صبرا آل غزة فإن موعدكم الانكسار (هذا الكلام كتب في عمود سابق سنة 2008، نترك لكم مهمة اكتشاف ماتغير بين الأمس وبين اليوم) لغزة اليوم في مهوى الفؤاد كل آيات العويل. الصور تترى عن جثث الشهداء العابرين بلاسلام غير آمنين إلى المكان الآخر، وفي نشرات الأخبار لايجد المذيع مايكفي من الكلمات القاسية لكي ينقل للموتى المتفرجين النبأ بحذافيره. يستعير الكلمات التي تبدو له أقدر على نقل الفجيعة كلها، لكنه يخسر الرهان، فيصمت ويترك للكاميرا وحدها أن تجوب بين الأشلاء والدماء والدمار والقتل والفناء كل الدلائل على عبور تتار العصر الجديد من هنا. لغزة اليوم في قلب العرب شيء يشبه النسيان. وضعوها بين كماشة حماس وفك السلطة الوطنية، وقالوا لها "أحكمي الحصار على نفسك، موتي في اليوم آلاف المرات، واتركي لنا نحن بهجة الفرجة عليك في نشرات الأخبار". تمادوا طويلا في غيهم، حتى أضحى الشعب المستباح هناك مجرد كائنات عزلاء تصلح للانقياد وراء شريعة القتل في كل المذابح التي تقام لها من على الطائرات فوق السماء. لغزة اليوم في المشهد العربي الحق في أن تختال وحدها. أخيرا نجح الثلاثة فيما كانوا يخططون له: أن تطارد الطائرات شباب الغزاوية من أبناء القطاع، وأن تشبع لطما وقتلا وتشريدا وبكاءا وعويلا ونواحا، وأن تستمر أطراف الأزمة في نقاشها حول آخر التطورات. حماس والسلطة الوطنية وإسرائيل كل هؤلاء قتلوا غزة، وكل هؤلاء يقتلونها يوميا مئات المرات. لغزة اليوم فينا جميعا دين عالق في كل الأعناق، لن نرده بالصراخ في الساحات. لن نعيده بالاكتفاء بالشعارات. لن يصل إلى مستحقيه طالما اعتبرنا أننا مكتفون فقط بالفرجة، وبترديد عبارات التأفف المشمئزة، وبالانتظار القاتل لما سيأتي من فناء. لا، أيها السادة، لسنا معفيين من شيء على الإطلاق، والإنسانية، هذه الأسطورة المسماة أناسا، تقف اليوم تتفرج وهي تستعد للاحتفال بعامها الجديد على الأطفال والنساء والمشايخ والشباب والكبار يقتلون عشرات المرات، ويستعدون لكي يؤكدوا أنفسهم قرابين الزمن الحديث، وهدايا المنهزمين إلى العالم المنتصر عليه لكي يرضى. و العربي في كل هذا؟ أفضلنا لايستطيع تحريك ساكنه الصغير، لأنه يخشى إن حرك شيئا أن تتحرك له أمره كل الأشياء، فنجد أنفسما وخارج كل التفاهات. لذلك تجدنا نردد فيما بيننا- والترهل يقتل منا كل الحواس – عبارات التنديد الكاذبة، وألفاظ التضامن التي لاتعني شيئا لامرأة احتضنت في الظهر جثة إبنها، أو لأب قبل مساء جبين ابنته وهي ذاهبة نحو السماء. لغزة اليوم في ذهن العرب المنهزمين صورة المدينة الفاضلة القادرة على البقاء. صور الشباب الصغار الذين احتجزهم هنية في القطاع وهم يعبرون قوافل نحو الموت، وملامح الدم وهي تمتزج بغبار القصف بأزيز الطائرات، وبدوي القنابل وهي تختار بعناية فائقة قتلاها، كل هذا سيبقى للتاريخ دليل إدانة لكل من قرر لهذا الحصار الجائر أن يستمر. لن تتطهر يد قاتل واحد من دم كل هؤلاء الشباب. لن يستطيع واحد من السياسيين الكذبة من حماس أو السلطة الوطنية أو من إسرائيل أن يقنع أحدا أنه بريء من هذه الدماء. كلهم صنعوا المستحيل لكي يصلوا إلى هذه النتيجة، وكلهم متورطون في جريمة العصر هاته التي تحمل من الأوصاف أصدقه أي وصف الفناء. ونحن في كل هذا؟ لنلم حكامنا ونمضي، لنقنع أنفسنا أننا عاجزون عن أي شيء، وأننا غير قادرين إلا على رمي الحذاء في وجه الرؤساء حين اليأس وحين العجز وحين كل أمارات الغباء. لنمثل على أنفسنا دور المتأثرين بما وقع، الباكين لأهلنا في غزة، الصارخين حزنا عليهم، ولنعد بعدها إلى حياتنا العادية، نرتق ثقوبها، ونحاول جهد الإمكان أن نعدل فراغاتها، وأن نملأها بالحبور وبالسرور وبالاستعداد للاحتفال بأعياد الميلاد. أما غزة في كل هذا، فلها الموت المستمر حتى آخر الأيام. لاأعرف كيف سيكون الجيل الذي ينبت اليوم في غزة. لاأتصور شكله، لكنني متأكد أنه سيكون مرعبا لكل القابضين على فرجة الخواء. فلقد تركنا في تلك الأرض أناسا يموتون لوحدهم، وأدرنا لهم الظهور، وكل الحواس، وقلنا لهم "موتوا في اليوم أكثر من مرة، جوعوا، التمسوا من الأرض أن تعطيكم بعض ماتقتاتون به، أما نحن فلن نرق للحال، ولن نشفق للأنين، ولن نسمع أي نداء". غدا أو بعد غد، أو في زمن آخر من الأزمنة الحزينة والتعيسة، سيكبرون، لن يتذكروا شيئا إلا كل هذا القتل، وكل هذا الدمار، وسيستعيدون فيما بينهم صورنا ونحن نتفرج عليهم. سنبدو لهم سبب نكبتهم، وسيقررون بالتأكيد أن الانتقام منا جميعا هو خير الحلول، وسيفعلونها. بالتأكيد سيفعلونها. سنجد أمامنا في كل مكان صغارا كبروا، وقرروا بعد أن تربوا في مهد القتل أن يقتلوا كل المحيطين بهم، أن ينفجروا فينا، أن يصرخوا في وجوه جبننا بكل عبارات الاحتقار التي يعتقدونها صادقة وجديرة بأن تقال لنا اليوم وغدا وفي كل الأيام. لهم العذر في ذلك، لهم المبررات… وأما غزة، فلها العزاء وعباراته المسكوكة بابتذال منذ أول الأيام وحتى انتهائها، فلاشيء قد ينسي أهلها طعم الفناء الذي أذاقتهم إياه كل الجهات هذه الأيام. ملحوظة لاعلاقة لها بماسبق هل تتبعتم كيف ردت صحافة الجنرالات الجزائريين على الخطاب الملكي؟ مستوى منحط من الكلام، وطريقة انفعال تجاوزت الغضب لكي تتحول إلى سفاهة أعطت الدليل على أن الخطاب مس وترا حساسا لدى من يحركون هاته الصحافة فأعطوا أوامرهم بأن ينال المغرب النصيب الأوفر من السباب. ومع ذلك نقولها مجددا: لامشكل لدينا مع الشقيقة الجزائر وشعبها. المشكلة الحقيقية هي لدى من يعتبرون المغرب عدوهم رغم أنه لايتوقف عن إرسال كل علامات الود إليهم