يمتلك التلاميذ رغبة في المعرفة، لكن هذا لا يعني، بالضرورة، أن لهم رغبة في التَعَلُّم، مما يضع المدرسين أمام مفارقة كبيرة. فعندما يُطرح على التلاميذ سؤالا، أو يطرحونه على أنفسهم، أو يواجهون مسألة تتطلب حلا، فإنهم يريدون فقط الجواب، حيث يظنون أنه يمكن الحصول على المعرفة حالا. وهذا ما يتعارض مع طبيعة الأشياء، إذ هناك وضعيات تَعَلُّمية كثيرة لا يمكن الحصول فيها على المعرفة فورا، لأن ذلك يقتضي القيام بسلسلة من العمليات، حيث إن التعلم سيرورة معقدة قد تكون أحيانا مُتعِبَة ومُمِلَّة، كما أنها تتطلب صبرا ومثابرة ووقتا قد يطول. إنه من الممكن الحصول على معرفة ملموسة بشكل سريع، لكن عندما يتعلق الأمر بمعرفة تجريدية، كما هو الحال بالنسبة للمعارف التي تسعى المدرسة إلى بنائها من قِبَل التلاميذ، فإن هذا يتطلب وقتا قد يطول. إننا إذا أردنا، مثلا، أن نكتسب لغة قراءة وكتابة، أو نفهم الظواهر الطبيعية التي تعالجها مختلف العلوم...، فإن إنجاز ذلك يتطلب مدة أطول، إذ لا يمكن أن يحدث فورا. لا أحد يجادل اليوم في أن القراءة ليست هي القدرة على تَهَجِّي الحروف والكلمات، ولكنها فهم ما نقرأ، حيث إن القراءة السليمة هي تلك التي تمنح معنى لما يتم فك رموزه. وهذا ما ينطبق على الرياضيات التي لا يتم الاكتفاء فيها بالقدرة على إنجاز بعض العمليات بشكل ميكانيكي (معرفة القيام بعمليات الإضافة، أو الضرب، أو القسمة...)، بل يتطلب الأمر اكتساب معنى العمليات التي يتم إنجازها لاستيعاب المفاهيم والقدرة على الاشتغال بها ومجاوزتها مستقبلا إذا أمكن ذلك. إن تلاميذنا يدرسون الرياضيات ومختلف العلوم بشكل آلي، حيث يتدربون فقط على حل المسائل بشكل ميكانيكي دون إدراك معاني ما يدرسونه، لأنهم لا يكتسبون المفاهيم ولا يقدرون على توظيفها، مما يجعلنا نخلص إلى أنهم غالبا ما لا يستوعبون منها فتيلا. ولا يقتصر ما قلناه على الرياضيات فحسب، بل ينسحب أيضا على كل المعارف الأخرى وحتى على كافة أنشطة الحياة. فالإنسان يبحث في الدين والفن والعلم عن دلالة ما يحيط به، إذ إنه لا يستطيع تقبل الفراغ. إنه يمنح معنى للكائنات والأحداث والأشياء، حيث إنه عندما لا يجد لها معنى، فإنها تكون كالطعام بدون ملح ولا توابل، مما يجعلها فاقدة لأي طعم. ويؤكد المحللون النفسيون أن حاجة الإنسان إلى المعنى توجد فيه منذ ولادته. وهذا ما يفرض علينا التساؤل عن المكانة التي يحتلها المعنى في سيرورة التَعَلُّم داخل الفصل الدراسي، وكذا عن ماهيته، وعن الأفراد الموجه إليهم، إذ غالبا ما يقود غياب المعنى أو ضبابيته التلميذ إلى الانسحاب والجمود والشلل... يرغب المدرسون في تحفيز التلاميذ، ويعتبرون غياب الحافز مشكلا. كما أنهم حولوه إلى مطلب يعبرون عنه بشكل مستمر. ويرى بعض الباحثين أن هؤلاء المدرسين لا يطرحون المشكل القائم فعلا، لأنهم يتوقفون عند قول إن التلاميذ غير محفزين، ويعتقدون أنهم قالوا كل شيء. لكنهم لا يدركون أن الاكتفاء بما قالوه لا يُمَكِّنهم من أن يخطوا أي خطوة في اتجاه البحث العميق عن الأسباب الفعلية التي تهمنا في هذا الصدد بشكل مباشر. فالحافز، في نظر أغلب الباحثين، ليس سببا، وإنما هو نتيجة. وهكذا، ينبغي معالجة الأسباب كي نتقدم. لقد تكاثرت الألعاب التربوية في عصرنا بشكل كبير، وأصبح البعض يرى أنه من المنطقي اتخاذها مدخلا للتحفيز على التَعَلُّم. وما يميز هذه الألعاب هو امتلاكها لجاذبية تجعل الأطفال يُقبلون عليها بتلقائية. ونظرا لكونها كذلك، يظن البعض أن التعلم يحدث بدون وعي عن طريق اللعب، مما يعفي المتعلم من بذل المجهود المضني الذي يقتضيه التعلم. وبناء على هذا الظن، يبذل المدرس جهده لتحبيب اللعب إلى التلميذ كي ينخرط فيه. وهذا ما ينجم عنه تحويل العمليات التعلُّمية إلى مجرد أنشطة لعب خالية من أي مجهود يوصل إلى إدراك معاني الأشياء... ينهض هذا النوع من التفكير على جعل التلاميذ يتعلمون دون أن ينتبهوا إلى ذلك، أو يَتَبَيَّنُوه. لكن ممارسي هذا التفكير لا يدركون أنهم لا يفعلون سوى إفراغ النشاط التَعَلُّمي من أي معنى، مما يفرض عليهم الانتباه إلى كيفية استعمالهم للألعاب التربوية حتى لا تحول دون اكتشاف المتعلمين لمعاني ما يدرسونه من معارف عبر انخراطهم الفعلي في بنائها... لا يمكن إحداث الرغبة لدى المتعلمين عبر تحوير الواقع لجعله جذابا، وإنما عبر الارتكاز عليه وإدماجه ضمن مشروع شخصي للمتعلم لكي يتمكن من منح معنى لما يتعلمه. وهكذا، يظهر لي أن عدم توفر الحافز لدى التلاميذ راجع إلى أن العمل الذي يُطلب منهم إنجازه خال من أي معنى بالنسبة لهم. وهذا ما يُنَفِّرُهم منه، إذ يمكن للمعنى أن يخلق، ولو جزئيا، الحافز لديهم. ولا نقصد هنا بالمعنى ما يمكن أن يستخرجه المدرس من المضامين التي يُدَرِّسُها للمتعلمين، وإنما هو ما يشكل معنى بالنسبة للتلميذ ذاته... عندما يخرج الطفل إلى الوجود، فإنه يمنح معنى للتغيرات التي تطرأ على وجه أمه، وكذا إلى كل ما يلتقطه من حركات ومؤشرات وصور في محيطه. فالأمر عنده عبارة عن بحث مستمر، حيث إنه، ومنذ صغره، لا يتوقف عن طرح الأسئلة. وإذا سايره المجتمع، ولم يتوقف عن الإجابة على أسئلته، ولم يُدِر ظهره إليه ويقضي على حب استطلاعه، فإنه يستمر في طرحها بدون كلل ولا ملل طيلة حياته. وهكذا، فإن لكل شيء في نهاية المطاف معنى، إذ لا يمكن أن نعيش بدونه. وعندما يكون نشاط معين فاقدا للمعنى، فإن ذلك يفضي إلى القلق والضجر والنفور، حيث نحس بالضياع والانحسار ونتوقف عن التواصل... إننا عندما نتأمل في سيرورة العملية-التعليمية داخل المدرسة، نراها مجرد سلسلة من الوضعيات التي تُكرر نفسها باستمرار، والتي غالبا ما تكون خالية من أي معنى بالنسبة للتلاميذ. وهذا ما يستلزم الانكباب على معرفة كيفية اختيار هذه المؤسسة لإستراتيجيتها وطرائقها البيداغوجية، حيث لا تقوم بتطويرها، وإنما تقتبسها من إنتاجات غيرها، وتطبقها، بشكل نسقي، على كل فصول البرنامج الدراسي... وتبعا لذلك، فإنها تساهم في فقدان الوضعية التدريسية لكل معناها. يقول المغني الفرنسي Jacques Higelin في إحدى أغنياته:»إن الحياة هي ما يحدث لنا عندما نفعل شيئا آخر». وانسجاما مع هذا المقطع الجميل والعميق، وجب ألا يختلف التعليم عن الحياة. قد يقول بعض المدرسين: «إن هناك تلاميذ كسالى»! لكن يذهب السيكولوجيون إلى أن الأمر ليس بسيطا إلى هذا الحد، حيث يعتبرون «الكسل» نتيجة وليس سببا. إنهم يرون أنه نتيجة للمعنى الذي يتم منحه للأنشطة التعليمية-التعلمية. فلا يكون التلميذ كسولا دوما، بل قد يكون كسولا في وضعية معينة، دون أن يكون كذلك في وضعيات أخرى. وللتدليل على ذلك، يكفي أن أن ننتبه إلى الجهود التي يبذلها بعض التلاميذ، الذين لا ينجزون في المدرسة، لتحقيق هدف معين حَدَّدُوه لأنفسهم في مجالات الرياضة، أو الموسيقى... وهكذا، يمكن القول إن الكسل ناجم عن ضياع المعنى بالنسبة للتلميذ، مما يؤدي به إلى عدم الاستيعاب والانسحاب من سيرورة التعلم... عندما تتوفر الشروط التدريسية الجيدة لانخراط التلميذ في معرفة المعارف عبر بنائها، فإنه يكتشف أهمية العلاقة بالمعرفة وما ينجم عن ذلك من لذة تفتح له أبواب المعرفة. لقد كان اليونان القدامى وغيرهم من المفكرين الذين أتوا من بعدهم يرون أنه لا يمكن أن يكون هناك تعليم ولا تَعَلُّم إلا إذا كانت هناك لذة في ما يتم تعليمه وتَعَلُّمه. ومع ذلك، فإن أغلب الدول لم يخطر ببالها أبدا منح برامجها المدرسية لذة، بل إن ثقافتنا، على العكس من ذلك، ما تزال تشك في أي عمل يُحدث لذة لدى الإنسان، مما جعلها تُعرض عنه وتناهضه... وهكذا، يغدو أساسيا التركيز على اهتمامات التلاميذ، لأن المدارس والمدرسين لا يهتمون، غالبا، بحب استطلاعهم. لكن يجب أن نستحضر أن التلميذ، في الواقع، لا يرغب إلا في ما يعرف. وهذا ما يفرض على المدرسة والمدرسين توفير ما يكفي من الشروط التربوية لجعله يسير في اتجاهات عديدة ويستوعب بدائل مختلفة لم يعرفها من ذي قبل، مما سَيُغني معارفه ويجعله أكثر قوة وحيوية عبر اكتشافها، الأمر الذي سَيُحدث لذة لديه، ويدفعه إلى المثابرة والصبر وتجشم الصعاب والتغلب على المتاعب وبذل مجهود أكثر وأكبر من أجل حصول هذه اللذة. وهكذا، يتم تتويج التعب باللذة، بل تحويله إلى لذة. يقتضي التعلم تعبئة طاقة الإنسان ومجهوده، لكن لا يمكن أن يتم ذلك إلا إذا كان لهذا المجهود معنى، مما يمكن من تجاوز ضعف العزيمة الذي ينتاب المتعلم في اللحظات الأولى للتعلم. لذلك، ينبغي توفير الشروط البيداغوجية الفعالة لكي يعي التلاميذ أنه لا يمكن أن يكون هناك أي تحصيل بدون بذل المجهود اللازم لذلك، إذ إن هذا هو ما سَيُحَوِّلُهم إلى فاعلين قادرين على تحمل مسؤولية تَعَلُّمِهم. فقد يكون المعنى مُحَرِّكا يجعلنا نختار الانخراط في صراع يذهب بنا إلى حد المعاناة. وهذا ما يمنح لعمل الإنسان معنى وقيمة. يرى Georges Snyders أن الاضطرار إلى الانتصار على الذات يُدخل البهجة والسرور على الإنسان، لأنه يحمل معنى. وهذا ما يستوجب منح التلاميذ، الذين يواجهون صعوبة في التعلم، فرصة للابتهاج عبر الاضطرار للانتصار على ذواتهم. وتبعا لذلك، يشكل انتقال اللذة من الانخراط في النشاط التَعَلُّمي إلى الانتصار على الذات ومجاوزتها طريقا مفيدا ينبغي اكتشافه من قِبَلِ المدرسين... ليست هناك معان ولا حقائق نهائية ومطلقة. وتبعا لذلك، فالإنسان مشروع متطور دوما. وهذا ما يقتضي منه أن يتجاوز ذاته بشكل مستمر لكي لا يتوقف أبدا عن المزيد من اكتساب الخبرة والمعرفة والقوة لتحسينَ ظروف حياته... يرى نيتشه في كتابه «هكذا تكلم زارادشت» أن الإنسان ليس إلا كائنا يجب عليه أن يتفوق على ذاته. فما الحياة، في نظر هذا الفيلسوف، إلا إرادة القوة التي تنتصر دائما على ذاتها. يقول نيتشه: «لقد أفضت إليَّ الحياة بسرِّها قائلة: إنه يتحتم عليَّ دائما أن أنتصر على ذاتي. والحقيقة أنكم تسمون هذا إرادة تناسل أو دافعا نحو غاية، نحو شيء أعلى، وأبعد، وأكثر تنوعا. لكن كل هذا شيء واحد وسر واحد. وإني أفضل الفناء على إنكار هذه الوحدة. والحق أنكم حيث تشاهدون ذبول أوراق الأشجار وتساقطها، تشاهدون هنالك تضحية الحياة بنفسها من أجل القوة. ذلك أنه يتحتم عليَّ أن أكون نضالا وسيرورة وغاية ومعارضة للغايات. ويا حسرتاه ! فالإنسان الذي يدرك حقيقة إرادتي، يعرف الطرق الملتوية التي عليه أن يسلكها. وأيا كان الشيء الذي أخلقه، ومهما يكن حبي له كبيرا، فسرعان ما أنقلب ضده وضد حُبِّي له. ذلك ما تبتغيه إرادتي» (هكذا تكلم زارادشت). أستاذ باحث