إذا كُنَّا نعمل لوضع الدولة في سياق ما يجري من تحوُّلات في العالم العربي، وما يشهده الفكر الإنساني، من انقلابٍ في المفاهيم والتصوُّرات، وفي طُرُق تدبير الاختلافات، وما تقتضيه هذه المرحلة التاريخية التي نعيشها، بكل توتُّراتها، من انتقال ديمقراطي، من دولة الهيمنة والتَّسَلُّط، أو تركيز السُّلَط في يد المؤسسة الحاكمة، دون غيرها، والسعي لتوسيع مجالات الحرية والحق في النقد والمحاسبة، وتكريس دولة الحق والقانون، بما تكفله من استقلال للقضاء، ومن ضَمانٍ لحقوق المواطنين، دون تمييز أو استثناء، وغيرها، مما يجعل البلاد تسير بوتيرةِ ما تعرفه القوانين والأعراف الكونية من صيانةٍ لكرامة الإنسان، ونَبْذِ كل أشكال الإقصاء والتمييز، فإننا، وأعني شريحةً مِنْ مُثَقَّفِينَا، lمازلنا ننامُ في ماضٍ لم يعد صالحاً لحاضرنا. قبل اليوم، وفي فتراتِ الصِّراع مع السلطة، حين كان المثقف منتصراً لاختياراته الفكرية، وحريصاً على استقلاليته، وفَرادة قراراته، كُنَّا، رغم ما طالنا من حَيْفٍ، في كل شيء، نَقْبَلُ بالانتصار لانتماءاتنا السياسية، ونعتبر ما نقوم به، واجباً، لأنَّ شراسة السلطة، إبَّانَها، فرضت علينا أن نكون مُتَضامِنين، وكان الميثاق الذي جمعنا، في اتحاد كتاب المغرب، بشكل خاص، هو «ميثاق شَرفٍ»، في احترامه، كُنَّا نحترم التزاماتنا، رغم ما كُنَّا نراه من اقتسام ل «الخيرات الثقافية»، التي كانت مُرَكَّزَةً في يدٍ واحدةٍ، أو حزبٍ واحد بالأحرى. لم يكن اتحاد كتاب المغرب، أبداً، اتحادَ كُتَّابٍ لجميع المُنتمين له، فهو كان، ومازال اتحاد فئة من المنتفعين بهذه «الخيرات»، ولم يكن دور باقي أعضائه، يفيد في شيء، فمُهمتهم تنتهي بانتهاء المؤتمر، وبالتصويت على أفرادٍ محددين سلفاً، وحين يشرع الاتحاد في تنفيذ برامجه، فثمة من كانوا معنيين بهذا البرنامج دون غيرهم، في تمثيل الاتحاد خارج المغرب، وفي السفريات والندوات والمهرجانات، وكل ما كان الاتحاد يُشرف على تنفيذه، سواء في الداخل، أو في الخارج. بما في ذلك نشر الكتب، الذي كان يتم، دون معايير مُعْلَنَة، ودون إخبار ببرنامج النشر، وشروطه، لأن الأمر في النهاية، هو نوع من المساومة، أو «الريع الثقافي»، الذي طالما اعتبرناه، من مثالب الدولة، أو أعطابها التي هي اليوم مثار جدالٍ كبير. حين نكون نحن، ومِنْ دَاخِلِنَا، ما زلنا لم نتخلص من عقلية الأب، والوصي، ومن عقلية الحِجْر، والزعامة، أي الراعي والرَّعِيَّة، وهي صفات جاءتنا من الحزب، ومن الدولة، أيضاً، فكيف يحق لنا أن نتوجه لنطالب الدولة أو السلطة، بتغيير سلوكها تجاهنا، فيما نحن لم نغير أنفسنا؟ ما الذي يجعلنا نعتبر المعرفة هي ما أنتجته فئة من هؤلاء الذين ما زالوا يعيشون في غيبوبة الماضي، وأنهم هم «الرواد» أو بلغة الماضي، هم «السلف» ونحن، أعني الأجيال التالية عليهم، خَلَفاً، وما علينا إلا الطاعةَ والسير على ما سَنُّوه من مفاهيم ومعارف، أو ما فتحوه من طُرُقٍ، وكل مَن سعى ليكون هو، لا غيره، أعني الصوت لا الصدى، فما عليه إلا أن يتحمَّل تبعات هذا «العصيان الثقافي»، وهذا الخروج عن «الإجماع». اليوم حين انفرط عقد اتحاد كتاب المغرب، وأصبحت مؤسسات الدولة هي البديل، ذهب هؤلاء لعقد تحالفاتٍ من نوع آخر. الديمقراطية التي يتحدث عنها هؤلاء، في ما عَقَدُوه من لقاءاتٍ، لم تُفْضِ لشيء، وكانت فاشلةً، في اختياراتها وفي ترتيباتها، وفي ما لجؤوا إليه من بياناتٍ، لم تعرف طريقاً إليهم، سواء في أحزابهم التي باتت خاضعةً لِمَا يأتيها من خارجها، وأعني من السلطة تحديداً، أو في ما كانوا يقومون به من مهام، سواء في اتحاد كتاب المغرب سابقاً، أو في مسؤولياتهم في مؤسسات الدولة، أو حتى في علاقتهم بالأجيال التي لم يعترفوا بوجودها، وعملوا على انتقاء مَنْ بدا لهم قابلاً لأن يكون طَيِّعاً، أو صدًى، لاصوتَ ولا صورةَ له. إنَّ «البيان الديمقراطي»، جاء خارج السياق، فأين كان هؤلاء، وأنا أستثني بعض الموقعين القلائل عليه، ممن أعرف نزاهتهم الفكرية والأخلاقية، فالمدة الزمنية للاقتراح انتهت، كما أن جل الموقعين، ومنهم من تم إخراجُهم من كهوف النسيان، لم يكن لهم صوت في هذا الحراك الذي يجري منذ 20 فبراير. لم نقرأ لهؤلاء موقفا واضحاً قبل البيان، أعني الموقف الفردي، وليس ما يجري خلف الصوت الجماعي. أليس بين الموقعين من رفض أن يُعيد ما تَسَلَّمَهُ من أموال من الرئيس التونسي المخلوع، واكتفى بالصمت عما يجري في تونس، حتى لا ينقلب السِّحر على الساحر ؟ أليس بين هؤلاء، ومِنْ داخل اتحاد كتاب المغرب، مَنْ كان على صلة بمثقفي النظام الليبي، دون أن أتحدث عمن كتبوا يمجدون سخافات القذافي القصصية، واعتبروها عملاً استثنائياً، في الثقافة العربية ؟ وأيضاً علاقة آخرين بالبعث في العراق، وبنظام صدام حسين ؟ لسنا جيلاً أعمى أو فقدنا البصر إلى هذا الحد الذي تعتقدونه، فنحن نملك جرأتنا الخاصة في النقد وفي الاختلاف، ولا نُقصي غيرنا مهما اختلفنا معه، أو نعمل على إدانة غيرنا دون حُجَّةٍ. فما يَهُمُّنا هو الوضع الثقافي، وإعادة تغيير المفاهيم والتصورات. مرجعياتنا في المعرفة ليست هي مرجعياتكم، رغم أنَّ بَيْنَكُم مَنْ نَقْتَدِي بهم، ونعتبرهم أصحاب رأيٍ، وموقف، وجرأةٍ في طرح الأفكار. فنحن جئنا من عدمٍ، أو على الأقل هكذا أنظرُ إلى نفسي، لأنني لم أكن تلميذَ أحد منكم، أو طالباً في الكليات التي كنتم تَشُدُّونَ فيها الطوق على الطلبة، وتفرضون فيها رؤيتكم للأشياء. فنحن جيل لا آباءَ لنا، ولا نقبل الوصاية أو الزعامةَ، كما أننا لسنا رعايا، لأننا نحتكم في فهمنا لمعنى الأُبُوَّة، لمن يَمْنَحُنا دَهْشَةَ المعرفة، لا اجترارَ الكلام، أو القول المكرور، الذي لم يعد صالحاً للقراءة ولا للاستعمال. لنا آباء، نأخذ بيدهم إلى عزلاتنا، لأننا نقتسم معهم المعرفةَ، دون ادِّعاءٍ أو تعالٍ. يكفي أن نقرأ جملةً في كتابٍ قديم، لِنُعِيدَ النظر في ما بدا لنا قَناعاتٍ أو ما يُشْبِهُ القَناعات، بدل أن نضيع في كتاباتٍ، نعرف جيداً، أنها اسْتَنْفَدتْ رصيدها في الخلق والإبداع، وأنَّ ما سيُكتب عنها من نقد، هو الآخر استنفد قدرته على التمييز بين التِّبْرِ والتُّراب. لا يمكن في وضع كهذا الذي نحن عليه اليوم، أن نزيد من مُضاعفة التَّشَرْذُم، وتوسيع الهُوَّة، بما لا يخدم قضيتنا، في شيء، بقدر ما نعمل على تأجيج الخلافات، وتشتيت المواقف، وتبديدها. فالوضع يقتضي استشارة أكثر ما يمكن من الشركاء، وسماع صوتهم، بدل الصُّراخ في غُرَفٍ مُظْلِمَةٍ، كما كان يحدث دائماً. إنَّ أهم ما يمكن أن أتَوَجَّهَ به لبعض هؤلاء، ممن كانوا بالأمس القريب، في مواقع القرار، هو أن يتركوا مكاناً للنفوس الحُرَّة، أو يَنْحَنُوا قليلاً حين تَهُبُّ رياح التغيير. لا يمكن أن نعيدَ نفس النشيد وبنفس الأصوات، إذا كان الغناء في أصله نشازاً، أو أنَّ بعض أفراد الجوقة، هم سبب ما في الغناء من حَشْرَجَةٍ وعَطَبٍ. فإذا كانت الأحزاب والمنظمات الثقافية التي توجهت إليها لجنة تغيير الدستور، قد اقترحت كل ما جاء في «البيان الديمقراطي»، ودون محاباةٍ لمعتقدٍ، أو تأكيد لشرعية الدين، كما نص البيان على ذلك ! فإنَّ ما أذهب إليه هنا، هو ما سبق أن قلتُه، منذ شَرَعْتُ في الكتابة عن علاقة المثقف بالسلطة، وبمؤسسات الدولة، أي قبل أن يجري ما يجري من حراكٍ. فالمثقف مُلْزَمٌ بالخوض في أراضيه، وحين تكون الأحزاب والمؤسسات ذات الصلة، قاصرةً عن وضع الأمور في سياقها، آنذاك يصير للمثقف رأيٌ، فيما لم يجرؤ السياسي على الخوض فيه. اعتقد، دائماً، أن السؤال الثقافي، أو المعرفة، بشكل عام، تكفي لوضعنا في مواجهة باقي القضايا الأخرى، مما جاء بعض مثقفينا ليخوضوا فيه بشكل مُتَأَخِّرٍ، وبعد أن صار الكلام في الموضوع عاماً، أو على عواهنه، كما يقال. أتساءل؛ أين كان عدد من هؤلاء الذين ركبوا قطار الديمقراطية، حين كان القطار في المحطة، ينتظر مَنْ يُحَرٍّك عرباته، أو يضعها على سكة الانطلاق ؟ أليس أنتم آخر من التحق؟ وهذا معناه أنكم ركبتم موجةً كان عليكم أن تكونوا من صانعيها، أو المؤيدين لها وهي في أول أمرها. تجاهلتم مُثقفين آخرين خرجوا من قَبْلُ ليصرخوا عَلانيةً في وجه الدولة وفي وجه مؤسساتها، وتجاهلتُم ما قدَّمُوه من اقتراحاتٍ، في ما يجري في واقعنا الثقافي والاجتماعي والسياسي، واخترتم الهروب إلى الأمام، منتظرين القطار في المحطة، دون أن تكونوا من راكبيه. مَنْ منكم إذن، وضع بياناً يطالب فيه الدولة أن ترفع من ميزانية الثقافة، أو تعمل على استحداث ميزانيات داخل وزارات أخرى، مثل وزارة التعليم والاتصال والشباب والرياضة، وغيرها، تكون خاصة بدعم العمل الثقافي، بشَراكةٍ مع وزارة الثقافة، لتوسيع وعائها المالي، ومع الجمعيات والمنظمات الثقافية والفنية، دون الاكتفاء بوزارة الثقافة كشريك وحيد؟ ومن منكم طالب بوضع برنامج للقراءة، تشارك فيه الوزارات المذكورة، إلى جانب الجرائد اليومية والأسبوعية، وبدعم من القطاع الخاص، بنشر أعمال إبداعية وفكرية، في شكل كتاب في جريدة، ما دامت الجرائد تصل إلى الناس بِطُرُقٍ أسهل؟ ومَنْ منكم طالب بوضع اتفاقيات شراكة، فيما يخص نشر الأعمال الأدبية والفنية والفكرية والتاريخية المغربية التي لم تعد اليوم مُتَاحَةً في يد الأجيال الجديدة ؟ ومَنْ منكم طالب بإعادة تأهيل دُور الشباب، وهي تتوفر على مكتبات لم يتم تجديدها منذ زمن بعيد، وقاعات للتمثيل، وللسينما، والموسيقى والرقص، لتصبح فضاءات لاسقطاب الشباب، ولوضعهم في سياق مجتمع المعرفة؟ مَنْ منكم طالب باستحداث وصلات إشهارية للكتب والمجلات والجرائد، وبرامج إخبارية، في التلفزيون، تتم فيها تغطية البرامج والمهرجانات الثقافية والفنية، وليس بتخصيص ساعات كاملة، لبرامج ومهرجانات موسمية، أو تابعةً للدولة أو لبعض الجهات الموالية لها ؟ مَنْ منكم طالب بالاحتفاء بالثقافة المغربية الحديثة، في المعرض الدولي للكتاب، واسْتِضَافَة المغرب لنفسه، لمثقفيه ومفكريه، ويكون الآخر، شرقاً أو غرباً، قارئاً لنا، بدل أن نكون نحن من نقرأه دائماً؟ ومَنْ منكم طالب بوضع ميزانية لنشر الشعر والقصة والرواية، وبعض الأجناس الكتابية المغربية التي بات الناشر عازفاً عن نشرها، بادعاء أنها لا تجلبُ أموالاً ؟ فما تضخه وزارة الثقافة من مال لدعم السينما والأغنية، مَنْ طالب منكم بالتعامُل بالمثل مع النشر ودعم المهرجانات الثقافية والفنية، وتوسيع قاعدة القُرَّاء من خلال برامج دعائية، ونشر طبعاتٍ شعبية بأثمانٍ مِلْكَ اليد ؟ ومَنْ منكم طالب بتخصيص جزء من أموال الجماعات المحلية وعُموديات المدن لدعم النشر، وتجهيز مكتبات المدارس والجامعات، التابعة لترابها، بما تحتاجه من مراجع ومن وسائط معرفية مختلفة ؟ أليس في فتح أبواب هذه المكتبات في العُطَل، في وجه الطلبة والباحثين، ما يجعل من التلاميذ والطلبة يكتفون بمحيطهم دون عناء الذهاب إلى مكتبات، ربما، لا يملكون وسائلَ للوصول إليها ؟ هذا بعض مما علينا أن نخوض فيه، لنبقى في أراضينا، ما دام الشعار الثقافي، بالمعنى الذي أشرتُ إليه هنا، غير حاضر لا في شعارات شباب 20 فبراير، ولا في مطالب الأحزاب السياسية، التي يَنْتَفِي المعنى الثقافي من برامجها، ومن حملاتها الانتخابية، وفي وعيها السياسي. فلماذا سنعيد نفس النشيد، ونكرر مطالب أصبح الكل يَلُوكُها، وأصبحت منتشرةً في صفحات الرأي، في مختلف الجرائد اليومية؟ نحتاج وقود الثقافة لتحريك عربة الدولة، نحتاج إلى سياسة ثقافية واضحة المعالم، تتبناها الدولة أو تكون شريكاً في وضعها، وفي رصد ميزانياتها، كما نحتاج إلى تغيير سلوكنا الثقافي، بوضع الديمقراطية أمامنا لا وراءنا. فالمثقف، مهما تكن التعثُّرات التي يعرفها وضعه قياساً بجرأة الشباب في المطالبة بالتغيير، أو التذكير بما كانت الأحزاب تجاهلته، في مقابل صفقة التناوب، فالمجتمع في حاجة إلى المثقف، ولرأيه وقراءاته، في حاجة إلى استشاراته، وإلى سماع صوته، لأن مجتمعاً بدون مثقفين هو مجتمع أعمى، لا يمكنه أن يَنْجُوَ من الظلام. (*) كاتب وشاعر