في سنة 1944 أطلق عبد العزيز مزيان بلفقيه صرخته الأولى بمدينة تاوريرت، وفي سنة 2010 ، أوصى بأن يعود إليها ليدفن في مسقط رأسه، لاغرابة في ذلك، فهو حسب أحد أصدقائه معروف عنه «وفاؤه للأصدقاء والأمكنة». بل إن خصلة الوفاء «هي ميزته الأساسية وأحسن خصاله». حتى حين دخل دواليب الإدارة ثم تدرج في مناصب الوزارات قبل أن يدخل الديوان الملكي مستشارا، لم ينسيه المنصب وبروتوكولاته، أولئك الذين تقاسم معهم صداقاته، فهو ظل دائم الإصرار على أن يبقى على اتصال بهم، «يحضر أفراحهم وأحزانهم، ويحرص على الإنصاف بينهم»، لذلك سيكون الكثير من هؤلاء ضيوفا على تاوريرت لإلقاء نظرة الوداع الأخير. قليل الكلام لكنه كثير التواصل، ناذرا ما تجده في فضاء النقاش العمومي إلا بإذن ملكي، ومع ذلك، تسعفه شبكة علاقاته الممتدة من اليمين إلي اليسار وفي جميع جهات الإدارة في أن يلتقط تفاصيل المغرب ويعرض استراتيجيته في التدبير، لذلك، فحتى وإن هو رحل مساء الأحد بمستشفى الشيخ زايد بالرباط، فإن بصماته تجعله حيا، من الماء والأشغال العمومية والفلاحة إلى التعليم والنخب والتدبير السياسي، جعلته كفاءته وحنكته، يتغلب على «دسائس القصور» التي أسقطت الكثيرين قبله، وإن كانت «لعبة الدسائس» هي ما كان سيجعله يوما يتذوق مرارة سنوات الرصاص. حين كان يحصد الشواهد العليا في الهندسة المدنية من المدرسة الوطنية للقناطر والطرق والمعهد الوطني للعلوم التطبيقية وتدبير المشاريع بالجامعات الفرنسية، كان متعاطفا مع اليسار ومع الاتحاد الوطني للقوات الشعبية تحديدا، صداقته بالقيادي الاتحادي العربي عجول فتحت للطالب بلفقيه باب اللقاء بمحمد اليازغي، وارتباطات الجغرافيا جعلته صديقا لعمر بنجلون، وبسبب ذلك التقطته أعين البوليس السياسي في زمن كان فيه الإقتراب من اليسار خطأ يوجب العقاب، سبقته التقارير إلى الرباط بينما كان يحزم أمتعة السفر للعودة إلى المغرب مسلحا بشواهده العليا. ظلت العيون تراقبه، فاختار الاحتياط وابتعد عن السياسة ليتفرغ للإشتغال في مجال تخصصه، لكنه لم ينس الماضي وظل يكن للاتحاديين احتراما خاصا. يقول أحد الذين عاشروه خلال ثلاث ولايات حكومية كان خلالها مستشارا ملكيا، «لا أتذكر وقوع احتكاك أو تصادم بينه وبين وزراء الاتحاد في الحكومات كلها، هو دائما يتعامل باحترام وتقدير معهم». دخل عالم المهنة من باب إعداد سد مولاي يوسف على نهر تاساوت. كان إنجازه باهرا لدرجة تعيينه رئيسا للقسم التقني بمديرية الطرق ثم رئيسا لدائرة الأشغال العمومية والمواصلات بالرباط. لكن المجال الذي ظل دائما يثير اهتمامه ويحظى لديه بعطف خاص، هو ذلك المتعلق بالماء الصالح للشرب والوفير للسقي، ومهما يكن، فإن تمكنه من تدبير الطرق وقنوات تجميع المياه وكله ما له علاقة بكبريات الأشغال العمومية، جعلت الحسن الثاني يراهن عليه كورقة رابحة في نقل مغربية الصحراء من مستوى الخطاب إلي مشاريع الحياة، لذلك عين بعد المسيرة الخضراء منسقا بالعيون لمجموع مصالح وزارة الأشغال العمومية والمواصلات بالأقاليم الجنوبية. التي لم يعد منها إلى الرباط إلا سنة 1978 منذ ذلك الوقت، ارتقى مزيان بلفقيه في سلاليم الوظائف السامية، فزاد ذلك من ثقة الراحل الحسن الثاني فيه ليكلفه بأحد القطاعات الاقتصادية الأكثر استراتيجية بالنسبة للنظام السياسي المغربي واقتصاده، ألم يقل «ريمي لوفو» إن الفلاح هو المدافع عن العرش، والحسن الثاني نفسه ما فتئ يؤكد على ذلك، مما جعله يعينه وزيرا للفلاحة والإصلاح الزراعي. قبل أن يعيده إلى مهام وزير الأشغال العمومية والتكوين المهني وتكوين الأطر بالنيابة. وقبيل انطلاق تجربة التناوب سيكون صاحب حقيبة تمتد من الفلاحة مرورا بالتجهيز حتى البيئة، وكانت تلك آخر حقيبة سيحملها قبل أن يدخل الديوان الملكي مستشارا. كان مغرب بداية التناوب يتجرع مرارة الهشاشة التي يوجد عليها قطاع التعليم بينما حاملو الشواهد يتكدسون في صفوف العطالة، ومرة أخرى ستتم المناداة عليه ليتكلف برئاسة لجنة اقتراح مشروع إطلاح نظام التربية والتكوين، الذي سيعرف لاحقا بالميثاق الوطني للتربية والتكوين. في تلك الجلسات، تعرف ممثلو الأحزاب على ابن لدار المخزن ينصت ويحاور دون تسلط أو تعسف في القرار. لكن إشعاعه سيزداد أكثر مع تولي جلالة الملك محد السادس الحكم، كان المغرب قد حسم أو أنه أجل الخلافات السياسية لينكب على التأهيل الاقتصادي والمالي، مجاله المفضل الذي يمارس فيه ذكاءه الفطري وسلاحة العلمي، في الخطب الملكية ذات الطابع الاقتصادي تجد دائما بصمات مزيان بلفقيه إلى جانب بصمات محمد معتصم في الشق السياسي، وإليه يرجع الفضل في وضع تفاصيل العديد من الأوراش الكبرى، خصوصا مشروع ميناء طنجة المتوسط، وتهيئة ضفتي أبي رقراق، فهو الذي طل يعرف دائما كيف يتغلب على الماء ليحوله إلى شريان للحياة، وليس في ذلك من جديد، مادام هو من وضع فكرة السدود التي أنشئ معظمها في الفترة التي ظل فيها وزيرا للأشغال العمومية. في كل الإدارات، يوجد اليوم الكثير من الأطر الذين استقطبهم إلى المغرب، كان يتصل ويبحث وينقب ويقنع، «فهو من الأوائل الذين دفعوا بتشجيع الطاقات المغربية» حسب أحد الوزراء، وهو «من ظل يطلب من الأطر التطوع لخدمة بلدها، كان يؤكد دائما على الخروج من المكاتب والاشتغال في الميدان» كما يؤكد أحد أصدقائه المقربين. ولأنه استطاع أن يجمع رصيدا من الكفاءات التقنية، كان يعتقد أن التدبير الأمني والإداري لوزارة الداخلية يجعلها لاتساير المشاريع الاقتصادية، لذلك وفي فترته، بدأ المهندسون وخريجو القناطر والطرق يرتدون بذلة العامل أو الوالي، بعدما كان ذلك في السابق من اختصاص خريجي المدرسة الوطنية لتكوين الأطر. ولذلك، فقد مات مزيان بلفقيه، لكن مقاربته ماتزال حاضرة في العشرات من الأطر التي استقطبها وأطرها، وكأنه كان يريد أن يقول «حتى إن رحلت يوما، سأترك بينكم من يكونون امتدادا لخبرتي».