.. حملة غير مسبوقة في تاريخ مدينة الزهور. صرامة في التنفيذ.. وحجم مهول لاحتلال الملك العمومي من لدن أصحاب المحلات التجارية، والمقاهي، أو الفراشة أو من لدن سكان عدد في أحياء متفرقة بالمدينة.. حملة لم تخل من انتقادات، واستحسان.. بين من يطالب بالتراجع عنها ووضع الحلول للمتضررين منها.. و من يرى ضرورة أن تكون الحملة شاملة وألاتخضع لمنطق التمييز أو الاستثناء.. الساعة تشير إلى الرابعة صباحا من ليلة فاتح دجنبر الجاري .. ساحة مسجد مالي بقلب منطقة العاليا بالمحمدية، تخلع عنها فجأة رداء ليل بارد. سكون ثقيل يعم المكان جعل ألفة المشردين والمارة القلائل بجنبات المسجد، تتحول إلى توجس من أن شيئا ماغير عادي سيحدث . ترقب لم يدم طويلا. فجأة تظهر جرافة مطوقة بالعشرات من قوات الأمن تسير ببطئ تتقدم نحو بناية مقهى تشتهر بين سكان المدينة ب« مقهى النظيف». خيم الانتظار للحظات، تأكد الأعوان من أن خلو البناية من آدميين « علمونا باش نخرجو الكراسى والطابلات. هاذي سيمانة .. » قالها أحد مستخدمي المقهى بينما كانت عيونه لاتفارق الأذرع الحديدية للآلة، وهي تشرع في إلتهام جدران بناية كانت تؤثت ولأزيد من أربعة عقود فضاءا جانبيا من حديقة وسط مركز المدينة. أصيب المستخدم بالذهول قال والدموع تغالبه « اعتقدنا أن قرار الاغلاق، مؤقت، وسناستئنف عملنا من جديد، لكن لم نكن نعتقد أن الأمر سيصل إلى حد الهدم.. الذي لم يعتمد على أي قرار قضائي». تحركت الآلة، وبحركة سريعة بدأت في دك الجدران، تساقط السقف كقطعة هشة من الكرتون، وسط استهجان مستغلي المقهى . بعضهم قرأ « اللطيف» واستكان إلى صمت ممزوج بهول الصدمة. بعض السكان الذين أيقظهم ضجيج الآلة قالوا « إنها بناية غير قانونية تحتل ملكا عاما» . أحد الأعوان الذي تعود شرب «قهوته» بين فضاءاتها برر التحرك الجديد للسلطات العمومية بالمدينة وقال بلهجة صارمة « أنه تطبيق للقانون » . ساعات قليلة، وقبل أن تبدأ أولى خيوط الصباح في الظهور، كانت البناية مجرد ذكرى تلوكها الألسن « راهم ريبوها .. حيث الناس كيقمروا فيها. » يعلق أحد سكان درب مراكش غير البعيد عن مكان الهدم والذي شهد عمليات أخرى مشابهة في الأيام الموالية.. هدم مخدع هاتفي، ومحل لبيع الفواكه الجافة، والعشرات من اللواحات والحواجز الحديدية بمحيط سوق السمك.. شيدها أصحابها فوق الملك العام، وصولا إلى السوق المركزي أو « جوطية». تحرك السلطات في اتجاه منطقة العاليا، وصف ب« غير المسبوق » في تاريخ المدينة، لتنفيذ القرارات بصرامة وكانت بذلك تتمة لسلسلة من عمليات إستعادة الملك العمومي. البداية كانت من الملك البحري على طول الحزام الشاطئي للمدنية، هدم مقهى بالشاطئ المركزي، ثم بشاطئ السابليت « كان أصحابه يحتلون مساحات كبيرة دون وجه حق، فهم لايتوفرون على رخصة تبرر لهم اقتطاع جزء من كبير المساحات الرملية، واستغلالها لأغراض تجارية » يبرر مسؤول بعمالة المحمدية دوافع العملية. قبل أن يضيف « لقد قدمت لهم مهلة قبل مباشرة الأمر..». راهم علمونا.. شكون مول النوبة.. تحرير الملك العمومي من الاحتلال، حملة عاشتها ولازالت شوارع وأزقة مدينة الزهور يوما بيوم وبدون استثناءات، وخلفت ردود فعل بين مؤيد ومعارض. الحملة ذكرت الساكنة المحلية بالتحرك الوالي السابق للبيضاء ابن هيمة، نهاية التسعينيات. العملية خلفت آنذاك استياء كبيرا بين مالكي أرباب المحلات والمقاهي. « راهم علمونا.. بالهدم.. » أو « شكون لي مولى نوبة ..» عبارات كانت اللازمة والشغل الشاغل لعموم الساكنة . كان يرددها أصحاب المتاجر، والمقاهي بامتعاض، وحرقة أحيان. حديقة المدن المتوأمة، المطلة على البناية الجديدة لمقر العمالة، لم تسلم بدورها من « قرارات » العاملة ايمنصار. تقليص للمساحات أمام المقاهي، ورسم للحدود بين كل مقهى، والهدف الحد من التطاول على الرصيف المخصص للراجلين. قرار كان « قاسيا» ولم يرض الجميع. « للأسف، لم يتم استشارتنا في الموضوع، أو عقد حوار بين جمعيتنا قبل تنفيذه « يقول أحد أرباب المقاهي، بتبرم شديد. تطبيق القرار لأسبوع واحد كان كافيا، لإثارة المخاوف. والشعور بما قد يحمله المجهول من مفاجآة. المهنيون، توجسو الأمر. خرجوا بعدها للاحتجاج، اغلقوا مقاهيهم بداية الأسبوع الماضي ولمدة يومين. وصرح عدد منهم بغضب « إننا نستنكر ما أقدمت عليه السلطات، ونطالب بمراجعة الأمر..». أجمعوا في تصريحاتهم أثناء وقفاتهم أمام مقر العمالة بالقول « في حالة عدم التراجع عن القرار، فإن ذلك معناه تشريد أسر، وإلحاق خسائر جسيمة بنا.. جمعيات ممثلة للتجار والحرفين بالمدينة كان لها رأي. جمعية القصبة للتنمية والتواصل الممثلة للحرفيين والتجار إحداها خرجت عن صمتها، وعبرت عن قلقها من التداعيات السلبية للعملية. تحركت وهي تعاين مخلفات الحملة وسط المدينة العتيقة ،وعلى طول سوق المحاذي لثانوية ابن ياسين أعضاؤها وصفوه مايحدث بالحملة« الشرسة» والمتسرعة. الجمعية، تابعت الآلية السريعة للتنفيذ، موقفها كان واضحا في بيانها الاستنكاري وقالت « نستنكر وبشدة هذه الخروقات التي أقدم عليها المسؤولون من تخريب للواجهات التجارية والفوضى العارمة على مستقبل وحماية الحقوق المهضومة لجميع التجار والحرفيين ». الجمعية رحبت ب«تطبيق القانون وبالتنظيم» لكن «شريطة أن يسري على الجميع دون استثناء حسب ماينص عليه الدستورالجديد». بل ودعت وأمام ما وصفته ب « الخروقات» و « التخريب» بالاضراب والاحتجاج بساحة المسيرة الخضراء. احتجاج كان من ضمن سلسلة من التحركات الشبه اليومية تقريبا إما بأماكن البيع أو أمام مقر العمالة، وباشوية المدينة خاصة بعد الإضرابات التي نفذها تجار وأرباب المقاهي بحي الوفا، ثم بائعي الآثاث بالحسنية.. مساكن على الرصيف العام « ماعندي ماندير ليك .. تسنى حتا دوز الحملة.. » تطمين ملتبس، ماكر أحيانا، قد يصدر عن عون سلطة، أو بعض المشككين في نوايا، العاملة الجديدة. أصوات المناشير الكهربائية، وآلات القطع، كانت الجواب الوحيد للتساؤلات المحيرة . مقابل الاستياء ، والتشكيك ، فالاحتلال للملك العام حمل مفاجآت. منذ يومين كانت سيدة في عقدها الخامس تضع يديها على خدها بحي لابيطا، وتتحسر بشدة، وهي تتابع آيادي الأعوان وهم ينزعون الألواح الخشبية عن « مطبخها » الذي شيدته بجوار منزلها في مساحة الرصيف. قالت في شبه استغاتة « الكوزينة خسرت عليها دم جوفي، راهم كيهدموها بلا رحمة » كان مطبخا قائما بذاته، يتوفر على كافة التجهيزات، حتى المغسل « البوطاجي» تم بناؤه بعناية، والدولاب. ومكان آلة التصبين. الصدمة التي رافقت السيدة، طيلة عملية الهدم، استمرت لفترة، قبل أن تعمد وبعد يأس إلى البحث عن مكان داخل بيتها الضيق الذي لاتتجاوز مساحته أربعين متر مربع، لوضع التجهيزات. تحركات أعوان السلطة، من مقدمين وقوات مساعدة لاتهدأ. «هناك من بادر بهدم الأبنية غير القانونية، أما الممتنعون، فإننا لن نتردد في هدمها بأيدينا» قالها أحد المقدمين، بينما كان يتوجه صوب بناء جديد « غير قانوني». كان عبارة عن غرفتين في الرصيف، قام صاحب البيت باتخاذها كسكن، وضع أسسها من القضبان الحديدية، والخشب، وحولها إلى غرفة نوم. ومطبخ. بعد أن ضمن « قبر حياة » غير المنتظر فوق « الطروطوار» العمومي. قام منتشيا بإخلاء منزله السفلي الذي كان يقطنه، وكرائه بسومة تتجاوز 1500 درهم. المفاجأة التي لم تكن على باله أن محاولته في استعادة منزله من المكترين، وإفراغهم باءت بالفشل « نحن مكترون بحكم القانون، ولن نخلي المنزل..» هكذا خاطبوه بصرامة . لم يجد المعني سوى ترديد «أنا بداري وغادي نكري..». أما البعض الآخر، فخساراته المادية كانت كبيرة « هناك من دفع ثمنا باهظا قبل أن يشيد البناء العشوائى، قبل أن يضطر إلى بيعه بالكيلوا لأصحاب الخردة.. بسعر زهيد». غليان المدينة استمر إلى حدود الأسبوع الماضي، ساحات وأرصفة المدنية كانت ممنوعة على المارة لكنها اليوم صارت فارغة. النقابات المهنية لم تقف مكتوفة الأيدي ونقلت استياء التجار في لقاءاتها المتكررة مع باشا المدينة. طالبت في حواراتها ووقفاتها الاحتجاجية « بمراعاة الحالات وسن اجراءات معقولة تقضي باشراك الجميع في اتخاذ القرار المناسب قبل اللجوء إلى الهدم أو نزع اللواحات «. مصالح العمالة، كان لها رأي و موقف مغيار. كانت أكثر وضوحا وهي تعلل تحرك أعوانها للإبلاغ ب « القرارات العاملية». نفت إدعاءات التمييز وقالت « ليس هناك استثناء بالمرة. تطبيق القانون سيسري على الجميع.. حتى المباني العشوائية بالأحياء السكنية لن تسلم من القرار» . المصادر أضافت « لقد تم إبلاغ كافة القياد بالأحياء بتعليمات تقضي بضرورة نزع الألواح الحديدية من الأرصفة، وإخلاء الساحات من العربات والفراشة.. ومحاربة البناء العشوائي». تعليمات أرجعها البعض إلى كونها شاملة و« مركزية» ويسري مفعولها في كل المدن قرارات وجدت طريقها إلى أرض الواق بعد تردد استمر لشهور، خاصة خلال تظاهرات عشرين فبراير، ليس بالمحمدية بل في عدد من المدن الأخرى. ضحايا الحملة.. التشرد يطاردنا يوم الخميس 27 دجنبر، يوم جديد يشرق دون «فراشات» في ساحة مالي. انتظار قاتل يصيب المئات من الباعة الجائلين. يأس، وقلق من الغذ. أمام استمرار المنع من عرض سلعهم بهذا الفضاء. أحدهم صرح غاضبا، بينما كان يتابع تدخلات البعض لتفسير ما يجري « هاذ الناس واش بغاونا نخونوا، راه كل واحد كيجري على عائلات..» طأطأ البعض الآخر رأسه، فيما كان منهم من حاول استرجاع الخسارات التي موني بها . «إذا كانت السلطة جادة في إجلائنا فعليها أن تكون جادة أيضا في ايجاد الحلول..» يصرخ رجل ستيني، ألف عرض بضاعته المكونة من أقمصة رجالية بجوار الساحة، وهي مورده الوحيد. كانت سيارات الأمن وأفرادها يرابضون في مكان غير بعيد عن الساحة يحاولون إبعاد الباعة الذين حجوا في الفترة الصباحية، إلى هذا الفضاء، لمعاينة الوضع. جاء معظمهم بدون بضاعتهم « بغينا نشوفوا أش غادي ايديرو معانا» .شهادات عدد منهم للجريدة كانت تنطق بحجم المأساة. أحدهم قال وهو شاب في عقده الثالث « شكون لي غادي ايشري ليا الدوا، أولى يصرف على أولادي ..» كانت ملامحه المتعبة، تقدم وجها أخر مأساوي للحملة الجديدة. فبين استسحان البعض، وتشجيع آخرين على « تطبيق القانون» فإن التسرع في تنفيذها دون وضع حلول جعل البعض يتساءل بالفعل عن دوافعها، وفي هذا التوقيت بالذات. فعاليات حقوقية ومدنية، تساءلت عن مدى تقدير الجهات المسؤولة، لحجم « العاطلين» الذين يتخذون من البيع في الشارع وحقهم في ضمان مورد قار لتوفير حاجيات أسرهم، خاصة أمام انحسار سوق الشغل، وفشل مخططات الأسواق النموذجية بعدد من الأحياء بالمدينة، وغياب تقدير لحجم انتظارات الساكنة. « قد تكون سحابة صيف .. لن نستسلم ، عليهم أن يوفروا لنا شغلا، وآنذاك لن نتردد في الاقلاع عن هذا النشاط» يصرح أحد الباعة باستغراب شديد. غضب الباعة والفراشة كان واضحا، في الوقت الذي تتناسل الاتهامات اتجاه المسؤولين « إننا نطالب بحملات دائمة، وليس بدوريات متقطعة ومناسباتية..» تعلق فعاليات محلية على الوضع. في مساء نفس اليوم، كانت ساحة مسجد مالي،عصية على المئات من الفراشة. نفس القلق، والترقب كان حاضرا في أزقة وشوارع المدنية . كانت أسئلة، من قبيل « هل تملك السلطات حلولا حقيقية لأزمة الباعة الجائلين » « ألا تشكل الاستثناءات التي حظي بها عدد من المتاجر، والمقاهي .. بشوارع محددة .. ضرباب لمبدأ التساوى.. ؟ .. أسئلة ظلت معلقة، قد تكشفها الحملة والأيام القادمة. حملة أنعشت التعليقات حول « صرامة» العاملة إمنصار، وظهور سوق موازية كان الرابح الأكبر فيها..بائعو الخردة، والحدادون، وأصحاب صنع الأغطية، واللوحات الإشهارية..!