(…) لكن عندما تأملت هذه الفلسفة في حقيقة هذه الكينونة، لاحظت أنها لم تكن طبعا هي خالقة نفسها بالشكل الذي تحس به، بل وجدت نفسها كما هي عليه بدون سابق تفكير، أو إرادة في إخراج هذا التفكير إلى حيز الوجود، كما لاحظت أيضا أنها تجهل بداية وجودها، ونهايته، بل ومصيرها كله في الحياة، حينذاك أدى بها هذا التأمل إلى إدراك أن هذه الكينونة رغم عظمتها وكمالها السابقين، فهي صغيرة وناقصة أمام خالقها الذي أمدها بالحياة والوجود، ومن ثم توصلت هذه الفلسفة الى الحقيقة الثانية المتمثلة في إدراك حقيقة وجود الله المنقوشة في أعماق الإنسان، مبرهنة على يقينيتها بقانون ثابت مبتكر من طرفها هو : « أنا موجود، إذن فالله موجود ». ذلك أن ديكارت إن كان قد اختزل يقينية وجود الإنسان في قانون : «أنا أفكر، إذن أنا موجود»، المعروف بالكوجيطو، فإن هذه الفلسفة قد اختزلت يقينية وجود الله في القانون الآنف الذكر، «أنا موجود، إذن فالله موجود»، الذي تعتبره حاسما في إثبات هذه الحقيقة، على اعتبار أن من ينكره يؤدي به الأمر إلى السقوط في الزعم بأنه موجود بإرادته، وبأنه هو خالق نفسه، والمجنون فيما تعتقد هو من يجرؤ على ادعاء مثل هذا القول. أما الحقيقة الثالثة التي انكشفت لهذه الفلسفة في رحلتها في أعماق الكينونة، فتتجلى في طبيعة حقائق الحياة، إذ توصلت أن كل ما في الكون من كائنات وموجودات – باستثناء مصنوعات الإنسان ومبتكراته – يعتبر الحقائق الإلهية محضة، على اعتبار أنها من خلق الله وصنعه، كما توصلت إلى انقسام هذه الحقائق إلى قسمين كبيرين هما : حقائق مادية، وحقائق غير مادية الأولى تدرك بالحواس الخمس المعروفة، أما الثانية فتدرك بالتسبرك، وهو مصطلح جديد جاءت به هذه الفلسفة، مفاده سحب نور الفكر من خارج الكينونة، وتوجيهه إلى داخلها، لاكتشاف ما نقش بداخلها من حقائق الحياة غيرالمادية. هذا وقد برهنت على انقسام حقائق الحياة الى هذين القسمين الأساسيين بمثال نواة النخلة، أو أية نواة أخرى، مؤكدة أن ما يتعلق بحجم هذه النواة وكذا شكلها ورائحتها ومذاقها، يدخل ضمن الحقائق المادية التي تدرك بالحواس، أما نظام حياة هذه النواة والقوانين التي توجهها لكي تتحول إلى نخلة باسقة، فيدخل ضمن الحقائق غير المادية التي لا تدرك بالحواس و لا بأدق الآلات المساعدة للحواس. وهكذا وبالبداهة استنتجت من هذه الحقيقة أن الله نقش في أعماق الجنس البشري نظام حياته، وكذا القوانين الموجهة إلى سلوكه، وذلك مثلما نقش في أعماق النواة وغيرها من كائنات الكون نظام حياتها القار. وهذه الحقيقة قادتها بدورها إلى حقيقة السعادة، التي تعتبرها مكافأة إلهية صرفة، ينالها حتما كل من اتبع نظام حياته المنقوش في أعماقه، من منطلق أن الله لما نقش سلفا قواعد السلوك في أعماق الإنسان، فمن البديهي أن يربط تحقيق السعادة باتباع تلك القواعد وعدم الخروج عنها، بدليل أن من يحصل مثلا على شيء بالاحتيال، أي بسلوك الثعلب، فإنه حتما لا يشعر بالسعادة في اللحظة التي يلتذ فيها باللذة المؤقتة لذلك الشيء المختلس، لأنه يعلم في قرارة نفسه أنه خان ذاته بتصرفه الحيواني، بدل تصرفه الإنساني. وعندما تعمقت هذه الفلسفة في كنه السعادة، وجدت أن نهجها وطريقها يقوم على ست مستويات هي : مستوى سعادة الصحة، مستوى السعادة الاجتماعية، مستوى سعادة المعرفة، مستوى سعادة الجمال، مستوى سعادة أبروك (الكينونة)، وأخيرا مستوى السعادة الإلهية. هذا وقد تأكد لها أن الشعور بالسعادة الحقيقية الكاملة، يحصل بضرورة تذوق جميع أنواع السعادات الآنفة الذكر، دون إهمال أية واحدة منها، وذلك مثلما تحصل اللذة الحقيقية الكاملة لأكله الطعام من عدم إهمال أي شيء داخل في تكوينها كالزيت أو الملح أو الماء أو درجة الحرارة أو غير ذلك. وانه لإثبات هذا الأمر قدمت برهان تناول برتقالة، مؤكدة أن لذتها الحقيقية الكاملة لا تحصل الا بتنسم رائحتها، وتأمل ألوانها، وتحسس ملمسها، وتذوق طعمها، كذلك السعادة لا تكتمل أيضا الا بالاستمتاع بجميع مستوياتها، من منطلق إدراكنا نقص الشعور بها حتما، لدى الإنسان الذي يعاني صحيا من ألم مرض معين، أي الذي لم يستوف سعادة المستوى الأول من نهج السعادة المتعلق بسعادة الصحة، ثم نقص هذا الشعور أيضا لدى المرء المتأزم بمشكل اجتماعي معين، أي الفاشل في اجتياز المستوى الثاني من النهج، وكذلك نقصه لدى الغارق في ظلمات الجهل، أي الذي لم يبرح المستوى الثالث، وأيضا لدى غليظ الطباع الفج الذوق، الذي لم يصل إلى المستوى الرابع، ومن الطبيعي أن تكون هذه السعادة ناقصة كذلك لدى الإنسان الذي يقضي حياته كلها جاهلا لحقيقة كينونته، حيث يكاد يشبه في هذه الحالة، من يعيش طول عمره جاهلا لملامح وجهه، وأخيرا من البديهي أن يحس بهذا النقص من كان محروما من معرفة حقيقة الله المنقوشة في أعماقه. أما المدهش حقا في هذه الفلسفة فهو إثباتها أن دستور الدولة الحقة، الذي يتضمن قواعد بناء واستقرار المجتمع السياسي الحقيقي، التي من ضمنها العمل بالديموقراطية، هذا الدستور قد نقشه الله أيضا في فكر الإنسان، باعتباره يشكل العمل الوجودي الذي يحقق به هذا المجتمع ذاته، ويحصل بواسطته على سعادته الاجتماعية. وقد برهنت على هذه الأطروحة بحقيقة فطرة الإنسان الاجتماعية التي تدخل في التدبير الإلهي المحض، لملاحظتها أن مخلوقات الأرض تنقسم إلى قسمين، قسم خلقه الله ليعيش في المجتمعات كالنحل والنمل والبشر والماشية وغير ذلك من الكائنات الاجتماعية، وقسم خلقه ليعيش عيشة فردية كالثعبان والعنكبوت وسلاحف الرمل الضخمة وغير ذلك من الكائنات الفردية ، ومن هذه الحقيقة استنتجت أن الله لما كان هو من خلق الجنس البشري ليعيش في المجتمع مثل النحل والنمل، فمن المنطقي أن يكون الله قد نقش في فكر البشرية نظام اجتماعها وتلاحمها في مجتمع، كما نقش في أعماق النمل والنحل نظام هذا الاجتماع. ومن هنا انتقدت هذه الفلسفة نظرية العقد الاجتماعي التي تقول بأن المجتمع الإنساني مخالف لفطرة البشر، وإنه من صنع الإنسان وإبداعه، أو هو ثورة الإنسان على هذه الطبيعة الفردية المتوحشة إن صح التعبير، وقد استندت في انتقادها لها على فكرة منطقية مفادها أن الله لو كان قد خلق الإنسان ليعيش عيشة فردية كالثعبان وسلاحف الرمال وغير ذلك من الكائنات الفردية، لاستحال عليه استحالة مطلقة أن يؤسس المجتمع بعقد اجتماعي، لأن فطرة الكائنات لا تتغير بالعقود أو بالاتفاقات، ومن تم اعتبرت العقد الاجتماعي حجة ضد هذه النظرية، وليس لصالحها، لأن هذا العقد يشكل الدليل الذي يكرس الطبيعة الاجتماعية للإنسان، من منطلق أن هذه الطبيعة هي التي تدفع الإنسان دفعا إلى العيش في المجتمع ليزداد به قوة وقوتا وأمنا وراحة ومعرفة وسعادة. فالمجتمع السياسي حسب ملاحظة هذه الفلسفة يتأسس بطريقتين : إحداهما تتمثل في العقد الاجتماعي المبني على الاختيار والإرادة الحرة والمساواة الكاملة في الحقوق الطبيعية، والثانية تتمثل في الإكراه بقوة السلاح أو المال أو غير ذلك من أنواع القوة، التي تمنع الأفراد من ممارسة حقوقهم الطبيعية أو بعضها . المجتمع الأول يشخص فيه أفراده دور المجتمع الإنساني الحقيقي، أما الثاني فيشخصون فيه دور القطيع الإنساني. وهكذا طالما ثبت ان الانسان لايمكنه ان يعيش بمفرده الا اذا كان الاها أو مجنونا كما قال ارسطو، فانه منذ وجوده على وجه الارض محتوم عليه ان يعيش في أحد هذين المجتمعين، مما يجعل نظرية العقد الاجتماعي التي تدعي خلاف ذلك خيالية وغير واقعية. هذا وبعدما لاحظت هذه الفلسفة دخول قاعدة الديموقراطية ضمن قواعد الدستور الإلهي المنقوش في فكر الإنسان، فقد استنتجت من ذلك أن المفهوم السائد للديموقراطية القائل بانها : « حكم الشعب بالشعب للشعب « يعتبر ناقصا، لا يؤدي تطبيقه الى تمكين المجتمع السياسي من تحقيق ذاته، مع ما يترتب عن ذلك من مزايا ومحاسن، مؤكدة أن المفهوم الحقيقي للديموقراطية المحقق لتلك الأهداف هو: « حكم الشعب بالشعب للشعب بالدستور الإلهي الاجتماعي المنقوش في فكر الإنسان». وأنه نظرا لإدراكها أهمية هذا الدستور الإلهي في حياة المجتمعات السياسية، اعتبرته هو الذي ينبغي أن يشكل روح القوانين الوضعية ومرجعها الاساسي، خلافا لما ذهب إليه الفيلسوف مونتيسكيو في مؤلفه (( روح القوانين))، الذي يعتبر روح القوانين متغيرة ومتعددة، وفي هذا الصدد رأت أن النظام القانوني لجميع الشعوب ينبغي أن يكون كشجرة باسقة جذرها الفكر، وجدعها الدستور الالهي الكامن في هذا الفكر، وفروعها المساواة في حقوق الإنسان الطبيعية والاجتماعية، وأغصانها القوانين الوضعية، وأوراقها الاخلاق ومبادئ العدالة، وثمارها السلام والسعادة الاجتماعية. ولم يفت هذه الفلسفة في حديثها عن المجتمع السياسي أن تستعرض تحقيبا جديدا لكل المراحل التي مر منها هذا المجتمع في مسار تاريخه، بدءا من مرحلة التأسيس في فجر التاريخ مرورا بمراحل انحرافه عن هذا المسار، الى العودة من جديد الى مساره الطبيعي في العصر الحديث. واختم بفكرة الخلود التي تكاد هذه الفلسفة تتميز بها عن باقي الفلسفات الآخرى لا سيما منها الغربية. ذلك انها لم تكتف بتأكيد أن الخلود يعتبر فكرة بديهية يفرضها المنطق ويسلم بها الفكر. كما قال بذلك ليبنيتز، وكانط وغيرهما، بل ذهبت الى ابعد من ذلك بتأكيدها أن حقيقة كيفية الخلود نفسها منقوشة بدورها في فكر الإنسان، مبرهنة على ذلك بالدليل المنطقي السابق المتمثل في نقش الله سلفا في أعماق المخلوقات قواعد خارطة حياتها، وفي ربط الله تحقيق الذات والحصول على السعادة، بالالتزام بهذه القواعد. لكن لما كان الانسان حرا في الالتزام بقواعد هذا النظام او عدم الالتزام بها، خلافا لباقي الكائنات التي خلقت مبرمجة على الخضوع لها، فمن البديهي ان يكون العقاب والثواب مختلفا قبل الموت وبعده، بالنسبة لمن استرشد بخارطة نظام حياته، ومن لم يسترشد بها. أما عن أهم قواعد خارطة نظام الحياة المتعلقة بالانسان فتحددها هذه الفلسفة فيما يلي : القاعدة الاولى : تتمثل في ضرورة معرفة الانسان، سبب خلق الله للكون، بادراكه أن الكون ابداع جميل، خلقه الله لنفسه : لاضفاء مزيد من البهاء والسعادة على حياته، وليمارس من خلاله ملكة الخلق والابداع التي يتميز بها. القاعدة الثانية : هي معرفة سبب خلق الله للانسان، إذ الواجب على المرء كذلك أن يعلم أن الله حينما ميز الانسان عن سائر المخلوقات بالقدرة على الاستمتاع بسعادة المعرفة، وكذا بسعادة تذوق الجمال، فقد كانت مشيئته في ذلك هي اشراك هذا الانسان في متعة نظام الكون وجماله . القاعدة الثالتة : معرفة طبيعة جسد الانسان، الذي لم يخلقه الله مروضا على ممارسة السلوك الانساني الطبيعي، عكس بقية أجساد الكائنات الاخرى التي تخلق سلفا مطيعة ومروضة على ممارسة السلوك الخاص بها، وعدم خروجها عنه، ثم ايضا ضرورة معرفة ان الله حينما ربط الانسان بهذا الجسد المتوحش الغير المطيع، فقد ميزه في مقابل ذلك عن باقي المخلوقات بفضائل ثلات هي : الحرية، والمعرفة، والقدرة، وذلك لكي لايصل الى تحقيق ذاته والى سعادته، الا عن طريق استعمال هذه الفضائل في ترويض جسده على ممارسة السلوك الانساني، بدل السلوك الحيواني أو الوحشي، ومن هنا على المرء ان يحسن هذا الترويض، لكي يستمتع برحلة حياته على متن جسده، كما يستمتع الفارس النبيل بالسفر على صهوة حصانه المسيس. القاعدة الرابعة : ضرورة معرفة نهج السعادة بجميع مستوياته، ثم الالتزام بقوانين السير في هذه المستويات، مثلما يلتزم سائقوا العربات بقوانين السير في الطرقات. القاعدة الخامسة : معرفة طبيعة الثواب والعقاب في حياة الخلود، وذلك بادراك ان السعادة الابدية، أو الشقاء الابدي، رهينان بالاسترشاد، او بعدم الاسترشاد بقواعد خارطة نظام الحياة المنقوشة في اعماق الانسان. القاعدة السادسة : معرفة كينونة الانسان الغير مادية، التي تشكل روحه و جوهره، لكي يصل في فضائها المحدود بفضاء الله الغير المحدود، الى تذوق حلاوة القرب من الله بدون أية واسطة، ولكي يتزود في هذا الفضاء بمعرفة الحقائق الخالدة للحياة بدون معلم. ولابد من الاشارة هنا أن هذه القواعد المختصرة هي ما يشكل لب فلسفة أبروك، وانه والحالة هذه لابد لمعرفتها معرفة واضحة ومتميزة من الرجوع الى مصدرها الاصلي المتمثل في كتاب ( أغاراس ن وورغ ) المترجم ب : « الطريق الذهبي « من طرف مؤلفه : الاستاذ الصافي مومن علي. اذن، يمكن القول ان هذه الفلسفة لا تختلف عن باقي الفلسفات الاخرى في كون السعادة الابدية، والشقاء الابدي، يعتبران هما ثواب الخلود وعقابه، لكنها تتميز عنها بخاصيتين : الاولى تتمثل في ربطها الحصول على الثواب أو العقاب، باتباع أو عدم اتباع الخارطة الالهية المنقوشة في اعماق الانسان. اما الخاصية الثانية فتتجلى في كيفية هذا الثواب، وهذا العقاب، مؤكدة ان السعادة الابدية التي ينالها المسترشد بهذه الخريطة، تتمثل في مكافأته بمشاهدة جسده الكبير، الذي هو الكون، ادراكا منها ان الخلود هو الفرصة التي يحقق فيها الانسان معرفة ذاته الكبرى، والاستمتاع بالتالي بما تزخر به هذه الذات من حقائق وجمالات. هذا ولما كانت إحدى قواعد الخارطة تؤكد أن غاية الله من خلق البشر تتمثل في إرادته إشراك الإنسان في متعة نظام الكون وجماله، فمن البديهي أن يكون الزمن المثالي الذي يتمكن فيه الإنسان من تحقيق هذه الغاية في صورتها الكاملة هو زمن الخلود، الذي يتحرر فيه من ثقل قيود جسده الصغير، فينطلق نتيجة ذلك الى سبر أغوار ذاته الكونية في كامل الحرية والسرعة، ومن تم يقضي حياته الأبدية في الانتقال من سعادة اكتشاف شيء جميل هنا، الى سعادة اكتشاف شيء آخر هناك، وهكذا دواليك ، كما تنتقل النحلة في سهل فسيح من زهرة إلى زهرة . أما بخصوص شكل الشقاء الابدي في الخلود، فقد حددته هذه الفلسفة في غرق الشارد عن بقواعد نظام حياته، في مرارة الندم الأبدي المطلق، الذي ينتج من شعوره بالخسران المزدوج، لتفويته على نفسه من جهة الاستمتاع بسعادات الحياة الأرضية وتفويته عليها من جهة اخرى الاستمتاع في الخلود بحقائق الكون وجمالات ذاته الكونية. فهذا الندم الأبدي هو إذن عقاب ذاتي، يجلد به الإنسان نفسه بنفسه، عما اقترفه في حق نفسه من سوء، نتيجة إهماله القيام بعمله الوجودي الوارد في الخارطة الإلهية المنقوشة في اعماقه. وأخيرا لا يسعني إلا التوقف عند هذا الحد الذي تسمح به هذه المقالة، لأن حجمها محدود، وما تتضمنه فلسفة أبروك من أفكار أكبر من أن تحده حدود المقالات مهما تعددت وتوسعت . محام بالدارالبيضاء