القصة هي للقاضي الإيطالي والمدير العام لمكافحة المافيا «جيوفاني فالكوني»، الذي اغتيل عام 1992 في مدينة باليرمو. كان «جيوفاني فالكوني» قاضي شاب متحمس من مواليد ماي 1939 بباليرمو. كان والده مدير مختبر، بينما درس هو القانون، حيث تخرج عام 1961 وعين قاضيا بعد ثلاث سنوات في قصر العدل بمدينة باليرمو العاصمة الصقليّة. أصبحت أولى إهتماماته هي محاربة المافيا، التي جعلت من صقلية دولة داخل دولة. فقد كان في تلك الفترة كل من يقول للمافيا «لا» معدودين على رؤوس الأصابع، ومحارَبين على جميع الأصعدة. وكان وصول «فالكوني» المفعم بالطموح والحماس بمثابة الشرارة، التي جعلت رافعي لواء مكافحة المافيا ينطلقون يدا في يد لتحقيق هذا المشروع شبه المستحيل، خصوصا أن القاضي جيوفاني، كان إنسانا مثاليا ومؤمنا بضرورة استئصال بؤر الفساد والجريمة. ففور وصوله أُغتيل القاضي الكبير «كوستا» المعروف أنذاك بالنزاهة، حيث قرر «جيوفاني» أن يقول «لا» بصوت مسموع، وانطلق في تحقيقاته وتحرياته مع المعتقلين من أعضاء المافيا، الذين كان بعضهم يهدده شخصيا بالقتل بواسطة عناصر خارج السجن. كما واجه مصاعب أخرى منها إحجام العديد من القضاة عن توقيع تصاريح الإعتقال، بالإضافة إلى امتناع الشهود على جرائم الاغتيال من الإدلاء بشاهداتهم. وبعد شهور من العمل المضني والجاد استطاع «فالكوني» مع زميله المخلص القاضي «باولو بورسيللينو» التقدم وتحقيق الكثير من النجاح. وفي إطار حملات الإرهاب المنظمة الموجهة لكل من يعمل في قضايا المافيا، تم اغتيال «روكو كينيتشي» رئيس المكتبو الذي يعمل فيه «فالكوني» وزميله «باولو»، بل إنه قبل ذلك تم إغتيال الجنرال «كارلو دالا تشيزا» مع زوجته، الذي قدم للتو من روما لمساعدة المسؤولين في مكافحة المافيا، وقبل ذلك أيضا تم اغتيال «بيو لاتوري» عضو البرلمان ورئيس الحزب الشيوعي الصقلّي، الذي كان سيجعل من الإنتماء للمافيا جريمة يعاقب عليها القانون. تهديدات القتل لم تثن «فالكوني»، الذي كان يعيش تحت حراسة مشددة تكاد تصيب زوجته بالجنون، حيث اقتربت المافيا منه أكثر وأكثر، واغتالت أحد أصدقائه المتعاونين معه ومع زميلهم المشترك «باولو بورسيللينو» الضابط «نيني كاساري». وتتويجا لجهود «فالكوني» ومن معه، واستنادا إلى اعترافات «توماسو بوشيتا» أحد زعماء المافيا، وإعتماد اعلى الدعم الآتي من روما، تم جمع الكثير من الأدلة والمعلومات، التي بموجبها تم اعتقال حوالي 366 شخصا، ومن ثم توجيه تهم مختلفة إلى حولي 300 عضوا في المافيا في محاكمة تاريخية كبيرة أدارها «فالكوني» و«بورسيللينو» وزملائهما، ونقلتها القنوات التلفزيونية مباشرة من محكمة باليرمو تحت حراسة أمنية مشددة تمثلت في ثلاثة آلاف جندي. بعد إدانة الكثير من الرؤوس ممن كانوا يخططون ويدبرون ويأمرون بالإغتيالات بالسجن المؤبد في غالب الأحكام، أصبح «جيوفاني فالكوني» و«باولو بورسيللينو» أبطالا قوميين، حيث كاد أن يتم انتخاب «فالكوني» رئيسا للإدعاء في قصر عدل باليرمو لولا تدخل أيادى الفساد، التي لها علاقات مشبوهة مع المافيا، مما حول الاختيار صوب شخص غير كفؤ. هذا الترشيح أصاب «فالكوني» بخيبة الأمل كبير، ليقرر العودة إلى روما وترك باليرمو المحتلة من قبل المافيا وقصر عدلها الذي يحتاج إلى تنظيف حسب تعبيره. بعدها بفترة قصيرة، عاد «فالكوني» إلى باليرمو كي يلتقي صديقه «باولو»، وذلك بعد اغتيال النائب ليما، وكذلك كي يشهد موسم صيد السمك الذي لم يفوّته منذ كان صغيرا. فقد كاد ينجو من المافيا، ولكنه سافر ذاك السبت لزيارة زوجته التي تعمل قاضية بباليرمو، على أن تكون هذه واحدة من آخر زياراته. لا شك أن المافيا كانت تعرف ذلك، وقد رسمت خطة لقتله، بعدما فشلت في مرة أولى، عندما اكتشف الأمن حقيبة مليئة بالديناميت داخل منزل على الشاطئ، كان يقضي فيه «فالكوني» عطلته الصيفية، لكنه في 23 ماي 1992 سوف تغتاله المافيا الصقلية «كوزا نوسترا» وزوجته وثلاثة من حراسه في انفجار سيارتهم بواسطة قنبلة بلغ وزنها 350 كلغ من الديناميت تحت الطريق السريع من مطار «بونتا ريسي» بالقرب من بلدة كاباتشي باليرمو.. ورغم مقتل «فالكوني» قبل حوالي عشرين سنة، فقد ظل نموذجا للبطولة كرجل قانون كإنسان أيضا، كرس حياته لمحاربة الفساد والجريمة وخدمة العدل.