أستاذ الدراسات الإفريقية بجامعة محمد الخامس السويسي الرباط للأحداث المغربية : * نظام القذافي لم ينتج دولة واعتمد سلطة القهر والغلبة بمعناها الوسيطي * التنوع القبلي وغياب العمل السياسي والنقابي والجمعوي عراقيل حقيقية تنتظر الدولة الجديدة * الأجندات الخارجية و التناقضات الداخلية تهدد وحدة المجلس الانتقالي الليبي في المستقبل * ضبط التجمعات المسلحة و نزع السلاح وترتيب الأجهزة العسكرية والأمنية ضرورة آنية أمام المجلس الانتقالي * نود أن تقدم للقارئ وصفا للتركيبة القبلية الليبية وأثرها في تشكيل فسيفساء الكيانات السياسية السابقة ؟ ** يتكون المجتمع الليبي من عدة تشكيلات اجتماعية وثقافية يمكن تقسيمها بشكل ملخص إلى ثلاث : العرب والأمازيغ والزنوج الأفارقة، على أن هذه التجمعات تعرف أيضا تنوعا وتعددا لغويا ولسانيا وثقافيا. ويصعب في هذا الإطار وضع جدول للتقسيم القبلي بالمجال الليبي، علما بأن النقاش مطروح حول ماهية نظيمة القبيلة في الشمال الإفريقي، ومدى تطابق هذا النعت أنتربولوجيا مع التجمعات السكانية، بمقابل ذات النعت والصفة في المجالات الأسيوية والأوربية والشرق أوسطية، ومع ذلك، وتجاوزا للإشكال الاصطلاحي وباستعمالنا مجازا لمصطلح القبيلة، فليبيا في هذا الإطار تعيش نوعا من ازدواجية الانتماء، المجتمع الأصلي الأبوي المتمثل في القبيلة والسلالة المفترضة، والانتماء إلى ما يحدد في الوطن الليبي على مستوى الهوية والجنسية، مع غلبة الانتماء الأول عند مناقشة الشأن الداخلي. وعليه يمكن النظر إلى ليبيا على أساس أنها تشترك مع كافة دول المغارب في تعدديتها الثقافية واللغوية والإنسانية، بضمها لمجموعة أصلية هي الأمازيغ، يأتون في مرتبة ثانية بحكم عمليات التعريب والاختلاط مع المكون العربي، ويتكونون من ثلاث مجموعات أمازيغ الشمال الغربي في جبل نفوسة، وهو ما كان يسمى في عهد الجماهيرية بالجبل الأخضر حيت المجتمع هناك ما زال متماسكا ملتحما الغالب عليه اللغة الامازيغية باللهجة النفوسية وهي قريبة لما نعرفه في المغرب والجزائر، مع سيطرة المذهب الأباضي فهم على ذلك ليسوا من السنة في الغالب، وهناك المجموعة الثانية من أمازيغ غدامس في الجنوب والمجموعة الثالثة هي المكونة من الطوارق، ولكل لهجته الخاصة مع تداخلات وتشارك يجعلها ضمن الامازيغية عموما، والمجموعة الدخيلة هي الغالبية من المعربين والقائلين بانتمائهم إلى قبائل عربية 80 % هم في الأصل مستعربون عبر التاريخ. كما أن العكس صحيح في بعض الأحيان أيضا. فالمجموعة المسيطرة هي القبائل القائلة بانتمائها العربي وهي مسلمة سنية، تتكلم مختلف اللهجات الليبية العربية والمختلطة كعربية فزان وطرابلس وما هو أقرب إلى تونس أو مصر وحتى الحسانية. وهم يتكونون من عدة فرق أهمها في الوقت الحالي: المقارحة، القذادفة، ورغلة، وهذه القبائل بشكل متفاوت هي المسيطرة على الأمور السياسية والأمنية والاقتصادية بتراتبية علاقتها بالسلطة : القدادفة أولا والمقارحة (مع تشديد القاف) ثانيا، رغم صراعهم مع الأولى والورغلة وتاريخهم العميق ثالثا. والمجموعة الأخيرة والثالثة هي أقلية من السودانيين الأفارقة المسلمين السنة، خاصة من التوبو والزغاوة وهم يعيشون كثيرا من التمييز والإقصاء وعدم الاعتراف. ويشكل هذا التقسيم الاجتماعي والثقافي العمود الفقري للسلطة في المجال الليبي عبر التاريخ. وهو ما لم تستطع أو تريد الدولة الوطنية، غير المكتملة والتي أنشأها السنوسي إدريس الأول وبعده معمر القدافي في انقلاب 1 شتنبر 1969 أن يؤسسا له. وقد قام العقيد القذافي طيلة أيام حكمه باللعب على التوازنات، حيث رفع مجموعته القذادفة بعد أن كانت ضعيفة العدد والقوة إلى المرتبة الأولى، وأسند لها كافة الأمور الأمنية مع سيطرة على الاقتصاد وشاركها في بعض ذلك مع القبيلتين القويتين من المقارحة وأهل ورغلة. وعليه يمكن القول بان النظيمة الوسيطية والما قبل رأسمالية للدولة استمرت في القطر الليبي إلى أيامنا هذه دون كبير تطور على الأقل في مستوى بنيات الدولة التنظيمية. * في ظل هذه الظروف، كيف أمكن لنظام القذافي أن يسيطر على ليبيا لأربعة عقود كاملة ؟ ** تمت سيطرة القذافي كما هو معلوم عبر انقلاب عسكري على النظام الملكي لأسرة السنوسي، وكان ذلك في مرحلة سيطرة النظيمة الناصرية على المجال العربي ومن المحتمل أن يكون لنظام عبد الناصر بعض المسؤولية في حركة القذافي. هذا الانقلاب لم يكن له أن ينجح لولى أنه جمع قيادات من مختلف القبائل القذافيين والمقرحيين وغيرهم، كما أنه أسس نظامه على نوع من العقاب الجماعي، فكلما عارضه فرد من مجموعة معينة إلا وأنزل العقاب بكامل المجموعة خاصة إبعادها عن المصالح الأساسية ومختلف الاستفادات ومواقع القرار والعكس صحيح. والغريب أن ذلك تم بقرار صادقت عليه اللجان الشعبية في مارس 1997 ، علما أن العمل به تم منذ بداية العهد القذافي. ونفس الشيء كانت تقوم عليه كافة المصالح الإدارية والاقتصادية فالوظائف والمسؤوليات والامتيازات كانت تعطى، بعيدا عن التفوق والأهلية والاستحقاق، إلى من أثبت ولائه للعقيد ونظامه، وقد عمل العقيد على ضمان استمرارية هذه التشكيلات حتى في المدن، مع ما يستدعي ذلك من حضور المدنية والتحضر، حيث ظل النظام التعليمي متخلفا بالمقارنة مع دول الجوار مصر وتونس مثلا، رغم القوة الاقتصادية لليبيا، ونفس الشيء يلاحظ في شأن البنيات التحتية ومختلف البنيات الصحية والاجتماعية. السؤال المطروح حاليا هل فعلا أنشأ العقيد القذافي دولة أم إنشاء نظاما خاصا به، لم يرد له أن يتطور ليصل إلى الدولة ؟ فالدولة الوطنية بالمنظور اليعقوبي وبحسب النظريات الحديثة غير منطبق على ليبيا، كما أن النموذج المغاربي التاريخاني لدولة ما قبل الاستعمار غير حاضر هو أيضا. وقد كان ذلك إراديا من لدن العقيد الذي أنجز لنفسه سلطة تقوم أولا على القهر والغلبة بمعناها الوسيطي. كما تقوم ثانيا على تحكمه في الثروة والمال والقوة، من خلال توزيع البعض منها أو تمريره أو توكيله ليتحكم في المجموعات البشرية التي أبقاها على نمطها الاجتماعي الما قبل رأسمالي. وقد سعى القذافي إلى ابتداع نمط تشاركي في الظاهر، به مزيج من الفوضوية والمشاعية غير المعلنة وغير المرتكزة على بنية فوقية وأدلوجية، بل هي عبارة عن ترهات وأحلام مفادها الحقيقي نظام قريب من الديكتاتورية، وهو أساسا سلطوية مطلقة مبنية على الأنا غير الواعية وغير المؤدلجة والتي ربما عانت من نوع من المانخوليا والبرانويا. * في أفق تشكل الدولة الجديدة في ليبيا إثر إحراز الثوار لمكتسبات مهمة على الأرض، كيف سيتم توظيف البعد القبلي في المعادلة السياسية الجديدة ؟ ** المسألة مرتبطة بالنظام الذي سيؤسس له المجلس الانتقالي والسلطة التي ستعقبه. وهذا يتطلب أولا معرفة الفرق والاتجاهات الأديولوجية والاجتماعية التي تتحكم في المجلس الانتقالي من جهة، وما يسمى بالثوار والمنتظر انضمامهم في المستقبل القريب في ما يشار إليه بالجيش الوطني والأجهزة الأمنية الوطنية. لأن الظاهر أنه ليست هناك وحدة بين هذه الفئات سوى مطلب إسقاط القذافي، بينما هناك عدة اختلافات بين الانتماءات والرؤى : من الإسلامي الاجتماعي المعتدل ويمثلهم مصطفى عبد الجليل رئيس المجلس الانتقالي، القاضي ووزير العدل السابق في نظام القذافي، إلى الليبراليين إلى الوطنيين القوميين إلى الإسلاميين المتشددين إلى الأمازيغ الأباضيين والأمازيغ السنة، مع العلم أن الامازيغ عانوا بكافة تشكيلاتهم الأمرين أيام العقيد، الذي منعهم من هويتهم التي نزعها عن المجال الليبي كلية. أضف إلى ذلك الحضور الدائم للنظيمة القبلية التي تخللت المدن والحواضر كما أنها تتحكم أيضا في المجموعات الثورية، والحل في نظرنا هو ضرورة طرح بناء مجتمعي جديد يدعو إلى التعددية الثقافية والدينية في إطار حوار وطني مرحلي، مع اعتماد نوع من المصالحة الوطنية والعدالة الانتقالية، في إطار زمني متوسط، بعيدا عن كل تسرع، وقد ينجح المشروع في حال أحسن استعمال إيرادات البترول والغاز في إعادة ترتيب البنيات التحتية والتعليمية والصحية مع احترام الجهوية الثقافية ومنحى الحكم الرشيد. كل هذا في ظل ضرورة حضور الدعم المغاربي، لأن استقلال واستقرار المجال الليبي من استقرار دول المغرب والساحل والصحراء والمتوسط. ويبقى مع ذلك أيضا دور الأجندة الخارجية وهي متعددة منها : الأمريكية والتي ما زالت تبحث عن بناء الشرق الأوسط الكبير، والفرنسية وعودتها إلى شرق المغرب وتعويض خسارتها المرحلية والقيمية لتونس، والأجندة التركية المقربة من الأمريكية والتي تبحث عن طرح النموذج الليبرالي للحكامة الإسلامية في مواجهة مع النموذج الإيراني، وأخيرا الأجندة الجزائرية المدعومة من لدن جنوب إفريقيا والمسيطرة على الاتحاد الإفريقي والتي يحرجها التحول الإيجابي في الغالب الذي تعرفه مجتمعات المغاربية. * إلى أي حد يعكس المجلس الانتقالي الذي يشكل نواة السلطة المقبلة في ليبيا هذا التنوع القبلي ؟ ** لحد الآن لا نعرف التشكيلة الكاملة لهذا المجلس إلا العشرة الأوائل، ولا نعرف انتماءاتهم السياسية والاقتصادية أكثر منها القبلية، مع ملاحظة غياب القذادفة رغم وجود البعض منهم في إطار الدعم وليس المشاركة. لكن المشكل يكمن في أن جل أو بعض أعضاء المجلس من الداخل هم أساسا أعضاء في النظام السابق القديم. كما أن ما حصل في ليبيا ليس ثورة حقيقية فهي قلب للأوضاع، وهي انتفاضة مسلحة بدون أدلوجة سوى تغيير النظام بعيدا عن كل رؤية مستقبلية أو مشروع جاهز متفق عليه. ويتزعم هذا الوضع عناصر من النظام القديم ومجموعات متنازعة وغير موحدة مرتبطة بانتماءات قبلية ومجالية إضافة إلى أنها مسلحة وأضحت قادرة على مساومة دعمها للمجلس الانتقالي وأي سلطة مستقبلية. وعليه فالوضع لا يطمئن في ظل غياب أي مشروع مجتمعي. * كيف سيتعامل المجلس الوطني الانتقالي مع هذا الوضع ؟ ** هناك حاليا نوع من الأجندة التحضيرية والتي تتراوح بين ثمانية أشهر وسنة ونصف لأجل انتخاب مجلس تأسيسي، سيتكفل بإنجاز الدستور الجديد والإشراف على انتخابات مستقبلية. لكن هذا يطرح إشكالية غياب التجربة السياسية والعمل الجمعوي والحزبي في المجال الليبي منذ 1969، وعدم تعود المجتمع على الحوار الوطني، وانحصار التجارب المحلية وقلة التفتح على التجارب الأجنبية، فإذا ما تجاوزت هذه الإشكاليات بقي التحضير وضمان الوقت لإنجاز مسار وصيرورة الديمقراطية بحكم أن القرارات لوحدها غير كافية لتغيير الوضع، علما دائما بأن الأجندات الخارجية دائمة الحضور والتأثير على المجال الليبي إضافة إلى التناقضات الداخلية. وربما أول ما يجب على المجلس الانتقالي التكفل به هو ضبط التجمعات المسلحة والإقبال على عملية نزع السلاح من يد المدنيين وترتيب الأجهزة العسكرية والأمنية مع استرجاع والاحتفاظ بالأطر السابقة وذات التجربة، كما أن عليه محاولة إعادة إدماج العناصر المسلحة أو ما يسمى بالثورية، بعد عملية تأهيلية قائمة على الاستحقاق، في النسيج الاجتماعي والاقتصادي أو الأمني العسكري. وفي مرحلة موازية لابد من إعادة كتابة التاريخ الآني لليبيا مع تنظيم الأرشيف وإعداد تصور تاريخاني للوطن الليبي لما بعد القذافي. كل هذا في ضوء نوع من المصالحة المحلية والعدالة الانتقالية المقبولة والنابعة من داخل المجتمع الليبي وضرورة الاعتراف بالتعددية الثقافية والدينية. * هل المجلس قادر على احتواء هذا التنوع القبلي في التركيبة الجديدة للدولة ؟ ** قد يكون قادرا بتوفر الدعم المادي والتوجيه السديد وبحسب القوة المعنوية لأعضائه فيما بين من هو معروف لدى الجمهور ومن لا يعرف. كما أن ذلك كفيل بالأجندة الغربية وما تنتظره من هذا المجلس في ظل التخوف المشروع من حضور القاعدة في ليبيا وأثر ذلك على استقرار المنطقة عامة. وأخيرا في ظل قدرة المجتمع الليبي على الانتظار وإعطاء الوقت الكافي لهذا المجلس وللمرحلة الانتقالية لترتيب البيت الداخلي وهو ما لا يتوفر عادة بحكم أن الشعوب المقهورة تكون في عجلة من أمرها لإصلاح حالها. * في ظل هذا الوضع المعقد ما هي المخاطر التي تهدد تأسيس الكيان الجديد للدولة الليبية ؟ ** التخوف المتوقع، ومظاهره بدأت بالفعل، هو عدم قدرة المجلس على ضبط جماح المسلحين، وعلى عدم قدرته ضبط العمليات العسكرية والاعتقالات، ومشاعر الانتقام وتصفية الحسابات الضيقة. كما أن بوادر النزاع على السلطة من جهة واقتسام الكعكة الليبية تلوح في الأفق. خاصة وأن مطلب وحق الاستفادة بحكم المساهمة في القضاء على القدافي، قد يعطي للبعض الأولوية. وبذلك نكون أبعد عن كل مشروع ديمقراطي، أضف إلى ذلك أن الحضور المكثف للبنية اللاهوتية، والدينية عموما، أضفى على عملية إسقاط نظام القدافي نوعا من الإرادة الإلهية والعون الرباني، وبذالك يكتسي عمل ما يسمى بالثوار شرعية إضافية فوق الشرعية الوطنية، لدرجة أن ذلك سيمكن بعض الأطراف بالمطالبة بحقوق دون واجبات، وربما قامت بتملك الحقيقة وحينها تنتفي المجادلة والحق في الاختلاف. أجرى الحوار : سعيد نافع