كيف يتحول هدوء مدينة ممتدة في قلب الصحراء، تعيش حياة هادئة لا تختلف عن أجواء وطقوس عيش السكان في مدن مغربية مختلفة، إلى صخب يتم تداوله إلى حدود الافتراض؟. كيف تتحول صورة أحياء عادية لساحة معركة في الإعلام ذهبت بالتأويل والمقارنة إلى تخوم الهبل؟ كيف يتحول حدث بسيط عن إشكالات التدبير، إلى غارة إعلامية تحول عشرات الآلاف من السكان إلى سلعة للترويج للقمع وما إلى ذلك من عبارات نمطية عن الاستعمار؟ عشرات من الأسئلة تداهمك وأنت تجوب كل أحياء مدينة العيون، عشرات من الأسئلة تنتهي بك إلى الاقتناع بأن شيئا ما غير سوي، يسمح لهذه الصور بإقناع منظمات مدنية، بوهم لا وجود له، في مقابل تجاهل تام لواقع مناقض تماما، بالرغم من كل مساحات التقصير التي يمنحها فضاء المدينة، وتصريحات أبنائها. تبدو هذه البقعة الحمراء في قلب امتداد واسع من الرمال عنوانا لحياة عمل دؤوب تم القيام به لتحويل الخراب الذي تركته إسبانيا بعد رحيلها، تبدو مجهودات الدولة قوية على مستوى البناء والتشييد، كل مرافق الدولة قائمة بنفس المستوى الذي تجده في أكبر المدن الداخلية، خدمات كثيرة كان يصعب تصورها بالنسبة للعديد من السكان الذي عايشوا مرحلة استقلال الصحراء عن الاستعمار الإسباني. العيون مدينة تتجاوز في مرافقها العديد من المدن المغربية الأخرى، وكل الأحياء تتشابه. ليس هناك تفاوت كبير في الأحياء، عدا التأخر الحاصل في تجهيز الجديد منها. ليست هناك طبقية مفرطة كما هو الحال في كبريات المدن المغربية، حركية الناس داخلها عادية. فما الذي يحدث؟ حي معط الله، من الأحياء الأولى التي تم بناؤها في العيون، في إطار توفير سكن لائق للسكان. الاسم يعود للمقاول الذي كلف بالبناء، ويرمز لانتقال حياة السكان من السكن التقليدي المتمثل في الخيام لدى بعضهم، والسكن في دور محدودة تركها الاستعمار الإسباني، وهي في أغلبها دائرية الشكل، تتواجد الآن بالمنطقة المحاذية لسوق الجمال، ويطلق عليها لقبيبات كناية على شكلها الذي يأخذ طابع قبة دائرية لشكل. الحي الذي شهد أحداث عنف قوية كما وقع في سنة 2005، وهي الأحداث التي أكسبته شهرة، بسبب الترويج القوي لآلة الدعاية الجزائرية، والتي تمكنت منذ ذلك الحين، من استغلال جو الانفتاح بالمغرب، واتساع دائرة حرية التعبير، وتعدد وسائل الإعلام، للتغلغل في أوساط من اختاروا التعامل مع أعداء المغرب، لتصدير صراع مغلف بكثير من الالتباس. البئر الجديد ينطلق من شارع مزوار ويخترق شارع اشكيكيمة في اتجاه شارع بوكراع لينتهي عند الحزام، حيث حدود السكن في الجهة الجنوبية للمدينة، وهو الحي الذي تقطنة أمينتو حيدر، وتتفرع عنه مجموعة من الأزقة، خصوصا من جهة شارع مزوار واشكيكيمة، وتتميز هذه المنطقة بكونها الشريان التجاري للمدينة، حيث تتمركز أنشطة تجارية متنوعة، وتعرف أزقتها اكتظاظا في السير والجولان، خصوصا في أوقات المساء. باستثناء هذه الأزقة والأحياء لم تشهد باقي أطراف المدينة حركات احتجاجية، ماعدا المناوشات التي كانت تحدث في بعض المؤسسات التعليمية التي كان ينقل إليها الاحتجاج من خلال كتابات على الجدران، سرعان ما يتم الرد عليها في نفس اليوم من قبل تلاميذ، حيث تتضمن جدران بعض المؤسسات عبارات بالإسبانية تقول «عاشت الوحدة». هي ذي المدينة التي تم تصويرها في إعلام الدعاية الجزائرية أنها محاصرة من كل جانب، ويتم الترويج لها من خلال مجموعة من الصور التي يتم التقاطها هنا وهناك بطريقة مخدومة، كما عبر عن ذلك مجموعة من الشباب الذين تحدثوا بإسهاب عما أسموه بالمراهقة السياسية لدى العديد من المحتجين. گيف تتم صناعة الأحداث بالرجوع إلى كرونولوجيا الأحداث التي عاشتها هذه الأحياء، يقول ناشط جمعوي إنها كانت تتم في اللحظات التي يكون فيها ملف الصحراء مطروحا للنقاش إما في أروقة الأممالمتحدة أو في محافل دولية أخرى. «نعلم بالتوقيت متى يمكن لهم أن يتحركوا، كل شيء مضبوط على ساعة الجزائر وجبهة البوليساريو»، «وعلى العموم فقد انكشف هذا المعطى بعد الزيارات الأخيرة» يضيف شاب صحراوي آخر. هذا التحرك عموما ما كانت تقوم به عناصر أصبحت معروفة لدى سكان العيون، تعرفوا عليها من خلال الإعلام الجزائري، وجبهة البوليساريو، وتقوى حضورهم مع مساحات الحرية التي عرفتها البلاد، «لم تعد هناك بطولة تذكر في هذا السياق» يقول متحدث آخر. والاحتجاج الذي كان يتم يخضع للمطلوب، فإذا كان الأمر يتعلق بصور للاحتجاج فإن الوقفات عادة ما يتم تنظيمها في توقيت تكون فيها حركة السير والجولان قوية بشوارع حي معط الله والبئر الجديد، حيث يتم إخراج مجموعة من الأطفال، لمدة لا تتجاوز عشر دقائق، يتم فيها أخذ صور سريعة لنقلها إلى الجهات المعروفة، حيث لا تمر ساعة واحدة حتى تبدأ المواقع الإلكترونية التابع لجبهة البوليساريو في تعميم الخبر العاجل، وبعدها تتكفل آلة الدعاية الجزائرية بتوضيب الحدث وتقديمه على أنه انتفاضة متواصلة وحصار مضروب على العيون وباقي المناطق. وإذا كان المطلوب هو تقديم جرعة زائدة تحتاجها جبهة البوليساريو والجزائر لإحراج المغرب في مجال الحريات، فإن العناصر من الصف الثاني تتجه بالاحتجاج إلى رشق سيارات الأمن بالحجارة، أو بافتعال حادث معزول يقوم به شخص واحد، كإلقاء زجاجة حارقة على سيارة للأمن أو مقر موجود بالحي، ثم تحويل حدث اعتقال المعني بالحادث إلى اعتقالات بالجملة وضرب للحريات، وما إلى ذلك من بهارات تصوير المدينة. لماذا يغيب رد فعل مدني؟ إزاء هذه المفارقة في وجود أقلية تروج لأطروحة الانفصال مقابل وجود غالبية ساحقة من السكان في الجهة المقابلة، يطرح السؤال عن محدودية الرد المدني، خصوصا وأن الأمر يتعلق بثوابت، كل الردود التي استقيناها من مجموعة الشباب الصحراويين بالمدينة تتوزع بين: إما استصغار تأثير هذه الأقلية على حياة الناس أولا في المدينة، وبالتالي يعتبرون أن «هذه المراهقة السياسية» التي يتم فيها توظيف أطفال، لا ترقى إلى الجدال حول قضية كبرى، ويتحدى عدد من المتحدثين أن ينزل أصحاب هذا الرأي للمؤسسات للتعبير عن رأيهم، فكل ما يتم شبهه أحد الشباب بأنه تجارة ترتبط بالمعيش اليومي لمجموعة من المرتبطين بأجهزة أجنبية، وجدوا فيها أصلا تجاريا يصعب التنازل عنه. وحين تواجه مثل هذا الكلام بتحفظ غياب وسائل الإثبات، يرد عليك بكل بساطة «وكيف تفسر لي كيف يمكن لعاطل عن العمل أن يتنقل عبر الطائرات بكل يسر، ويعيش حياة لا خصاص فيها؟». وفي المقابل يرى البعض، أن ترك هذه الأقلية تتحرك كما تشاء هو عنصر قوة، كيف يمكنني أن أتخوف من شيء أعلم حجمه الطبيعي، فلا وجود لأي تأثير يقول مخاطبنا، لهذه الادعاءات في واقع وحياة الناس، ويضيف «كيف يمكن لي أن أشغل بالي بأمور تافهة، وأترك المعقول». والمعقول عند هذا الرأي هو تعميق مجال الحريات وتعميق البناء الديمقراطي، وتطوير مجالات التنمية وخلق فرص شغل، وعدم التفريط في حقوق الأغلبية الساحقة من الناس الذي يقضون يومهم في الكد والعمل. هو ذا الرد الطبيعيبالنسبة لهؤلاء لتوسيع انسياب الارتباط بالوطن، وحشر الاستثناء في زاوية حتى يختنق لذاته. مؤسسات التأطير السياسي في سبات صورة التأطير السياسي بالمدينة لا تختلف عن بقية مناطق المغرب، هناك مجموعة من المقرات الحزبية تدل عليها اليافطات الخارجية، لكن حركيتها، حسب شهادات مختلفة، لا تختلف عن صورة الدكاكين الموسمية التي لا تفتح إلا في مواسم الانتخابات، فحتى الأحزاب الوطنية التي سبق وأن فتحت مقراتها في أوقات سابقة، وتمكنت في لحظات من خلق النقاش داخل المدينة سرعان ما تراجع نشاطها. «ليس هناك عمل وتأطير عميق ومستمر» يقول أحد الشباب الذي سبق له الانخراط في حزب سياسي بمناسبة مؤتمره الوطني. فنشاط الأحزاب السياسية محدود بالرغم من الإمكانيات الهائلة التي تتوفر عليها المدينة، فالعديد من الشباب متعطش للعمل السياسي، ويعتبره المجال الذي يمكنه من التعبير عن وجهة نظره فيما يجري بالمدينة، وهو المجال كذلك للاهتمام عن قرب بقضايا الناس، حتى تكون هناك مصداقية لتحركاته في مواجهة تحركات الأقلية. العديد من المهتمين سياسيا بالمنطقة ينظرون إلى مجال التأطير بنظرة نقدية، فالتأطير بالنسبة إليهم، يحتاج لتغيير الخطاب السائد. «يصعب علينا أن نخاطب الناس هنا بذات الطريقة المعتمدة في مناطق أخرى، هنا توجد خصوصية، يحتاج إلى تغيير الطريقة ذاتها إلى خطاب واضح يخترق كل أنواع لغة الخشب، نحن في حاجة إلى أن نعري وجوهننا بشكل مكشوف أمام السكان، نمنح لكل من أراد التعبير عن وجهة نظره مساحات واسعة، وهي الوسيلة المثلى لمحاربة من يعملون في الظلام». هذا المطلب الواضح يجد صداه عند فاعلين إعلاميين بالمنطقة، تقول إعلامية، «نحن نخاطب الصحراويين هنا، نعرف تماما ما يشغلهم، نعرف جيدا ما يحتاجونه، وبالتالي بإمكاننا التواصل معهم من دون تعليمات»، هذه التعليمات في كثير من الأحيان كانت تحد من المبادرات، فالأمثلة بالنسبة لحاملي هذا الرأي متعددة، والقناعة الراسخة لديهم أن فتح المجال لخطاب مغاير لمن يؤمنون بالوطن الموحد، كفيل بقهر العديد من الخرافات التي تأسست عن المدينة خصوصا ، وعن المنطقة عموما. ما لا يستسيغه السكان بالرغم من المجهودات القوية التي بذلت لتأهيل مدينة العيون، والتي لا ينكرها المنتقدون للأوضاع الحالية، يبقى مردود الجهد الإنمائي محدودا في توطين الرضا في نفوس السكان، والأسباب التي يستند عليها المنتقدون يتداخل فيها الاختلاف في التقدير برفض نمط التدبير. فالإختلاف بالنسبة للعديد من الشباب يكمن في غياب الشفافية لدى السلطات في العديد من الملفات، وتركيز غالبية الشباب على ملف التوظيفات، التي غالبا ما أثارت الاحتجاجات، ويستغرب البعض، كيف تسمح السلطات في منطقة كهاته بحشر نفسها في متاهات التأويل الذي يعقب كل مناسبة توظيفات جديدة؟ ويتساءلون «ما الذي يمنع السلطات من الذهاب بالشفافية في مثل هذه الملفات الحساسة إلى أبعد الحدود، ولا تترك أي مجال للتأويل الذي قد يبنى على الإشاعات؟ ما الذي يمنع من ابتكار وسائل للتواصل الواسع لوضع الكل في الصورة في أي ملف يهم حياة السكان؟». أسئلة غالبا ما تنتهي بهؤلاء المنتقدين إلى الجهر برفضهم لنمط التدبير الذي يسلكه المسؤولون. وهنا ترفع شعارات قوية، يقول شاب وهو يلوح بيديه في حالة انفعال «نحن نرفض أن نعامل بغير الطريقة التي يعامل بها باقي المغاربة، لا نريد ريعا إضافيا، نريد أن نبني وطننا كالجميع، لكن نريد أن تكون الأمور واضحة». هو ذا المطلب المعمم في جل الردود التي يمكنك أن تحصل عليها، وهي ردود يشتم في طريقة عرضها سريعا نوعا من الإحتجاج القريب من شعارات الانفصاليين، لكن حين تدقق في معناها، يأتي الرد حاسما«لن نقبل أن نساوم في وطنيتنا، نحن نناقش طرقا للتدبير» يقول شاب وتقاسيم وجهه تبدو صارمة. الاحتجاج على الأوضاع الاجتماعية لفئات من الكادحين والعاطلين عن العمل والرافضين لامتلاك فئة قليلة لثروات المدينة، يؤثث جزءا مما تحبل به المدينة من حراك، وهو حراك بالنسبة لفاعل سياسي «يحتاج في العمق إلى تدبير عقلاني، يركز على تواصل القرب ويفسح المجال للنخب المحلية في تدبير ما يمور في الساحة، وهي استراتيجية تحتاج إلى جرعة قوية من الشجاعة، في مواجهة من يصطاد في الماء العكر، سواء من الفاسدين في الإدارات أو من المنتفعين من غضب السكان». تلهف الأهالي بهذه المدينة الكبيرة للبوح بما يضمرونه من غضب إزاء تحركات قلة تتاجر بالقضية، وإزاء سلطات يغيب عنها حس الإبداع، وتعيقها الشفافية في التدبير، يجعلك تحس بأن الأرض خصبة لحرث جديد، فنبتة خلق رأي عام يغمر شذوذ قلة تبيع الوهم للجميع، ممكنة وقائمة، واستثمار حركية البلاد في اتجاه توطين الديمقراطية عن قرب في الجهات يسمح بانتقاء بذور طيبة بإمكانها مقاومة كل الأعشاب الضارة المحتملة، بدون خوف على المحصول. إنه المخطط الممكن.