حنا المغاربة راه فشكل شي شوية. أمضيت ساعات طويلة أفكر في قيمة ماقام به شباب مغاربة في الداخلة وضعوا لأنفسهم إنجاز أكبر علم للمملكة وإدخال هذا الإنجاز إلى موسوعة غينيس للأرقام القياسية, وفي الحقيقة لم أجد أي تفسير معقول أو مقبول. الاعتزاز بالراية الوطنية أمر جميل, وشخصيا أضع النشيد الوطني في نغمة هاتفي النقال, وأضع صورة الراية الوطنية, وأشعر بفخر كبير بالانتماء لأمة اسمها المغرب وأتصور أنني لست الوحيد. المغاربة كلهم على نفس الدرجة من الاعتزاز ببلدهم إلا من لعن ربك من الحالمين بتقليد النموذج الشرقي المريض ممن ندعو لهم بالهداية باستمرار. يعني من ناحية حب الوطن ورموزه «ماكاين مايتكال». أين يبدأ المشكل؟ يبدأ بالتحديد حين نتحول بشكل «عبيط» للغاية إلى إفراغ معاني الوطنية الحقة من كل مغازيها ونحولها إلى لعب «الدراري الصغار» نرسم به أكبر علم هنا, ونخيط به أكبر خارطة هناك. أعرف عددا من الشباب الذين يقفون وراء الفكرة, وأعرف أن فكرتهم انطلقت من نية حسنة جدا, لكنني أعتقد _ والله أعلم طبعا _ أن آخر مانحتاجه اليوم في المغرب هو أن ننجز أكبر علم للمملكة. نحن في حاجة إلى أكبر «سبيطار» يلم كل مرضانا, وبحاجة إلى أكبر «فرماصيان» يعطي للمعوزين منا «الدوا فابور». محتاجون إلى أكبر «سكويلة» ندخلها لكي نقرأ من جديد وننسى الأمية الضاربة أطنابها فينا. محتاجون إلى أكبر صندوق انتخابي شفاف حقيقي وديمقراطي فعلي ينتج لنا أحزابا تمثلني وتمثلك، لا تلك التي تمثل علي وعليك «من نهار بدات وحتى لنهار تسالي». محتاجون إلى أكبر مكتبة نفتحها في وجه صغارنا ونعلمهم مع حب الاستهلاك أن القراية زينة وأنهم إذا واصلوا على النهج ذاته لن يصلحوا لشيء على الإطلاق في قادم الأيام. محتاجون إلى أكبر حديقة نتنفس فيها الهواء النقي, ونشعر فيها أن رئاتنا تصلح لشيء آخر غير استنشاق المازوت ليل نهار ومعه دخان السجائر الرخيصة. المغرب -سبحانك اللهم وبحمدك- هو البلد الوحيد في العالم «اللي ضربو الله» على مثل هذه الأشياء والارتكابات. فقد سبق لنا أن طبخنا أكبر طاجين في العالم, وأنجزنا أكبر كسكس في العالم, ووضعنا أكبر طنجية في العالم, وتملينا بمشهد أكبر قضيب في العالم - ديال الشوا قبل أن يذهب بكم الخيال والنية السيئة بعيدا-، وربما حان الوقت الآن لوضع حد لهذه البسالة, والشروع في إنجاز الأشياء التي نحتاجها فعلا, لاتلك التي نضيع فيها الوقت فقط. من اللازم علينا تقديس رموزنا وتعليم الشباب القادمين احترامها والاعتناء بها, لكن ليس بهذه الطريقة الساذجة جدا التي تدل على عطل في التفكير لدينا. ولو رجعنا قليلا للوراء وتذكرنا ماوقع في نهاية كأس إفريقيا للأمم بتونس يوم وصل منتخبنا لنهاية الكأس القارية لاكتشفنا أن عددا كبيرا من المغاربة استعادوا علاقتهم الجميلة برايتهم الوطنية دون أن يطلب منهم أحد ذلك. لماذا؟ لأن الوطن تماهى لديهم في لحظة من اللحظات مع الانتصار وأشعرهم بالفخر بالانتماء إليه, وجعلهم يحسون بضرورة التعبير عن هذا الانتماء بإشهار علم البلاد في كل مكان. الأمر ذاته حدث بعد تفجيرات ماي 2003 الإرهابية، حين خرج آلاف المغاربة في المظاهرة المنددة بالإرهاب يحملون العلم الوطني فقط لاغير، يقبلونه ويعلنون أنهم فهموا الرسالة التي أراد الإرهابيون توجيهها إلينا والتي تستهدف الوطن ووحدته, فقرروا أن الجواب الأبلغ هو إعلان الانتماء الأبدي للبلد, لأمنه , لاستقراره, لوحدته, ولبقائه قادرا على منحنا الأمان إلى آخر الأيام. الأمر ذاته يتذكره الصغار والكبار في كل محطاتنا التاريخية الدالة، من مقاومة المستعمر، إلى عودة ملك البلاد من المنفى ،إلى المسيرة الخضراء، إلى مونديال 1986، إلى لحظة رحيل الملك الحسن الثاني، إلى تواريخنا الأخرى الأكثر حداثة. الرسالة ذاتها كانت تتكرر: المغربي يعشق بلده وراية بلده حين الحاجة الحقة إلى الإعلان عن هذا الحب وعن هذا الانتماء. أما حين نحول الراية بجلالة قدرها إلى مجرد شيء يشبه الطاجين الأكبر أو الكسكس الأكبر أو «قضيب الشواء» الأكبر لكي ندخل بها موسوعة غينيس, فنحن بالتأكيد نسيء إليها مع اعتقادنا -للأسف الشديد- أننا نحسن صنعا, وذكر الله بخير الشيخة التي قالتها وهي تصيح في العيطة «هزو بينا لعلام», و«سبحان الله من داك النهار وهاد العلام مسكين كاع مابغا يتهز. سير عالله».