…والآن نعود إلى قول عصيد وتقوّلات المحرضين. حاولنا خلال مقال سابق التوقف عند أهمية الرأي والاختلاف وحرية التفكير والتعبير في المجتمعات والدول الحديثة باعتبارها أولويات ديمقراطية وبديهيات حقوقية تضمن للجميع حق الوجود والاختلاف والحوار في إطار مقتضيات الحياة المعاصرة ومنظومة الحقوق الكونية والمجتمع الديمقراطي. وكان ذلك بصدد مناقشتنا للهجمة التكفيرية الغير مسبوقة في تاريخ المغرب المعاصر والتي يتعرض لها السيد أحمد عصيد، وهو الحدث الذي أخرج كثيرا من وجوه الإسلام السياسي إلى التحريض في العلن، وكشف بما لا يدع مجالاً للشك مستوياتهم الفكرية والخلقية، وأماط اللثام عن طبيعة فهمهم الخاصة جدا للديمقراطية ولأخلاق وأدبيات الحوار والتناظر. وباعتبار أن الشكل لا يقل عن المضمون أهميّة حينما يتعلق الأمر بالنقاش الحقوقي والقيميّ الرامي لتعزيز حرية وتقدم المجتمعات والرقي بتدبيرها الديمقراطي للاختلافات، فإننا ننتقل الآن من مناقشة شكل الخلاف وإطاره الحقوقي إلى طرح مضمونه وصريحه وخلفيته الإيديولوجية لتوضيح أبعاد وخلفيات الصراع واتهام أحمد عصيد بالإلحاد والكفر. فإذا ما عدنا إلى نصّ مداخلة عصيد في الجلسة الافتتاحية لمؤتمر المنظمة المغربية لحقوق الإنسان، وتمعنا منطوق كلامه وصلب رأيه بخصوص الموضوع القيميّ في الكتاب المدرسي، وسياق ورُوده ومعناه، يتضح أن الرأي المعبر عنه تعرض لتحريف كبير، وبتر من سياقه بتراً وفق أسلوب «ويل للمصلين» الشهير. فالمتدخل لم يقل قطّ بأن النبي محمد (ص) إرهابي ولا بأن الإسلام دين إرهابي كما ذهب إلى ذلك خصومه الإيديولوجيون والسياسيون ممّن خانتهم قواهم وحججهم في النقاش الفكري والثقافي منذ زمن طويل فجلسوا حانقين متربصين، وانبروا ينقبون في محادثات عصيد ومداخلاته بحثاً عما يمكن استخدامه لتحريض عامة الناس وبث الكراهية حيال أفكاره وآرائه. ففي سياقنا الحاضر وفي مغرب القرن الحادي والعشرين الذي يقول إنه منخرط في مسار التحديث وبناء مجتمع الحداثة والديمقراطية والسلم، يحق للباحثين والسياسيين والحقوقيين والتربويين وكافة المواطنين والمواطنات التساؤل عن ماهية القيم التي يتم تضمينها المقررات والكتب المدرسية، ومساءلة مدى انسجام بعض النصوص، خاصة الدينية لما تتصف به من وزن معنوي خاص، مع التوجهات العامة للدولة ومع غايات منظومة التربية والتكوين ونوعية المواطن المغربي الذي نريده للمستقبل. وفي هذا الصدد يتضح جلياً أن تكثيف وتعزيز حضور أسناد الجهاد وأخبار الغزوات القابلة للتأويلات، والتي يبررها سياقها التاريخي والحضاري، قد لا يكون الخيار الأنسب للنموذج التربوي والحضاري الوسطي والمتسامح الذي لا ننفك نقول به، خاصة في محيط تتعاظم فيه دعاوي التطرف ويصور فيه البعض العنف كشرط من شروط الإيمان! فلو تلقى الكتاني الطفل مثلا والعديد من إخوانه تعليمهم الابتدائي والثانوي والجامعي في إطار منهاج دراسي عصري ومنظومة قيمية متفتحة تحضر فيها التربية الإسلامية بمقاربة تنويرية، لما صار الكتاني الشاب و»الشيخ» وإخوانه محرضاً على العنف والتكفير والأفكار السلفية التي تستشري في المجتمع المغربي في الوقت الراهن. إن الإشكالية في الأساس ليست إشكالية تهجم على الدين أو ازدراء لشخص النبي كما حاول المحرضون تصوير وتحريف واختزال ذلك خلال حملتهم التشهيرية، بل هي مشكلة حول القيم التي يريد المغاربة فعلا أن يبنوا منظومتهم التربوية عليها ويشكلون مستقبلهم وفقها. وعليه فإنه من الواضح أن إثارة أحمد عصيد لقضية التأويل التهديدي للرسائل موضوع النقاش، وخاصة عبارة «أسلم تسلم» التي وردت فيها، جاء في سياق تنبيهي بوقعها وإمكانية حدوث هذا التأويل وفرص استغلاله خاصة في إطار الممارسة التربوية والتعليمية التي تخضع للعديد من المتغيرات والنوازع الذاتية والإيديولوجية لمزاوليها، وباستحضار الفئة العمرية للتلاميذ بين 16 و18 سنة، وهي فترة المراهقة الميالة للعنف والتطرف في المشاعر والأفكار، حيث يسهل استدراج المتعلمين من طرف البعض ليفهموا الرسالة بذاك المعنى، في حين أن ثمّة العديد من الأحداث والأسناد الدينية التي تتضمن دلائل السماحة والتي يمكن أن تستثمر بيداغوجيا دون لُبس في التربية الإسلامية لتأكيد وإبراز خطاب الاعتدال والتسامح. أما كلّ ما قدمه وكتبه بعض الإسلاميين عن معنى ودلالة «أسلم تسلم» في مقارعتهم لعصيد فهي تأويلات موازية مفيدة ينبغي أن يُنبه إليها أساساً أساتذة مادة التربية الإسلامية حتى لا يخطئوا القصد مع آلاف التلاميذ والتلميذات المغاربة الذين يمكن أن يكونوا ضحية وقع العبارة ومكر التوظيف. هذا عن قول عصيد الذي أقيمت عليه الدنيا ولم تقعد بعد كما يبدو مع تزايد عدد المحرضين من مختلف التيارات الإسلامية الذين يلتحقون بهذا النقاش بحماسة وتهافت محموم سواء في وسائل الإعلام أو من على منابر مساجد وزارة الأوقاف، وما كان السيد رئيس حكومة البلاد ليسمح لنفسه بالتخلف عن الركب ! أما عن تقولات هؤلاء المتهافتين فيكفي الاطلاع على بعض من ردودهم للوقوف على ما يندى له الجبين من الانزلاقات الخطيرة، لفظاً ومعنى، والصادرة عن «نخبة» من وجوه الحركة الإسلامية في المغرب بمختلف تلويناتها وتياراتها في دليل قاطع عن إخفاقها في تمثل أدبيات النقاش الحضاري وعن عجزها عن تطوير خطابها ومراجعة أفكارها، كما يستدل من تباري الفقهاء والمشايخ والخطباء لإصدار الأحكام القطعية وكيل تهم الإلحاد والعداء لله والتخوين لكاتب ومثقف ذنبه الوحيد مخالفته لهم في الرأي وهو الذي ما فتئ يناظرهم بالتي هي أحسن، ولم يتردد في الدفاع عن حقوق عديد منهم أيام شدتهم. والمؤكد أن كثيراً من هؤلاء يكتبون ويتحدثون في المغرب وعيونهم وآذانهم على الأصداء الواردة من المشرق وكلهم خوف أن يتهموا بالتقصير في «الذود عن حياض الدين». لذلك، وانطلاقا من هذا التوضيح فحدث تكفير وتخوين أحمد عصيد ليس حدثاً طارئا أو معزولا، أو حادثاً عابراً في مساحة الصراع الحاصل في فضاء المجتمع والنقاش العموميين بين مرجعيات قيمية وإيديولوجية وثقافية متباينة، ومشاريع مجتمعية متناقضة، بل هو حدث منتظر باعتبار اللجوء المنهجي للطرف الآخر للعنف الرمزي والتحريض وحرب الدعاية وتحريف الحقائق، واستغلال الدين والاستعانة بقاموس القرون الغابرة في مواجهة خصومه، خاصة حينما يتجرع الهزائم أو يتخوف من فقدان هيمنته على عقول وضمائر الشرائح العامة. كما أنه حادث منتظر في سياق مسلسل التناظر والنقاش الكبير الذي عرفه الفضاء العمومي خلال الشهور الأخيرة على مرأى ومسمع مختلف شرائح المجتمع ما بين بعض الأسماء المحسوبة على الفكر التنويري والثقافة العصرية بدفاعهم العقلاني والمستميت عن المقاربة الحقوقية ومشروع التحديث، وبين بعض من شيوخ التيار السلفي الذين غادروا السجون قبل سنتين على خلفية أحداث 16 ماي الإرهابية ولا يزالون متذبذبين بين المراجعة الفكرية والعودة إلى الأحكام القطعية والقاموس التكفيري، وبعض الإسلاميين، الأكثر التزاماً بمنهج التقية، من التيارات والجماعات الأخرى خاصة «التوحيد والإصلاح» التي تقدم «التغطية الجوية» لمشروع حزب «العدالة والتنمية». إن المعطيات المتوفرة وسياق الاحتكاك بين عصيد وجماعات الإسلام السياسي بالمغرب تفيد بأن من أسباب التطور الأخير في هذه العلاقة ردة الفعل الشخصية والسلالية للسيد الكتاني وللعديد من المحرضين حيال نقاش موضوع «الشرف والنسب الإدريسي» في علاقة بسؤال الهوية والمواطنة في المغرب، وتملل أطراف كثيرة من إثارة عصيد للتناقض القيمي الذي يعتمده النظام السياسي في المغرب من أجل ضمان انقسامية المجتمع وشروط التحكم، والذي تستفيد منه مكونات حركة الإسلام السياسي وتستغله لضمان حظوظها السياسية والإيديولوجية وفي مشروعها الاجتماعي الساعي إلى السيطرة والهيمنة في المستقبل. كما أن هذا الخلاف الذي وصل حد التكفير والتحريض وتأليب الناس من طرف فقهاء السلفية و»جماعة التوحيد والإصلاح» و من أعلى منابر مساجد الله والدولة، يعود أساساً للانتصار الملحوظ الذي حققه عصيد في نقاشه العمومي على أقطاب الإسلام السياسي في عديد من المناظرات، وكذا لكون السياق كان محكوماً باختبار مدى حصول مراجعة فكرية فعلية لدى «النخبة» السلفية التي استفاد شيوخها من العفو ومغادرة السجون في سياق انتفاضات الشعوب ووصول حزب «العدالة والتنمية» إلى الحكم في المغرب. لا شك أن سحابة العنف اللفظي والخطاب التكفيري والتحريض باسم الدين، ومهما بلغ أثرها في النفوس ووقعها في المشهد الحقوقي والديمقراطي في البلاد، ستزول وستنقشع الحجب عن حقيقتها وخلفياتها ليستمر التاريخ في فعله ومنحاه، ولعل فائدتها الوحيدة أن يتعلم منها فقهاء وخطباء الاسلام السياسي -ولعلهم يفعلون- بعض مبادئ تدبير الاختلاف واحترام مخالفيهم في القناعات والأفكار الدوغمائية والتنميطية، وأن يستوعبوا أن الآلية الوحيدة التي تسمح بها الدولة الحديثة لذالك هو الحوار «بالتي هي أحسن» والاحترام المتبادل والتناظر الحضاري في الفضاء الديمقراطي والنقاش العمومي، وليس العنف والتحريض والتحريف واستغلال الدين ومنابر المساجد في إثارة الكراهية وإيقاظ الفتن وتأليب المغاربة على بعضهم البعض.