بخطى متثاقلة في جو مراكش البارد في شهر دجنبر الماضي سار وهو يحمل جريدتيه المفضلتين «لوفيغارو» و«لوباريزيان» الفرنسيتين. بدأ يستحث الخطوات من بيته بالحي الشتوي خارج المدينة القديمة، عرج على نافورة باب جديد ومنه سار بمحاذاة فندق المامونية متوجها إلى وجهته المفضلة، مقهى كمال في شارع الأبناك، المكان المفضل الذي يرتاح فيه ويزجي بعض الوقت بعدما عاد مؤخرا مكرها من بلاد الغربة. كانت مئات الأمتار التي قطعها ادريس من بيته إلى المقهى وهو شارد الذهن وآلام الحسرة تعصر فؤاده بعد اضطراره للعودة إلى المغرب جراء تسريحه من العمل من شركة لصنع الحديد والصلب في منطقة «الرون» الفرنسية شأنه في ذلك شأن الكثيرين من المغاربة نتيجة للأزمة الاقتصادية التي عاشتها وتعيشها فرنسا وغيرها من البلدان الأوروبية. نزلت الأزمة الاقتصادية في بلدان الاستقبال بثقلها على الجالية المغربية في الخارج، وفقد العديد من المهاجرين أعمالهم لايجدون أمامهم خيارا آخر غير البحث عن عمل جديد أو العودة إلى بلدهم مع ماتبقى من مدخراتهم بعدما استبد بهم القلق على مصير وظائفهم بسبب تداعيات الأزمة المالية وانعكاساتها على سوق العمل. الشركات المتضررة أو تلك التي ألغت عقود العمل لمستخدميها هي في الأصل شركات بناء السفن والأشغال العامة والبناء والسياحة وصناعة السيارات والملابس الجاهزة والنسيج والخدمات السياحية. كان إدريس قد التحق بباريس للاشتغال قي شركة الحديد والصلب منذ ثلاثة عقود من الزمن كانت خلالها أوروبا بصفة عامة و فرنسا بصفة خاصة تدشن ثورتها الصناعية الثانية وتشهد طوال تلك الفترة نموا وازدهارا اقتصاديا عميقا ففتحت أبوابها أمام المهاجرين لتلبية حاجياتها من اليد العاملة. كان المهاجرون يفيضون قوة وشبابا وفي أوج عطائهم، يقول إدريس، ويعملون بجد ونشاط كبيرين رغم هزالة الأجور التي كانت أدنى من المتوسط ولاتوازي مايقدمونه من خدمات للاٍقتصاد الفرنسي، أما عندما ظهرت الأزمة الاقتصادية الأخيرة فإن أول من اكتوى بنيرانها هم المهاجرون وخاصة من مهاجري المغرب العربي، المغرب والجزائر وتونس. ويضيف إدريس «نودي علينا ذات صباح من أيام أكتوبر وأخبرنا المكلف بالموارد البشرية، أن الشركة تعرف مشاكل مالية كبيرة وأن لاحل إلا تسريح العشرات من عمالها وخاصة ذوو الوظائف البسيطة. لم تكن هذه هي المرة الأولى التي تستغني العديد من المقاولات الفرنسية سواء العمومية أو الخصوصية عن بعض من عمالها بل كانت هناك سوابق كثيرة لكنها في السابق كانت نتيجة لانعكاسات السياسة الفرنسية المتجهة أكثر فأكثر نحو تحديث وعصرنة الهياكل الصناعية وخصوصا في قطاع السيارات، وانعكس ذلك على العمال المهاجرين لاسيما المغاربة الذين تم تسريحهم بالمئات بالرغم من النضالات التي خاضوها مع النقابات الفرنسية وخاصة نقابة «سي. جي. تي» والكل مازال يتذكر نضالات عمال شركة «رونو» و«ستروين» في أواخر السبعينات وأواسط الثمانينات بهذا الخصوص. هجرة العودة أو الهجرة المعاكسة هي الشيء الحتمي هو الإكراه الذي يواجهه الجيل الأول من المهاجرين عكس الشباب الذين عبر 70 في المائة منهم في دراسة فرنسية أنهم يرغبون في البقاء في فرنسا في الوقت الذي قال فيه 25 في المائة منهم أنهم يرغبون في حمل الجنسية الفرنسية. والحقيقة أن أسباب الهجرة تبقى هي العامل الذي يحدد مدى بقاء المهاجر أو عودته. فالظروف الاقتصادية الصعبة وانتشار البطالة في المغرب من الأسباب التي تدفع بالمغاربة للهجرة إلى فرنسا أما عن الجانب الآخر فإن الظروف التي يعيشها المهاجر المغربي في بلاد الاستقبال وخاصة في فرنسا تكون المحدد بشكل كبير، خاصة أن الأجور بقيت أدنى من المتوسط في غالبية الأحيان وتجهيزات الاستقبال التي هيئت والتي كانت في دور الصفيح والتجمعات الانتقالية، إضافة إلى الاستغلال الفظيع من طرف الباطرونا. وينهي ادريس كلامه: «الإهمال والتهميش والأمية وغياب التكوين المهني كانت هي نصيب المهاجرين من الإقتصاد الفرنسي الذي بنوه بسواعدهم وعرق جبينهم». عمل متواضع خير من الخروج إلى الشارع على الرغم من بوادر الانتعاش التي بدأت تظهر على الاقتصاد الأمريكي تستمر الخسائر البشرية الناتجة عن الركود الاقتصادي في الارتفاع، حيث يبقى مئات الآلاف من الأمريكيين من ذوي جنسية البلد أو المهاجرين من دون وظائف ولامدخرات. وتركت الأزمة الاقتصادية الأخيرة وراءها عددا كبيرا من المهاجرين دون عمل، بالمقارنة مع ماحدث في حالات الركود السابقة بعد أن عجرت عجلة الاقتصاد عن خلق وظائف جديدة والحفاظ على العديد من الحالية، والمواطنون الذين اعتادوا على مستويات العيش وحياة الطبقة الوسطى باتوا يعتمدون حاليا للمرة الأولى في حياتهم على إعانات حكومية. تعيش «زينب» الشابة المغربية المنحدرة من مدينة «المحمدية» في جنوب «كاليفورنيا» من دون عمل بعد أن فقدت عملها قبل أكثر من تسعة أشهر في شركة أمريكية كانت تبيع من خلاله أجهزة صالونات «التدليك». وخلال هذه الأشهر عاشت من دون إعانات البطالة وبلا راتب واعتمدت فقط على بنوك طعام محلية تقدم الأكل بالمجان مع بعض المساعدات البسيطة. تقول زينب: «بعد أن اشتدت البطالة علي، وخنقتني، وأنا التي تعودت على مستوى معيشي ملائم وأقوم بإعانة العديد من أفراد الأسرة في المغرب، لم أجد من مخرج إلا البحث عن عمل كيف ماكان، المهم أن يلبي بعض حاجياتي اليومية، ولم أجد بعد أسابيع من البحث إلا عملا في مصحة للمعاقين، فأصبحت أقوم بتغيير حفاظات المعاقين وهو العمل الذي ورغم أنه «وضيعا» إلا أنه أفضل من بعض الأعمال التي لجأت إليها العديد من المغربيات وأخريات من جنسيات أخرى كاللجوء إلى العديد من المحلات التي تؤجر الأجساد للممارسات الجنسية المنتشرة بشكل كبير في ولاية كاليفورنيا». وتضيف زينب: «استنفدت إعانة البطالة الخاصة بي مرتين، قبل أن يتم تمديدها، وفي الشهر الماضي استنفدت الإعانة مجددا ولم يبق لي حق فيها إلا بعد فترة معينة، وفي الوقت الحالي أنا مضطرة لأسدد إيجار الشقة التي أقيم فيها والبالغ 1280 دولارا، وأفكر وأنا في ظروفي الحالية في احتمالية أن أصبح بلا مأوى، وقد يصبح ذلك قائما بدرجة كبيرة». العودة إلى الوطن حتى تنقشع الأزمة الأزمة طالت أيضا بلدان الخليج العربي التي عرفت هجرة مغربية متواترة انطلاقا من أواسط السبعينات بالنسبة للعربية السعودية والكويت وفي أواسط الثمانينات بالنسبة للإمارات العربية المتحدة والتسعينات في باقي بلدان الخليج البحرين، قطر وسلطنة عمان. ومن بين دول الخليج الست التي عانى فيها المغاربة من آثار الأزمة التي لم تسلم من تبعاتها هذه البلدان دولة الإمارات العربية المتحدة وخاصة إمارة «دبي» التي تعرف حضورا مغربيا كبيرا وخاصة في قطاع الخدمات.. خلف إعلان حكومة دبي عجزها عن سداد الديون المترتبة على شركتي دبي العالمية والنخيل الاقتصادية ومطالبة الإمارة الدائنين مهلة جديدة لسدادها، ذعرا كبيرا في الأوساط المالية والاقتصادية بالمنطقة، امتدت آثاره نحو المشاريع العقارية والسياحية التي توقفت بفعل غياب السيولة المالية. المغاربة المقيمون في الإمارات العربية المتحدة، لم يسلموا بدورهم من شظايا الأزمة المالية في هذه الإمارة الخليجية وخاصة من العاملين في القطاعات السياحية والتي عرفت ركودا كبيرا لاسيما في إمارة دبي التي تعتبر من أكثر الوجهات استقطابا لسياحة الأعمال والتسوق. ويوضح ذلك كله شعور القلق الذي تعانيه «بهية» الشابة المغربية وهي في خضم البحث عن وظيفة جديدة بنوع من الألم أصبح مألوفا في كل مرة تنظر فيها إلى قوائم الوظائف على جهاز الكمبيوتر الخاص بها. فقدت «بهية» وظيفتها كمترجمة إثر التراجع في الإقبال على سياحة الأعمال والمؤتمرات، وكانت قبلها تحصل من عملها على أجر يصل إلى خمسة آلاف دولار إضافة إلى بدائل السفر الذي تقوم به بين الحين والآخر إلى بريطانيا والولايات المتحدةالأمريكية رفقة رجال أعمال إماراتيين وخليجيين، لحضور مؤتمرات وملتقيات دولية. هي الآن عاطلة عن العمل ومضطرة إلى تسديد حوالي ألف وخمسمائة دولار نظير الشقة التي تكتريها وألف ومئتي دولار القرض الشهري الخاص بسيارتها ومصاريفها اليومية زيادة على الإعانات المادية التي ترسلها إلى ذويها في المغرب. تخرجت «بهية» المتحدرة من القنيطرة من مدرسة الملك فهد للترجمة بطنجة وأمضت دورة تكوينية في كلية «بريستول» ببريطانيا. بعدما أعياها الأجر الهزيل الذي كانت تتقاضاه في مكتب للترجمة في الرباط، حلت بالإماراتالمتحدة منذ سبع سنوات للاشتغال كمترجمة فورية في مركز للمؤتمرات في فندق فاخر في دبي. عملها يتحدد في القيام بالترجمة الفورية في اللقاءات والندوات والملتقيات الدولية التي أصبحت دبي أحد الأماكن المفضلة لعقدها. تقول «بهية» : «أصبحت أفكر في العودة إلى الوطن مرحليا على الأقل حتى تنقشع غيوم الأزمة في الإمارات العربية المتحدة وبعدها لكل حادث حديث رغم أن تفكيري لم يتوقف علىالبحث على وجهة جديدة وآفاق جديدة قد تكون في سنغافورة أو أستراليا».