عندما رآني الصبي منهمكا في قراءة الجريدة، طرح علي السؤال… في البداية لم أجبه. ربما، لأن القراءة أغلقت جميع مسام عقلي، فمنعت تسرب ذلك السؤال الذي بدا لي بعيدا وكأنه منبعث من أعماق بئر، أو لأنني لم أحب قطع حبل الود الذي كان يربطني بمقال، لم أعد أتذكر موضوعه الآن، وأوقف لذة مخدرة تمنحني إياها قراءته، لأجيب عن سؤاله. هكذا تجاهلت سؤاله، وواصلت قراءة الجريدة، بتؤدة وأناة ممتعة. غير أن الشقي لم يستسلم، وسرعان ما عاد لمناوشتي، مرددا على مسامعي سؤاله مرة ثانية، مع إضافة جعلتني أتوقف عن القراءة، وأوجه بصري وبصيرتي نحوه، لعلي أفهم سؤاله الذي استفز مخيلتي وفكري. للحظات، أصابني سؤاله بشلل تام، جعلني آخذ مهلة للتفكير والتمعن والتأمل، كأنني لم أفهم السؤال جيدا، أو أنني لم أستسغ محتواه. لقد أحسست بالتوتر والعجز. رغم أن السؤال ظاهريا، يبدو واضحا للغاية، إلا أنه من جهة أخرى مستفز حد الوقاحة. غير أنه كما يقال «إذا عرف السبب بطل العجب». عندما استرجعت هدوئي، طلبت منه إعادة السؤال مرة أخرى. قال: «واش الجورنان تتشريه ولا تاي جيك في النعناع». بمعنى آخر، والتعريب هنا يصبح ضروريا، بسبب التشويش الذي يحدثه الشق الثاني من السؤال (ولا تاي جيك في النعناع)، الذي أضيف إلى السؤال الأصلي في المرة الثانية: الصغير يريد أن يعرف، إن كنت اشتريت الجريدة التي بين يدي، أو أنني أخذتها من عند بائع النعناع. التساؤل الأول الذي يتبادر إلى الذهن هو: ما العلاقة التي تجمع بائع النعناع بالجرائد؟ سبق لي أن لاحظت مرارا، أن بائع النعناع في السوق الأسبوعي الذي أقصد وكذلك يقصد والد الصبي، كلما وقفت أمامه، وطلبت بضع ربطات من النعناع، انتقى منها ما يجد لائقا، لفها في صفحتين كاملتين من جريدة ينتزعها من بين كومة كبيرة يضعها بجانبه، حزمها بشريط دوم أخضر، ومد الحزمة نحوي، بعد أن يأخذ دراهمه المستحقة. أحيانا، أتطلع إلى الرزمة جانبه، وإذا أثارني عنوان ما في جريدة ما، طلبتها منه، فينتزع الصفحة من بين الجريدة، ومدها لي دون تذمر. أو، بعد أن أصل إلى المنزل، أفك عقدة شريط الدوم، أضع ربط النعناع جانبا، آخذ الصفحتين، أقلبهما بين يدي، وأقرأ ما أعجبني من مقالات. ربما يفعل الصبي مثلي. فعندما يعود والده من السوق الأسبوعي، ويضع القفة وسط فناء الدار، ويكون بطبيعة الحال فلا تخلو أية قفة «تسويقة» منها من بين المشتريات حزمة من النعناع ملفوفة في صفحات جريدة، تلقف تلك الصفحات، وانزوى في ركن من المنزل محاولا تهجيها. هذا السؤال البريء، جعلني ولأول مرة، أتساءل عن طبيعة العلاقة التي تربط المغربي بالصحف الورقية. أرقام البيع التي تدلي بها المنابر الإعلامية الوطنية، تأكد أن سوق الصحف الورقية في المغرب جد محدود، فهو لا يتعدى سقف 300 ألف نسخة تباع في اليوم، لمجموع العناوين. إلا أن الملاحظ أيضا، أن المغاربة يحبون قراءة الجرائد، وهذه بعض الأمثلة الدالة على ذلك: عندما أمر على بائع الجرائد كل صباح، غالبا ما أرى أشخاصا يتزاحمون أمام حاملة الجرائد، وبسرعة يمررون بصرهم على جميع العناوين صفحاتها الرئيسية، ولم لا أخذها وتتصفحها على عجل، تجعل صاحب المحل، لا يمنع نفسه من التطلع إلى مسترق النظر بنظرة شزرة، يمنعه من رجمه بكلمات اعتراض، نعله للشيطان الرجيم، خاصة عندما يغادر صاحبنا المحل دون اقتناء جريدة. فعمد الكثير منهم إلى تعليق لافتات فوق رفوف عرضها تحذر: «ممنوع تصفح الجرائد». «ممنوع القراءة بالمجان»… في المقهى، يظهر أكثر شغف المغاربة بقراءة الصحف، حيث وجد العديدون فيها المكان المفضل لقراءتها، لأن العديد من أرباب المقاهي، في إطار الحرب الضروس غير المعلنة بينهم، قاموا بإضافة هذه الخدمة ضمن قائمة الخدمات التي يوفرونها لمرتادي محلاتهم، وذلك بتوفير العناوين الأكثر رواجا وبأعداد كافية. فمع كل كوب قهوة أو براد شاي، يتأبط النادل الجريدة، يضع المشروب على الطاولة، ويقدم الجريدة يدا بيد للزبون، هذا إذا لم تكن عند زبون أخر. وطوال اليوم، يمكنك أن تلاحظ أنها تنتقل من يد إلى يد، يتناوب الزبائن على قراءتها، وقبل أن يضعها أحدهم، يكون آخرون في انتظارها. خلاصة القول: المغاربة يحبون قراءة الجرائد، لكنهم لا يطيقون تحمل وزر دفع ثمنها، وعناء التوجه إلى أقرب كشك لاقتنائها. أما الصبي الذي طرح علي السؤال، وكان ملهم هذه السطور، فلم أجبه عن سؤاله، وكذلك سأفعل معكم، سأدعوكم لتخمين الجواب. هل أنا من أولئك الذين يقتنون الجرائد، أم من الذين تجيئهم مع ربطة نعناع، أو فنجان قهوة؟