«وحيث ثبت لهيئة التحكيم من دراسة مستندات الملف أن قضية السيد نايت أكرام محمد تدخل ضمن حالات الاختفاء القسري والاعتقال التعسفي... لأن احتجازه تم لأسباب سياسية حيث قضى مدة ستة أشهر بمعتقل دار المقري السري، قبل أن يطلق سراحه بدون متابعة، وذلك على إثر نزاع بينه وبين المرحوم حرمة ولد بابانا الذي كان رئيسا لمجلس النواب...». تؤكد هذه الفقرات الواردة بالمقرر التحكيمي الصادر عن هيئة التحكيم المستقلة للتعويض المترتب عن الضرر المادي والمعنوي لضحايا أو أصحاب الحقوق ممن تعرضوا للاختفاء والاعتقال التعسفي، طبيعة الانتهاك الذي تعرض له المواطن نايت أكرام، بعد أن وجد نفسه رهين المعتقل الرهيب دار المقري بدون ذنب اقترفه اللهم تشبثه بوطنيته واعتزازه بانتمائه لهذا الوطن، لتتحقق معه بذلك الحكمة الشعبية القائلة «لا تدير خير، مايطرا باس». قضت الهيئة بتعويض الرجل عن الأضرار المذكورة بمبلغ 120.000.00 درهم، لتدخل لجنة تفعيل التوصيات على الخط، وتصدر في شأنه مقررا تحكيميا، يقضي بإصدار توصية للحكومة باتخاذ كل الإجراءات اللازمة لجبر باقي أضراره، من حيث الإدماج الاجتماعي والتأهيل الصحي، مع توجيه نسخة من المقرر إلى السيد الوزير الأول، لتظل بعدها توصيات اللجنة مجرد حبر على ورق، ويظل معها الرجل يجتر آلامه وأحزانه، وذكرياته الحزينة تراوده. لا تشذ حكاية هذا المواطن الشيخ في جزئياتها عن حكايات أمثاله من المغاربة الذين أرغمتهم سلوكات بعض المسؤولين المغاربة، وعدم تعامل الإدارة المغربية بمسؤولية وجدية مع قضاياهم الاجتماعية إلى الارتماء في أحضان الأعداء، بعد أن شد الرحال إلى مخيمات العار بتندوف قبل أن تغلب صحوة ضمير صوت العقل على صوت العناد ليعود بعدها إلى دفء الوطن وفي قلبه شيء من حب مازال يعتصر الفؤاد. هناك في أقصى الجنوب المغربي ولد محمد نايت أكرام ورأت عيناه النور بأفلا إغير إقليمتيزنيت سنة 1940 داخل أسرة متواضعة لا تختلف ظروف عيشها كثيرا عن غيرها من بقية الأسر التي تجتر معاناة يومية من أجل كسب ما يقيم الأود وسط ظروف قاسية عنوانها التضاريس الوعرة بقممها الشامخة وتقلب مناخاتها، لم يكد يشب على الطوق وبتاريخ مازال محفورا في الذاكرة يعاند النسيان (أكتوبر 1959) سينتقل إلى مدينة العيون ليشتغل ثلاث سنوات بعدها ضمن صفوف عمال البلدية حين كانت المدينة ككل تقع تحت نير الاستعمار الإسباني. ظل يعمل بجد وإخلاص إلى أن تقدم منه مسؤوله المباشر ذات يوم وطلب منه نزولا عند رغبة سيده الإسباني أن يتحول إلى مخبر وينقل أخبار أشقائه المغاربة لسراديب خفافيش الظلام الإسبانية، الأمر الذي لم يرضه لنفسه ولم يقبل أن يسجل عليه يوما أنه باع أسرار مواطنيه وبني جلدته للغاصب المحتل بأبخس الأثمان، الأمر الذي جر عليه غضب زبانية الخيانة والعمالة الذين راعهم أن يتجرأ هذا «المغيربي» البسيط على رفض أمر وجه إليه ممن يعدون أنفسهم أسيادا فكان السوط والعذاب جزاءا لموقف يرفض المساومة على وطنيته والوطن. كانت تلك بداية لرحلة في دروب التيه لم يعرف بعدها نايت أكرام سبيلا للاستقرار والحياة الهنية بعد أن احتضنته دهاليز القهر والعذاب، فبعد أن أذاقه رئيسه ألوانا من صنوف العذاب لجرأته على رفض أمر التجسس على غيره من بقية المغاربة، سيسرها محمد نايت أكرام في نفسه ويشرع في ابتهال الفرصة المناسبة التي ستمكنه من رد الاعتبار لنفسه الجريحة، إلى أن تمكن من سرقة مجموعة من الوثائق اعتبرها قيمة، وستعين وطنه الأم على مقارعة الأعداء بالحجة والبرهان، حيث يؤكد أكرام ونبرات الحسرة والأسى تغالب تقاسيم الوجه التي خطتها السنوات السبعين التي قطعها في مشوار حياته المديدة أنه قد تمكن من سرقة وثائق عبارة عن رسائل متبادلة بين السلطان المغربي مولاي يوسف وسليل الصحراء الشيخ ماء العينين تؤكد على عمق الروابط التاريخية التي جمعت وتجمع بين أبناء هذه الربوع وسلاطين المملكة المغربية ليخرج هاربا لا يلوي على شيء إلى أن بلغ مدينة أكادير وعاصمة سوس العالمة، حيث تقدم من عامل المدينة بما لديه من وثائق ظنا منه أنه سيكون موضع ترحاب وحفاوة، غير أنه ما أن انقضت «ضيافة النبي» المحددة في ثلاثة أيام قضاها نايت أكرام في ضيافة العامل حتى وجد نفسه محشورا في سيارة خاصة من نوع «بوجو 403» قادته في رحلة غير مبرمجة صوب عاصمة المملكة الشريفة الرباط، حيث حظي باستقبال غير متوقع من شخصيات نافذة في هرم الدولة يحددها نايت أكرام في حرمة ولد بابانا والمدير العام للأمن الوطني وبعض مسؤولي وزارة الداخلية، حيث وجد الرجل نفسه موضع تحقيق عن مصدر الوثائق والكيفية التي تمكن من خلالها الوصول إلى هذه الثروة الوثائقية. ولأن نايت أكرام قد أخذ بهذا الموقف غير المتوقع، بعد أن وجد نفسه موضع اتهام بدل موضع الترحيب، فقد ثارت ثائرته ودخل في شنآن كبير ومشادات كلامية مع بعض الحاضرين، تبودلت فيها كل أصناف النعوت والأوصاف لم يدر بعدها صاحبنا إلا وهو نزيل المعتقل السري الشهير دار المقري، دون ذنب اقترفه أو جناية ارتكبها، ودون أن يعرف أي سبب مقنع لهذا المصير غير المتوقع، والذي سيمتد ستة أشهر عانى خلالها الأمرين. كانت فرصة أتاحت له اللقاء بمجموعة من الشخصيات التي ما كان له أن يلتقي بها لولا أن جمعته بها جدران هذه البناية التي تقشعر لذكرها الأبدان. يقول نايت أكرام باعتزاز كبير «أنا راه تعتاقلت مع عبد الرحمان اليوسفي ومع بعض الضباط المصريين اللي كانوا تعتاقلوا فحاسي البيضا وفيهم حتى محمد حسني مبارك الرئيس المصري الحالي، ومع بونعيلات وبزاف دياول الرجال لخرين». بعد شهور الأسر الستة، سيفاجأ نايت أكرام يوما بضابط يطلب منه مغادرة المعتقل، على أساس أنه قد أفرج عنه بعد أن تبين أنه بريء من أي اتهام، الأمر الذي رفضه الرجل بشكل قاطع، وطالب بتوضيح أسباب وملابسات الزج به داخل هذه الأقبية السرية، هو الذي لم يقم سوى بخدمة وطنه ولم يرتكب جرما يستحق عليه كل عذاب الستة أشهر المنصرمة. غير أنه لم يجد آذانا صاغية لندائه هذا، ليتم حمله صوب محطة وقوف الحافلات ويوضع على متن حافلة متجهة صوب أكادير حيث لم يطل به المقام كثيرا حتى شد الرحال مرة أخرى إلى الديار الصحراوية لكن هذه المرة إلى مدينة طرفاية بعد أن أصبحت العيون بعيدة المنال بالنظر لمعرفته الجيدة لما سينتظره هناك إن هو فكر في العودة إليها مرة أخرى، ومن طرفاية إلى الداخلة قبل أن يلج الحدود الموريتانية حيث جاهد في الوصول إلى الرئيس الموريتاني آنذاك المختار ولد دادة وعرض عليه قصته ومأساته مع بني جلدته، ماجعل الرئيس الموريتاني يشفق عليه ويعطي تعليماته لإنجاز وثائق شخصية وإقامة لهذا الضيف الهارب من ظلم ذوي القربى ما مكنه من الحصول على فرصة عمل بوزارة العدل الموريتانية، في حين وجد فيه بعض خصوم وحدتنا الترابية فرصة للنيل من المغرب والمغاربة وأفردوا له مساحة خاصة بالبرنامج الإذاعي «هكذا يشهد التاريخ» والذي كان مخصصا للنيل من سمعة الدولة المغربية . بعد مرور سنوات قليلة وبالضبط خلال سنة 1966 سيحس نايت أكرام بحنين كبير إلى دفء الوطن والأهل، فشد الرحال سرا إلى مسقط رأسه عبر مدينة الداخلة ليفاجأ بموت الوالد، كما بلغه خبر موت صاحب الوثائق التي قام بسرقتها بمدينة العيون، مما يعني أن المدينة قد أصبحت مفتوحة في وجهه مرة أخرى بعد وفاة من كان يخشى ويتوجس انتقامه. قرر العودة مجددا إلى المدينة التي احتضنته حيث استقر بها بعد أن أنجز وثائق إسبانية جديدة ومكث بها إلى حدود سنة 1973 حين حضر اجتماعا عقده انفصاليو البوليساريو بموريتانيا لشحذ الدعم لهذا الكيان الطارئ على الساحة السياسية المغاربية قبل أن يجد نفسه منساقا للطروحات التي تعمل هذه الشرذمة على ترسيخها في الأذهان، ومن ثمة رسخ في ذهنه ضرورة التوجه إلى تندوف التي التحق بها مطلع السنة الموالية وانخرط في صفوف البوليساريو إلى سنة 1976 حين فاض به الكيل من التصرفات الحمقاء التي تدار بها مخيمات العار. هناك اكتشف أنه شتان مابين الشعار والواقع، ليقرر مغادرة سقف الخيمة والالتحاق من جديد بموريتانيا حيث استقر بمنطقة بطاح الزويرات بعد أن عثر على عمل بشركة «ميفورما»، وقرر مع نفسه أن يفتح صفحة جديدة في مسار حياته خصوصا بعد أن تاقت نفسه للحياة الأسرية فتزوج من سيدة موريتانية وطاب له المقام بهذه الديار الشقيقة. ولأن حياة محمد نايت أكرام مندورة للمكابدة والعناء فإنه لم يكد يهنأ بحياته الجديدة بعيدا عن المشاكل والقلاقل حتى وجد نفسه موضع اختطاف جديد، يحكي تفاصيله بمرارة عبر رسائل وشكايات موجهة إلى مختلف المصالح المغربية «جرى اختطافي واعتقالي من طرف أناس مجهولين حملوني بالقوة إلى مقر السفارة المغربية بنواكشوط لإجراء بحث واستفسار معي مستعملين مختلف وسائل التعذيب، ليتم نقلي رفقة شخص آخر لا أعرفه على متن طائرة بوينغ في اتجاه مدينة الدارالبيضاء حيث قاموا بتعذيبي في كوميسارية الدارالبيضاء بالمعاريف»، وقد دامت رحلة العذاب الجديدة في حياة نايت أكرام 40 يوما بالتمام والكمال قبل أن يطلق سراحه مرة أخرى دون تقديم أي تفسير أو شرح لدوافع وأسباب هذا الاختطاف المرير. هو اليوم رجل تجاوز عقده السابع، لكن لازال بالجسم رشاقة لاتكاد تخطئها العين، يتحرك بخفة وسلاسة تصعب على من كان في مثل سنه متأبطا ملفا ضخما من الوثائق والشكايات يطوف بها على مختلف الإدارات المغربية ملتمسا إنصافه مما لحقه من ظلم وحيف، يعبر عنه بنرفزة واضحة والسؤال المؤلم لا يكاد يفارق شفتيه «أنا أش درت باش يكون الجزاء ديالي بهاد الشكل؟ أنا كنت بغيت غير نخدم بلادي وضحيت وسرقت وثائق مهمة وقلت مع راسي هاذي فرصة نقدم من خلالها خدمة وطنية لبلادي العزيزة، وكان الجزاء ديالي هو حياة التشرد والمعتقلات». لقد وجد فعلا بعض الإنصاف من المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان الذي تبين له من خلال المقرر التحكيمي 12437 أن قضية محمد نايت أكرام تدخل ضمن حالات الاختفاء القسري والاعتقال التعسفي، اعتبارا لمقتضيات التشريع الوطني وللقواعد المتعارف عليها دوليا، لأن احتجازه تم لأسباب سياسية، وفي ظروف تفتقد للشرعية وترتبت عنه تبعات أضرت به، وبالنظر لما أصابه من أضرار مادية ومعنوية تتمثل أساسا فيما قاساه من آلام وما تحمله من معاناة وحرمان وما علق به نتيجة ذلك من إصابات بدنية ونفسية وما ضاع له من فرص، وما قد يحتاج إليه من مواجهة ذلك، فإن هيئة التحكيم قد قررت بما توفر لديها من عناصر التقدير وفي إطار قواعد العدل والإنصاف تحديد التعويضات المستحقة في مبلغ مائة وعشرين ألف (120.000,00) درهم. غير أن قرار المجلس وبالرغم من أنه قد عالج جزءا من جرح ظل ينزف على امتداد عقود من الزمن فإن نايت أكرام ما زال مصرا اليوم على ضرورة أن تعمل الجهات المسؤولة على إرجاعه إلى عمله، على اعتبار أنه كل ما تبقى له لضمان عيش كريم بعيدا عن طلب المنة والإحسان من أحد خصوصا بعد أن خرج من تجربته الحياتية المريرة بدون ولد يتكئ عليه في شيخوخته أو صدر رحيم يعتمد على حنانه في توفير متطلبات آخر العمر، فهل تعمل الجهات المسؤولة على مسح بعض من الغبن الذي ظل يستشعره وهو في رحلة عمره الأخيرة؟ وهل تستجيب السلطات المغربية لتوصيات لجنة تفعيل توصيات هيئة الإنصاف والمصالحة، والتي أوصت الحكومة المغربية بشكل واضح عبر مقررها التحكيمي رقم 12473، باتخاذ كل الإجراءات اللازمة لجبر باقي أضرار السيد نايت أكرام محمد من حيث الإدماج الاجتماعي والتأهيل الصحي، علَّ ذلك يعمل على مسح بعض ما بقي عالقا في الذاكرة والخاطر من إحساس بالقهر والظلم.