حجارة تخترق واجهات زجاجية بدون سابق إنذار. تبادل كلمات جارحة مع أشخاص بالغين تقتضي العادة الوقوف أمامهم بكل احترام. الاعتداء على أساتذة، والإفراط في استعمال العنف من باب التقليد، أو رغبة في توفير جو من الحماية داخل عالم الكبار… تصرفات كثيرة تتسم بالعنف يتبناها مجموعة من الأطفال في ترجمة فعلية للعديد من التغيرات التي عرفها المجتمع المغربي، والتي رمت بأولى ظلالها على عالم الصغار الذين تعمل فئة منهم على تغيير صورة المؤسسات التعليمية، وطبيعة العلاقة بين أفراد الأسرة، والجيران. بدون مقدمات يعلو جو من الرعب ركاب الحافلات الذين يتلقون وابلا من الحجارة من طرف أطفال غاضبين، يحاولون الاقتصاص بطريقتهم الخاصة من الحافلة التي تتحاشى نقلهم لتفادي تعنت الصغار الذين تأخذهم حماسة التحدي فيمتنعون عن أداء التذكرة. تأخذ القصة منحى آخر عندما تضطر الحافلة للوقوف ليصعد أكثر من طفل تعلوه نشوة نصر فريقه الكروي، لتتحول الحافلات إلى فضاء تفريغ شحنات من العنف الغير مبرر، « أصبحنا نتخوف من مثل هذه المناسبات.. المشكل عدم قدرتنا على تسجيل أي اعتراض لأن التفوق العددي للأطفال يجعل منهم مصدرا للتخويف.. كلمة جوج غادي يهبطو ويهرسو الطوبيسات بالحجر». * كبار يتحاشون غضب الصغار كسر زجاج الحافلات من أكثر الحوادث التي تترجم العنف المتزايد بين صفوف الأطفال الذين يتخذون من هذه الوسيلة طريقا لتفريغ غضبهم المبرر وغير المبرر في الكثير من الأحيان، حيث تتعرض بعض الحافلات لقصف من أطفال يتبارون في استعراض مهاراتهم في إصابة الهدف، بغض النظر عن الخسائر التي يمكن أن يحدثها هذا النوع من الألعاب العنيفة. مراد سائق حافلة شاب، كاد يفقد عينه بسبب تدخلات الأطفال العنيفة اتجاه السائقين داخل بعض النقاط السوداء، « أحاول تفادي المشاحنات أو الاستسلام لاستفزازات الأطفال حتى أتمكن من إنهاء يومي بسلام، حيث سبق لي أن تعرضت للرجم بالحجارة من طرف مجموعة من الأطفال داخل منطقة مولاي رشيد، لأنني رفضت التوقف نزولا عند رغبتهم..» يقول مراد الذي وجد نفسه عرضة لسيل من الحجارة مما اضطره لحجب وجهه بيديه مما ألحق بهما جروحا بليغة جنبته إصابات أكثر خطورة على مستوى الوجه. وحتى عندما تحامل الشاب على نفسه وحاول النزول من الحافلة لمواجهة من بقي منهم، اكتشف أنه تعرض لسرقة هاتفه ومعطفه الجلدي، « الأسلم لسائق الحافلة اليوم أن يتحلى ببرودة الدم خاصة عند تعامله مع الأطفال المنحدرين من المناطق الشعبية، أو دور الصفيح والسكن العشوائي». النقاط المشار إليها في كلام سائق الحافلة، هي نفسها النقاط التي تثير تخوف الكثير من المارة الذين عايشوا أكثر من مرة بعض الحوادث العنيفة التي يتسبب بها بعض الأطفال، «أصبحت أتخوف من الجلوس بمحاذاة النافذة بعد أن تعرضت للرمي بالحجارة من طرف أطفال ينتمون لأحد الأحياء الصفيحية المحاذية لمحطة القطار بالوازيس» تقول الأم التي تعرضت لجروح طفيفة بيدها، بينما تطاير الزجاج ليصل وجه ابنها ذو الخمس سنوات. تراكم الحوادث المتعلقة بعنف الأطفال المنتمين لدور الصفيح، خلق ما يشبه سمعة سيئة تحيط بهذه الأماكن التي يرى فيها البعض أرضية خصبة لتكوين العديد من الأطفال العنيفين الذين يستغلون هذه الشحنات السلبية لأغراض إجرامية في بعض الحالات. سمية لا تخفي انتقاداتها الشديدة للظروف الاجتماعية التي تعيشها هذه المناطق، وتؤكد أن مثل هذه التخوفات لها مبرراتها وليست نوعا من التحامل، « أنا لا أقصد التنقيص من هذا المحيط، لأنني نشأت فيه لكن الظروف كانت مغايرة، حيث كان سكان المناطق العشوائية يتميزون بأخلاق بدوية بسيطة فيها مكان للاحترام، والعيب لكن الأمور تغيرت كثيرا اليوم، شخصيا من الممكن أن أخاف من طفل أكثر من شخص بالغ» تقول الشابة التي تعمل مدرسة بإحدى المؤسسات الخصوصية بمنطقة عين الشق. تخوف المدرسة سمية لم يكن من فراغ، حيث سبق لها أن تعرضت لهجوم عنيف من قبل مجموعة من الطفلات داخل مسجد قريب من جامعة الحسن الثاني بعين الشق. دخلت الفتاة لصلاة العصر داخل المسجد المتواجد وسط حي هادئ يكاد يخلو من المارة، « كان المسجد خاليا بعد وصولي متأخرة عن وقت الصلاة، لذا شعرت بنوع من التخوف عندما سمعت وقع أقدام .. لكن لا أحد ولج المسجد، بعد لحظات امتدت يد لحقيبتي مما جعلني أشعر بالمزيد من الخوف .. بدون تفكير ركضت خلفها لأجد مجموعة من الطفلات سرقن حقيبتي وحذائي وركضن بسرعة، في الوقت الذي دفعتني ثلاثة طفلات صغيرات نحو الجدار ووجهن لي بعض اللكمات» تقول سمية التي لم تجد بدا من طلب المساعدة من أحد السكان ثم تتصل بزوجها. * « الا متعدتيش على بنادم، غادي هو يتعدى عليك» من المظاهر المسجلة هي عنف الأطفال داخل الأسواق. رشيد الصغير لا يتجاوز عمره الثانية عشر. قصير القامة ببنية قوية. تفوق كلماته سنه بكثير، حيث يتحدث عن معايير الرجولة، والأيام الدوارة، وغدر الزمان، والصبر، والكثير من المفاهيم التي تبدو أكبر من سنه. تثير الندوب على وجهه تخوف البعض ممن لم يعهد التعامل معه، لكن من خبره طفلا في السابعة يعي جيدا أن هذا الوجه لم يكن كذلك يوما، لذا لا يتردد البعض في طلب مساعدته من أجل حمل ما ثقل من الأغراض داخل السوق، أو طلب خدماته في تنظيف السمك… يخفي رشيد “زريقا” كما يحلو للبعض مناداته شخصية وديعة لفئة معينة من الناس، «اللي عاملني مزيان مكنقدرش نهز فيه الراس، ولكن اللي حك عليا منعاودش ليك» يقول رشيد الذي لا يتردد في الاعتداء على كل من يحاول مقاسمته “رزقه”. « أنا موجود في هذا المكان منذ كنت في سن السادسة، لذا لا أحب أن يأتي شخص ويسرق مني زبنائي» يقول رشيد الذي يستعين ببنيته القوية لمعاقبة كل من تسول له نفسه عرض خدماته على الوافدين نحو السوق، لذا يعتذر الصغار عن حمل قفة بعض الوافدين بدعوى أنهم يبيعون الأكياس البلاستيكية، ويكتفون بتحديد الوجهة التي سيجد فيها الزبون الشخص المناسب لحمل قفتهم. مثال رشيد ينطبق على الكثير من الأطفال الذين زجت بهم الظروف رغما عنهم نحو عالم الأسواق القاسي، مما يجعل من جرعة العنف الزائدة الطريق الوحيد لضمان مربع آمن داخل محيط لا يرحم، حيث الكل “مجبول” على الاعتداء، « حيث الا متعدتيش على بنادم، غادي هو يتعدى عليك» عبارة مركزة يلخص فيها رشيد فلسفة السوق الذي يحتاج لجرعة زائدة من العنف، حيث يشكل الشبر الذي يقف عليه طفل ما من أجل بيع كيس بلاستيكي، أو وضع صندوق متهالك لعرض بعض السلع المتهالكة، نقطة مثيرة لأطماع وافدين جدد قد يرون في الأطفال الحلقة الأضعف التي يمكن إزاحتها. * العنف اللفظي الخوف من توصيف الضعف، هو ربما ما يدفع بالكثير من الأطفال إلى ركوب موضة العنف، كنوع من التعبير عن القوة التي تسوق لها التداولات الخاطئة، « فعلت المستحيل لثنيه عن المشاجرات واستعمال الكلام النابي، لكنني فشلت» تقول ثورية التي لا تستسيغ توصيف ابنها ب” ممربيش”، «وصف ابني بعديم التربية يستفزني، ويدفعني للدخول في مشاجرات، خاصة أن الكثير من الخصال السيئة اكتسبها ابني من الشارع وليس من البيت» خصال الابن العنيد، تغذيها ممارسته للرياضات العنيفة بعد أن أصبح “جون سينا” مثاله الأعلى الذي يبحث عنه بين محطات الأكشن، أو الألعاب الالكترونية. لا يقف الإعجاب حد المشاهدة، « كثيرا ما أسمع صراخ ابني الأصغر بعد أن يحكم شقيقه قبضته حول عنقه تقليدا لحركات المصارعة الحرة.. نفس الأمر يحدث داخل المدرسة ومع أبناء الجيران.. عندما أخبره أن مثل هذا اللعب قد ينتهي بحوادث قد تؤدي به إلى السجن، يخبرني أن الرجال لا يخافون السجن». تهاوي أسوار الخوف المحيطة بالمؤسسة السجنية، جعل بعض الأطفال يرون في الحديث عن السجن نوعا من التباهي، «للأسف هناك أسر تغرس بعض الأفكار المدمرة للأطفال، شخصيا أعاين الكثير من الحالات لأمهات يشجعن أبناءهن على العنف من أجل تصفية حساباتهم مع الجيران، خاصة داخل السكن المشترك»، تقول أمينة التي سبق لها أن تعرضت للتحرش من طفل في الثالثة عشر، ليتطور التحرش لمحاولة ضرب بعد أن نهرته الشابة وهي تذكره بأنها في سن شقيقته الكبرى. لم تستسغ والدة المتحرش صراخ الشابة في وجه ابنها، لتدخل معها في مشاداة رامية اللوم على طريقة لباسها، « مللي قلت ليها غادي نديه فين يتربى.. قالت لي غير ديه را قفتو موجودا وخوه كاين تما». مساهمة بعض الأسر في عنف الأطفال تبدو واضحة، وهو ما يدفع الكثير من الجيران إلى التخوف من انتقال العدوى نحو أطفالهم. « أعتقد أن كل اللوم على الأسرة، صحيح أن الشارع والمدرسة يؤثران، لكن يستحيل أن يصل عنف الأطفال حد الاعتداء على الآخرين لو كانت هناك مواكبة جيدة داخل الأسرة» تقول سعاد التي ترى أن هناك بعض الأسر التي تحيط نفسها بجو سلبي ستكون من نتائجه الأكيدة أطفال عنيفين. تتشبت سعاد كما الكثيرين برأيها في دور الأسرة المباشر في إفراز ظاهرة العنف بين الأطفال، « ماذا ننتظر من طفل تخاطبه والدته بلغة زنقاوية، أو تتساهل معه في حال خاطبها بطريقة بعيدة عن الأدب» تقول سعاد التي اضطرت لتغيير مسكنها بسبب كثرة المشاجرات بين جارتها وابنها الذي لم يكن يتردد في وصف والداته بأقبح النعوت، في الوقت الذي ينال فيه الأب حصته من الضرب في حال تدخله لفض النزاع بين ابنه وزوجته. أمام عنف الابن اللفظي الذي كان يشق طريقه لمسامع الجيران، لم تجد سعاد بدا من التفكير في تغيير المسكن خوفا من تطور الوضع بسبب تدخلات زوجها، «لم يكن زوجي يتقبل ذلك الجو المفتقد للاحترام العائلي، لكن ابن الجيران الذي لم يحترم والديه لم يكن ليحترم زوجي، وهو ما خلق نوعا من التوتر الذي دفعني لاقناع زوجي بالانتقال لمسكن جديد، على الرغم من معارضته في البداية لأنه اعتبر قرار الرحيل بمثابة ضعف أمام سلوكات ابن الجيران» الانتقال بأقل خسائر كان هدف الزوجة التي كانت تخفي عن زوجها وأبنائها الكثير من تصرفات ابن الجيران الذي لم يتجاوز سنه الثالثة عشر، إلا أن سنه لم يحل دون اعتدائه بالضرب على بعض النساء اللواتي يقصدن بيت أسرته تذمرا من بعض تصرفاته العنيفة اتجاه أبنائهن، غير أن عنف الطفل كان يمتد للأمهات، « لقد صفع في إحدى المرات سيدة جاءت تشكوه لوالدته، وفي الكثير من المرات رأيته يرمي من يعاتبه على الفوضى، أو لعب الكرة بالحجارة، أو يتسبب له بالكثير من الحرج من خلال ملاحقته بالكلمات النابية…» * عنف داخل المدارس تبني فئة من الأطفال للكثير من التصرفات العنيفة، لم يعد من الحوادث التي يمكن رصدها خلال وسائل النقل، أو الشارع، والبيت فقط، حيث تم تسجيل مجموعة من الحوادث العنيفة التي سجلها مجموعة من الصغار في حق أساتذتهم. وبعد أن كان الاحترام الممزوج بالخوف سمة التلميذ الرئيسية أثناء تعامله مع من كاد يوما أن يكون رسولا، أصبح للصغار طرقهم الخاصة في معالجة بعض المواقف داخل المدرسة. رفض تلميذ يتابع دراسته بالمستوى الاعدادي مطالبة أستاذه له بإزالة قبعته داخل القسم، غير أن الكفة سترجح لصالح الأستاذ في النهاية، لكن ابن سلا خلق الحدث عندما تمسك بقبعته حفاظا على هيبته داخل القسم، اعتقادا منه أن الأستاذ يتمسك برأيه حول نزع القبعة من باب التقليل من شأنه أمام زملائه داخل الفصل. بعد استئناف أستاذ الرياضيات شرحه للدرس داخل إحدى قاعات الاعدادية المتواجدة بحي اشماعو، تفاجأ بتلقيه طعنة على مستوى العنق واليد اليمنى بواسطة سكين، مما تطلب نقله للمستشفى على وجه السرعة بعد تعرضه لنزيف حاد. حمل التلاميذ للأسلحة البيضاء من الأمور التي تخيف الكثير من الآباء على الرغم من عدم تداولها بشكل كبير، غير أن مجرد التفكير في وجود سلاح أبيض داخل مؤسسة تعليمية من شأنه بث الرعب بين أولياء الأمور، «ما يكتب في الصحف وتتناقله الألسن يبعث على الخوف، يجب التنبه لمثل هذه الحالات، شخصيا سبق لابني الذي يدرس في السنة الرابعة ابتدائي، أن أخبرني أحد التلامذة يحمل معه سكينا يخيف به باقي التلاميذ» تردد خديجة التي ترى في الحادثة أمرا خطيرا، لكن الغريب في الأمر أن الوالدة المتخوفة لم تكلف نفسها عناء التوجه إلى المؤسسة لاستفسار الإدارة عن الوضع، مكتفية بترديد تخوفها من الخسائر التي يمكن أن يحدثها استعمال سكين في عراك بسيط بين تلامذة مؤسسة ابتدائية. سكينة بنزين