بقلم: عبد الحميد جماهري في مثل هذه الساعة، يبدو القلب ورما كبيرا يستعصي على العلاج، وفي مثلها تخطر ببالك العدمية البيضاء: ليت الفتى حجر، يا ليتني حجر! لكن القلب، الخندق الأخير للشعراء، يستعجل حزنه مع الخبر الأليم: ينفض عن نفسه، ويسترخي في لوحة سوداء كاملة اللوعة. حدادا علي، أنتقم من السخرية التي جاءت مع الخبر: كلمني الزميل عبد الرزاق مصباح متسائلا، هل وصلك خبر السي أحمد، في الساعة الثانية ونيف من زوال يوم الأحد الثقيل؟ ابتسمت له وقلت: حوادث كثيرة تقع في الطريق السيار للفايسبوك.. لكنني كنت قد أخطأت، أو أجلت الإدراك الجسدي للفاجعة.. لأن مكالمة هاتفية من عبد الهادي خيرات نصبت سراديق العزاء في القلب الموزع بين الذهول وبين الكآبة: لم يكن هناك خيار آخر لك يا قلب، أوقف سنونواتك تخبط صدري، وامتثل لهذا الخبر الداهم.. سيل آخر من المكالمات، نصوص نصية لا حصر لها، دوار كامل من التعابير الأليمة، والطريق إلى بوزنيقة تطوى طيا بين الصمت ورنين الهاتف. لم تكن هناك حاجة لكي نسأل أين نجد الراحل، لأن المدينة كانت تسير في اتجاه المركز الصحي، كانت تدلنا إلى حيث كانت عشرات القلوب تحيط بالجثمان الراقد في سكينة الأبد. هناك بالذات تشعر بالحاجة إلى الدموع بذل القلب، وتشعر بالحاجة إلى نهاية مشابهة، أن تحاط في ساعاتك الأخيرة بكل هذا الفيض من الود، وهذا الفيض الإنساني العارم، والذي يمتد إلى ما بعد الأبد. لم أستسغ أنني فاجأت نفسي أتفاجأ بكل تلك المشاعر والحشود: والحال أنني أعرف السي أحمد، أعرف المعدن الذي صاغته الطبيعة المغربية في أعماقه. في المكتب السياسي، عندما كان يجاورني في الاجتماع، لا يغفل بأن يهمس لي بتعليق يدفعني إلى أن أخرج عن وقار الاجتماع، بقهقهة كان رفيق آخر وحده يستطيع أن ينتزعها مني وسط ذهول المجتمعين، هو الأشعري. في السياسة دوما، كنت أستطيع أن أعبر له عن عمق تفكيري، والذي كان يصل إلى الخلاف اللايعالج مع تفكيره، لكنني كنت أشعر كما لو أن هدوء سريرته ودماثة أخلاقه قادرة على أن تستدرج السريرة لكي ترفع كل نقط التفتيش في طريق الكلمات. لم نكن على بر واحد، لكننا كنا نحلم تحت سماء واحدة بأن السياسة أخلاق دوما، كما علمنا ذات صيف الفقيد الكبير عبد الرحيم بوعبيد. أحيانا كثيرة كنت أفاجأ بعناده، الذي لا يظهر من خلال هدوء الصوت، والنبرة الرزينة، وأتساءل كيف يكون هذا الرجل الهاديء قادرا على كل هذا العناد؟ كان يعرف الكيمياء التي يمزج بها الصرامة في القناعة و الليونة في التعبير عنها. كما لو أن هدوءه كان تمرينا على الصمت الذي سيلي موته، لعلنا نجيد الإنصات إلى ما في الحياة من هسيس ومن نوتات، وما فيها من سولفيج ومن ضحكات.. كما لو أن الألم الذي يعتصر القلب الآن، هو في الحركة التي نرفع بها اليد للوداع، لعلنا نتطهر من الفداحة التي تنسل إلى خلايا العظام. وعندما يدخل رجل نظيف واحد إلى الغياب، تدخل السياسة في حداد ويدخل الوطن في حداد ويدخل الاتحاد في حداد.. ولا شك أن في البلاد التي اتسعت إلى الكثيرين ممن لا يستحقون أن يكون في المشهد، سيشعرون بأن عليهم أن يقيموا الحداد على .. الرجل النظيف، الذين لم يستطيعوا أن يكونوه، أما السي أحمد الاتحادي ، فنحن من نلبس الحداد عليه. وداعا صديقي، لم نكن على الضفة نفسها دوما، ولكني سأحفظ مكانك يانعا في أعماقي. سلم على المهدي وعمر وعبد الرحيم، سلم على الأبدية التي هيأت لك نفسها، بلغ حدادي إلى الجميع!