبد أنه يتحكم في رأسه”. فإذا كانت صور الفيديو، التي التقطت بالهواتف المحمولة، وانتشرت بسرعة البرق على المواقع الإلكترونية، تكشف مشاهد إعدام متعسف، فإن محمد لهويك والآخرين يؤكدون أنهم لم يصوروها. ومثلما تكشف الصور، يمكن أن نستنتج أن القذافي كان يطلب الرحمة. لكن كلماته الوحيدة الواضحة، التي نطق بها أثناء اعتقاله- حيث تتفق رواية الستة حول هذه النقطة- جاءت قبل هذه اللحظة؛ أي وهو خارج من النفق. يروي عمران شعبان: “رف بجفنيه، ثم رمقنا. بدا تائها، حيث قال لنا: ‘خير، خير. شنو في؟'” هكذا قال الطاغية كلماته الأخير باللهجة العربية الليبية. المآل غامض. “ليس ثمة أي إطلاق نار في هذه المرحلة”. هذا ما يؤكده القبطان عمر شيباني، رغم أن سلطات المجلس الوطني الانتقالي أعلنت، فيما بعد، أن الطاغية ربما قتل برصاصة طائشة في اللحظات الأخيرة من المعركة. فمحمد لهويك، الذي نراه في عدد من الأشرطة وهو يحاول حماية القذافي من الحشود الغاضبة، يصرح أنه لم يكن واعيا تمام الوعي بأنه وضع الطاغية داخل السيارة. إذ لا يريد، ولا رجاله أيضا، أن يكشفو مصدر الرصاصتين اللتين تلقاهما على رئته اليمنى. إنهم يؤكدون، وهم يتملصون بنظراتهم، أنهم لا يذكرون اللكمات والركلات، التي نراها تنهال على القذافي في أشرطة الفيديو الرائجة سرّا في مصراتة، ناهيك عن الأيدي التي نتفت خصلات شعر رأس الدكتاتور الراكع على ركبتيه، وهو يتقيأ جلطات دموية كبيرة. بل إن ثائرا شابا يؤكد، في شريط فيديو آخر، أنه أطلق رصاصة على الأسير من قريب. هنا يبين محمد لهويك، الذي يؤكد بالأحرى أنه سلمه حيا إلى أول سيارة إسعاف: “يجب أن نتفهم الأمر، فمنذ اثنين وأربعين عاما وهو يأتي أفعال أسوأ مما يأتيه الشيطان. بالنسبة لنا، فهو لم يعد إنسانا”. وفي حوالي الساعة الثانية عشرة والنصف نهارا، رأت الصحافية المصورة “هولي بيكيت” سيارة الإسعاف تمر محاطة بالحشود. تقول الصحافية المصورة: “كان الثوار محتشدين في الداخل، كان بعضهم يجلس على القذافي. قالوا إنه كان ميتا، لكن لم أتحقق من الأمر”. وقد رأت الصحافية المتعاونة الأمريكية السيارة تصل إلى أول مستوصف. وعوض إخراج القذافي، ظل المسعفون الثوار يطوفون بالسيارة في المرآب، ثم ذهبوا به إلى مستشفى ثان، يبعد بخمسين كيلومتر، ويقع على طريق مصراتة. هكذا، لن يتوقفوا إلا عند أطراف المدينة الساحلية، أمام سوق العرب، حيث وضعوا زوال الخميس جثة القذافي داخل غرفة كبيرة مخصصة لتبريد اللحوم. إذ يمكننا أن نرى مئات الليبيين يصطفون، في صمت، أمام الجثة، التي بدأ الاصفرار يغزوها. كانت الجثة موضوعة على سرير قديم، عارية الجذع، تملؤها ندوب وكدمات، وبجابنها جثتا ابنه المعتصم وأبو بكر، رئيس الأمن، وهما مشوهتان تماما. أكد المجلس الوطني الانتقالي أنه سيسلم جثة الزعيم إلى عائلته. لكنهم يرومون جميعا دفنه بسرعة في مكان ما من الصحراء. في الوقت الذي أعلنت رسميا الحكومة الانتقالية، يوم الأحد، تحرير ليبيا بالكامل، بفضل الليبيون أن يشهدوا اختفاء بقايا القذافي نهائيا... وأمام النفق، الذي شهد آخر لحظات حياة القذافي، يتسابق الثوار، فرادى وجماعات، بغية التقاط صور لهم. إذ يقف أحمد عماري، وهو حلاق شاب من مدينة بنغازي، أمام النفق، بينما أصدقاؤه يصورون المشهد، وهو يحمل رشاش الكلاشينكوف في يد، والهاتف النقال في اليد الثانية. يتوجه أحمد بالخطاب إلى الرئيس السوري بشار الأسد، الذي يغرق الثورة الشعبية السورية في الدم: “انظر إلى هذه الحفرة يا بشار. هنا ينتهي الطغاة. وأنت القادم”. ترجمة: محمد جليد