السادات وكسنجر بقلم: محمد حسنين هيكل: الحلقة 11 لماذا اختار «مبارك» أن يجعل «شرم الشيخ» مقر إقامته الرئيسى؟! منذ اللحظة الأولى بعد حرب أكتوبر أصبح «أمن النظام» و«أمن الرئيس» قضية أساسية وحيوية لضمان استمرار سياسات مستجدة طرأت على الظروف التى أحاطت بالأسبوع الثانى من حرب أكتوبر وتداعياتها. وقد جرى طَرْحْ موضوع الأمن والتأمين للمرة الأولى أثناء اجتماع بين الرئيس «أنور السادات» وبين وزير الخارجية الأمريكى «هنرى كيسنجر» فى استراحة أسوان يوم 12 يناير 1974، وكان تقدير الرجلين معا أن التحولات الكبرى فى مصر والسياسات المستجدة على إستراتيچيتها بعد حرب أكتوبر تقتضى إجراءات حماية واسعة للرئيس وللنظام، حتى تتمكن تلك التحولات وتترسخ!! ●●● وكان المدخل إلى طرح موضوع الأمن والتأمين أن الرئيس «السادات» توصل إلى قناعات نهائية فى قراءته لشكل المستقبل فى مصر وهو مقتنع كل الاقتناع بموجباتها وقد طرح وجهة نظره فيها بطريقة قاطعة: 1 إن المستقبل لأمريكا، وهو يريد أن تكون مصر فى هذا المستقبل مع أمريكا وليس مع غيرها. 2 إنه ترتيبا على ذلك فإنه سوف يتخذ فى سياساته الدولية والعربية منهجا يختلف عما جرت عليه السياسة المصرية من قبل. 3 ثم إنه وبمقتضى اختياراته بعد حرب أكتوبر على استعداد من الآن للتحرك نحو سياساته الجديدة وحده، دون انتظار بقية العالم العربى، ثم إنه سوف يصطف مع الولاياتالمتحدة فى مواجهة السوفييت. 4 وهو بالتوازى مع ذلك يعتبر أن حرب أكتوبر 1973 ضد إسرائيل، هى آخر حروب مصر معها، وذلك سوف يجرى اعتماده وإعلانه تأكيدا نهائيا للسياسات الجديدة. 5 وبالإضافة إلى ذلك، فإن تصوُّره للتطور الاجتماعى المصرى سوف يختلف عن تصورات سلفه، عن يقين لديه بأن متغيرات العالم تثبت أن المستقبل للرأسمالية. ولأول وهلة تبدَّى ل«كيسنجر» أن تلك سياسات تتجاوز الحقائق الراهنة فى مصر، وربما تتصادم معها، وساوره الشك فى قدرة الرئيس «السادات» عليها. ●●● على أن «كيسنجر» استمع إلى ما أفضى به الرئيس «السادات» إليه فى أول لقاء بين الاثنين ظهر يوم 6 نوفمبر 1973 ثم سألنى حولها بطريق غير مباشر مساء نفس اليوم فى لقاء بيننا فى جناحه فى الدور الثانى عشر من فندق «هيلتون«، ولم أكن بأمانة على علم بما طرحه الرئيس من تصورات، لكن «كيسنجر» سألنى دون تفاصيل عن «درجة قوة الرئيس «السادات» داخليا، وما إذا كان فى مقدوره أن يطرح وينفذ فى مصر سياسات جديدة، واكتفيت بالقول إن «الرئيس قادر على الوفاء بما يعد به»، وآثرت حتى لا تتشابك الخطوط أن أنتقل فى الحديث معه إلى ما عداه من شئون الساعة، وكان حديثنا تلك الليلة موضوع مقال طويل نشرته فى الأهرام بتاريخ 16 نوفمبر 1973 تحت عنوان «مناقشة مع كيسنجر!!». ●●● وحمل «هنرى كيسنجر» معه إلى «واشنطن» ما سمعه من الرئيس «السادات» وهناك جرى بحثه، وعاد مرة أخرى إلى مصر يوم 12 يناير 1974، والتقى الرئيس «السادات» فى استراحة الرئاسة وراء خزان أسوان القديم. وكان الرئيس «السادات» مازال على موقفه، وكان «كيسنجر» جاهزا بخطة أمن رآها ضرورية للرجل المُقْبِل على مخاطر تحول أساسى فى اتجاه مصر، وللاستراتيجية الجديدة التى تحمل مسئولية سياساتها!! وعرض «كيسنجر» فى هذا الاجتماع الثانى على الرئيس «السادات» خطة أمن وتأمين يتم تنفيذها على ثلاثة محاور: 1 الأمن الشخصى للرئيس، وهو يقتضى إعادة تنظيم حراسة أماكن إقامته فى أى مكان وأى وقت. 2 والأمن الإقليمى للدولة فى حركتها على الخطوط الإستراتيجية الجديدة، وهى تشمل عنصرين: ● أن يكون «البلد» The Country تحت مظلة منظومة الدفاع الإقليمى الذى تشرف عليه القيادة المركزية الأمريكية المكلفة بالدفاع عن الشرق الأوسط. ● وأن تتواكب مع هذه المظلة العسكرية، مظلة أمنية هى شبكة المخابرات الكبرى فى المنطقة، التى تتلاقى فى إطارها جهود الوكالتين الرئيسيتين وهما: وكالة المخابرات المركزية الأمريكية العاملة مع مجلس الأمن القومى فى البيت الأبيض. ثم وكالة الأمن الوطنى العاملة فى إطاره وزارة الدفاع الأمريكية وهى وكالة N.S.A National Security Agency، وكذلك يكون الغطاء شاملا مدنيا وعسكريا عابرا للحدود بين الدول، نافذا إلى العمق داخل هذه الدول!! ●●● 3 وبعد الأمن الشخصى للرئيس والأمن الإقليمى للدولة يجىء الدور ثالثا فى خطة «كيسنجر» على الأمن الاجتماعى للنظام، وهو الآن يقتضى إعادة الهندسة الاجتماعية وخلق طبقات جديدة تسند التوجهات الجديدة بأسرع ما يمكن. ●●● ● كان الأمن الشخصى للرئيس هو البند الأول على القائمة، وقد اقترح «كيسنجر» أن تجىء إلى القاهرة مجموعة خاصة من الخبراء تقوم بمهمة متعددة الجوانب: مباشرة نظام الحماية المخصص للرئيس على الفور. وإعادة تدريب قوة الحراسة الرئاسية على أحدث وسائل وأساليب الحماية. ثم وضع خطة دائمة لإجراءات وضمانات الأمن المطلوبة للرئيس. وبالفعل فإن «هنرى كيسنجر» بعد سفره من أسوان بعشرة أيام بعث إلى وزير الخارجية السيد «إسماعيل فهمى» برقية شفرية لإبلاغه أن بعثة على مستوى فنى متقدم سوف تجىء إلى القاهرة لوضع خطة كاملة لتأمين الرئيس (ولم تكن هذه المسألة من اختصاص وزير الخارجية المصرى، لكنه وقد حضر جانبا من اجتماع أسوان الذى عُرض فيه الموضوع كان هو الطرف الذى آثر «كيسنجر» أن يوجِّه إليه الرد، وفى الحقيقة فإنه كان يجب أن يوجَّه إلى السيد «حافظ إسماعيل» (مستشار الأمن القومى والمسئول عن نظام العمل فى الرئاسة)، لكن «حافظ إسماعيل» لم يكن حاضرا ذلك الاجتماع فى أسوان. وكان نص رسالة «كيسنجر» التى تسلَّمها «إسماعيل فهمى»: وزارة الخارجية واشنطن مكتب الوزير سرى للغاية 28 يناير 1974 رسالة من وزير الخارجية «كيسنجر» إلى الرئيس «السادات» عبر وزير الخارجية «فهمى». نص الرسالة: بالنسبة للمشاورات التى دارت بيننا حين تناقشنا حول مسألة أمنكم الشخصى، فنحن على استعداد لإرسال فريق الخبراء التالى إلى القاهرة فورا: «چورچ ك. كيثان» Keithan وهو خبير فى شئون الحماية الشخصية. «بول لويس» Paul Lewis وهو خبير فى شئون مقاومة التنصت. «هيو وارد» Hugh Ward وهو متخصص فى تدريب المسئولين عن الحماية الشخصية. وإلى جانب ذلك فإن خبيرا فى الأمن المباشر وفى كشف المتفجرات سوف يلحق بالفريق بعد أيام قليلة، بالإضافة إلى ذلك فنحن نقترح أن نرسل فريقا آخر برئاسة المستر «آلان د. وولف» Alan D. Wolf وهو متخصص فى شئون المخابرات، وإذا وافق الرئيس «السادات» فإننا نريد إلحاقه ببعثة رعاية المصالح الأمريكية فى القاهرة، والغرض من قدومه هذه المرة هو أن يُتاح لخبرائكم فى الأمن الفرصة للقائه ومناقشة مقترحاته للتأكد من قبولكم لها. إننا ننوى إرسال هذا الفريق بسرعة إلى القاهرة وفى موعد لا يتجاوز 2 فبراير، وإذا رأيتم موعدا أنسب فإننا بالطبع على استعداد للتلاؤم مع رغباتكم. مبارك مع قوات حفظ السلام بسيناء ●●● وتقاطرت على مصر وفود من خبراء الأمن، وظل بعضها فى مصر لمدة سنتين، تم أثناءها وضع الخطط اللازمة لهذا الجزء من خطة الأمن وهو المتعلق بالحماية الشخصية للرئيس، والإشراف على تطبيقها عمليا، ثم وضع ترتيبات دائمة لأمن الرئيس. وكانت خطة الأمن الخاص أوسع من مجرد تشديد الحراسة حول الرئيس حيث يكون أو حين يتحرك، فقد كان بين بنودها إجراءات تواجه احتمالات مفاجآت غير متوقعة، ثم قائمة إجراءات تحقق مطالب الأمن المحتملة فى حياة كل يوم، وبدت بعض الإجراءات مشددة، وأوسع مجالا من المتعارف عليه: منها مثلا حرس خاص، وسلاح مختلف، وتدريب أعلى، وقيودا وحدودا تطبق فى أى مكان يتواجد فيه الرئيس، مع ضرورة تأمين أى موقع يحل فيه قبل دخوله إليه بست وثلاثين ساعة على الأقل!! ومنها مثلا أن يتنقل الرئيس كلما استطاع بعيدا عن شوارع القاهرة، مع تفضيل الهليوكوبتر وسيلة للانتقال شرط حركتها من ممرات دائرية تتفادى المناطق المزدحمة بالعمران والمبانى العالية التى لا ينكشف حولها ما يدور على سطحها، أو تلك المنخفضة التى تتكدس فيها المخلفات وتوفر إمكانية الكمون والتربص وسطها. ومنها مثلا أن تتعدد أماكن إقامة الرئيس فى أكثر من مكان، وبحيث لا يستطيع أحد أن يخطط لشىء أثناء وجوده لمدة معلومة فى مكان معين. ومنها مثلا أن يكون معظم تواجده فى مناطق تسهل السيطرة عليها، كما يسهل عزلها عما حولها، كما تتنوع إمكانيات الخروج السريع منها فى حالات الطوارئ، كأن تكون بها مساحات صالحة لاستعمال الهليوكوبتر أو مجارى مياه لاستعمال القوارب، إلى جانب الطرق المفتوحة للسيارات. ومنها مثلا أن تكون هناك مواقع تمركز جاهزة لتسكين مجموعات من سرايا القوات الخاصة من الحرس الجمهورى تتحرك مع الرئيس حيثما ذهب. ومنها مثلا أن ترصد حوافز ومكافآت خاصة لقوات البوليس التى تصطف على طرق المواكب، إذا ما اضطر الرئيس لسبب من الأسباب أن يتحرك وسط «مدن»، وأن تتميز هذه المكافآت عن غيرها بأن توضع فى أظرف خاصة عليها شعار رئاسة الجمهورية، تذكِّر من يتسلمها ولو بالإيحاء أنها من «ولى النِعَم»!! ●●● ومرت قُرابة عشر سنوات، وتوالت أحداث، وطرأت متغيرات، ولكن المقادير ضربت ضربتها يوم 6 أكتوبر 1981، ووقع اغتيال الرئيس «السادات» على منصة العرض العسكرى، وبواسطة ضابط فى القوات المسلحة، بيده مدفع رشاش من صنع روسى، وفى جيبه مسدس من صنع أمريكى!! وخطا «حسنى مبارك» من المنصة إلى القصر الجمهورى، وكان أول اجتماع حضره بعد توليه مسئولية الرئاسة اجتماع لمسئولى الأمن والتأمين بدأه بأن «إجراءات الأمن والتأمين التى اتخذت لحماية سلفه لم تثبت كفاءتها، بدليل نجاح خطة الاغتيال التى كان هو شاهدا عليها، وأفلت بمعجزة أن يكون إحدى ضحاياها!!». وفى اجتماعات توالت بعد ذلك مخصصة لبحث أمن وتأمين شخص الرئيس، تولى «مبارك» بنفسه وبتجربته الخاصة إضافة إجراءات أوسع وأبعد: منها مثلا إغلاق المجال الجوى وقت تحليق طائرة الرئيس فيها، وعلى طول الطريق الذى تسلكه. ومنها مثلا إغلاق الشوارع من الجانبين أثناء مرور أى موكب رئاسى، (وكانت الرغبة فى تسهيل المرور خصوصا على طريق مطار القاهرة تدعو مرات إلى إغلاق الطريق من الجانب الذى يتحرك الموكب عليه، وحدث مرة من المرات أن «مبارك» لاحظ وهو فى طريقه إلى مطار «ألماظة» أن الناحية الأخرى مفتوحة للمرور، وعندما وصل إلى «ألماظة» طلب التحقيق بنفسه مع المسئول، ودعى قائد المرور فى المنطقة إلى المثول أمام الرئيس، وعندما أبدى الرجل عذره بأنه فتح الجانب الآخر من الطريق بناء على طلب مُلِحْ من مسئولى مطار القاهرة، لأن عدة طائرات محملة بالسياح على وشك الإقلاع، بينما ركابها متأخرون بسبب موكب الرئيس ثار «مبارك» على مدير المرور وقائد قوة الاصطفاف عليه، وعندما سمع عبارة تأمين وصول سياح إلى المطار، زاد غضبه قائلا: «ما هو الأهم: تأمين السياح أو تأمين الرئيس؟!» مضيفا «أنه ليس هناك هدف فى الدولة المصرية أكثر أهمية من تأمين الرئيس»). ومنها مثلا تعليمات دائمة بأنه لا يريد أن يرى على أى طريق يمر فيه بابا مغلقا، لا يبين ما وراءه، وأن أى باب مغلق لابد أن يُفتح ولو كسرا، وتفتيش ما وراءه، وأن توضع أمامه حراسة مضافة إلى حراسة الاصطفاف على الطريق. ومنها مثلا أن تكون «شرم الشيخ» مقر إقامته الأساسى، وكان ذلك رأى الخبراء الأمريكيين أيضا لأن «شرم الشيخ» توفر مزايا أمنية مثالية، فهى منطقة محددة عند الطرف الجنوبى من شبه جزيرة سيناء، وأجواؤها مكشوفة من كل اتجاه، وهى على بُعد دقائق بالقارب من السعودية، وعلى بُعد أقل من ثلث ساعة عن الأردن وإسرائيل، ثم إن موقعها مجاور لمواقع قوة المراقبة الدولية فى سيناء (وهى فى الواقع أمريكية، ولديها من الوسائل ما يجعلها تلتقط دبيب النمل على رمل الصحراء!!). وحين كان الرئيس «مبارك» يسافر من «القاهرة» إلى «شرم الشيخ» أو غيرها، فإن عشرة جهات على الأقل كانت تُخطر بمسئوليتها فى حماية سفره، وفيها الحرس الجمهورى بالطبع والأمن الخاص لرئاسة الجمهورية والدفاع الجوى ووزارة الداخلية ووزارة الطيران المدنى والمخابرات العامة وغيرها. وكانت كل جهة من هذه الجهات تتخذ ما ترى من إجراءات التأمين المباشرة والخاصة بها، ثم لا يعرف أحد فى النهاية أى طريق سوف يتخذه الرئيس، إلا قبل أن يخرج من بيته فعلا!! وكثيرا ما حدث اصطفاف كثيف على طرق ممتدة، باعتبار أن الرئيس «مبارك» سوف يسافر بالسيارة، ثم تظهر الهليوكوبتر فجأة تنقله من داخل بيته إلى المطار، وتنتهى مهمة طوابير الاصطفاف وتكون قد انتظرته على الطرق عشر ساعات، وأحيانا أكثر!! ●●● مدينة شرم الشيخ ووصل هاجس الأمن والتأمين بالرئيس «مبارك» وبحاشيته إلى درجة عبثية. كانت أجهزة الأمن فى الدولة قد توسعَّت إلى أبعد من أى حد سبق فى مصر بسبب ما جرى بثورة التكنولوچيا، وكذلك قفزت برامج الأمن والتأمين فى مجال الرقابة إلى حد غير مسبوق، لأن البعض كان يريد أن يتأكد بنفسه ويطمئن، خصوصا بالتسمُّع على أطراف مشكوك فى نواياهم. وكانت البداية هى الطلب من جهاز أمن الدولة تخصيص نسبة معينة لمراقبات مرغوب فيها من الرئاسة، سواء كانت داخلة فى قائمة أمن الدولة أو لم تكن. وكانت القوائم مستفيضة، لأن الطالبين كثر، وكان الجزء الأكبر من طلبات المراقبة فى القوائم الخاصة من مكتب «إرث الرئاسة«، وكثيرا ما وصلت تسجيلاتها إلى لجنة السياسات فى الحزب الوطنى، وكثيرا ما تسرَّب بعضها ملونا أو مشوها إلى بعض الصحف والمجلات. ثم وقع تطور أهم، وذلك أن «أحدهم» عاد من لندن ذات مرة ومعه جهاز جديد للتنصت على التليفونات، موجود فى محال متخصصة لبيع «أجهزة التأمين»، لكن شراءها يقتضى «شهادة من جهة رسمية تأذن باستعماله»، وذلك شرط بيعه وتسليمه. وفى القاهرة جرت تجربة «الجهاز«، واستطاع «الراغبون» أن يدخلوا على أى خط يريدون التسمع عليه فى أى وقت، ثم ما لبث أمر هذا الجهاز أن أصبح «موضة» عند مستوى معين من أصحاب السلطة، وكذلك وطبقا لتقدير خبير نافذ فى وزارة الداخلية، شغل بعض أهم مناصبها فى ذلك الزمن، فقد وقع: أن الحصة التى كانت تُخصص من مراقبات أمن الدولة للطلبات الخاصة وصلت فى وقت من الأوقات إلى 7% من حجم المراقبات. أن عدد أجهزة الرقابة على التليفونات الموضوعة تحت تصرف أفراد بعينهم، ومما جرى شراؤه من لندن، وصل حسب علمه إلى 11 جهازا محمولا، والمدهش أن بعضه كان يُستخدم لأغراض شخصية، أو بهدف التسلية، والنميمة الاجتماعية. ولم يكن هناك حد ولا رادع لأية «معلومات» عامة أو خاصة قد تكون لها فائدة فى أمن أو تأمين أحد دون حساب التكاليف!! حتى «شرم الشيخ» نزل وأقام فيها أكثر من جهاز تسمُّع خاص!! ●●● ولم يتصور أحد أو يخطر بباله مثلا أن يحسب تكاليف وجود رئيس الدولة فى «شرم الشيخ»، وحوله موظفى ديوانه، وحرسه، ومكاتب للاتصال مع الدولة، وزوارا قادمين وذاهبين، ومسئولين لديهم ما يعرضونه أو يسألون فيه، وسفر الجميع إلى شرم الشيخ «مهمة» لها تكاليفها من مواصلات وإقامة وبدل سفر، ذلك غير مصروفات تتحمل بها جهات أخرى فى الدولة، وكانت تقديرات الخبراء تحسب أعباء إقامة الرئيس فى «شرم الشيخ» بما مقداره مليون جنيه بالزيادة يوميا عن المصروفات العادية للرئاسة!! (كما أن تكاليف كل يوم سفر للرئيس خارج البلاد كانت تصل وتزيد أحيانا عن مليون دولار يوميا!!). وعندما سُئل الرئيس «مبارك» يوما عن سبب إقامته شبه الدائمة فى «شرم الشيخ»، كان رده (وقد تكرر نشره على لسانه) «أن وجوده فى شرم الشيخ يشجع السياحة إليها، وذلك مفيد للاقتصاد المصرى!!». لكن الحقيقة كانت «أمنية» متصلة بالبند الأول من خطة التأمين التى وضع تصميمها الأصلى «هنرى كيسنجر». ●●● وكان البند الثانى فى خطة الأمن والتأمين ربط «أمن النظام» بمؤسسات الأمن والتأمين الإقليمية للولايات المتحدةالأمريكية، والتى تضم شبكة القيادة المركزية الأمريكية فى الشرق الأوسط ووكالات المخابرات السياسية C.I.A، ووكالة الأمن الوطنى التابعة لوزارة الدفاع الأمريكى N.S.A. وربما كان الأنسب هنا ألا أقول فى تفاصيل هذه القضية الشائكة شيئا من عندى، وإنما أنقل عن كتاب «بوب وودوارد» الصحفى الأمريكى الأشهر فى مجال الاستقصاء، والمعروف بدقة مصادره أنها على أرفع مستوى بين صُنَّاع القرار الأمريكى، فقد تعرَّض «وودوارد» فى كتابه لمسألة أمن وتأمين النظام من البداية، أى منذ اتفاق «كيسنجر» مع الرئيس «أنور السادات»، ففى صفحة 312 313 من كتابه The Veil (أى البرقع أو الحجاب) ذكر «بوب وودوارد» تفاصيل كثيرة تثير الانزعاج، ولذلك أكتفى فى الحديث عنها بمجرد لمحات تغنى عن التفاصيل، ففى نصوص ما قاله «بوب وودوارد» مثلا: «لقد أوضحت عملية الدعم الأمنى والمخابراتى للرئيس الراحل «أنور السادات» ميزات وعيوب هذه النوعية من العلاقات السرية. لقد وصل «السادات» إلى الحكم عام 1970، وبعدها بعامين أطاح بالروس خارج مصر، وبعد سنتين أعدت الC.I.A واحدا من أقوى برامجها للحماية الشخصية والمساعدة الاستخباراتية. فى المقام الأول أرادت الولاياتالمتحدة أولا أن يبقى «السادات» على قيد الحياة، وثانيا أرادت تحصيل أكبر ما يمكن للمعلومات عن «السادات»، وعن سياسات ومناورات القصر، وكان هناك طوفان من تلك المعلومات وبعضه غير ذى قيمة، ولكن كانت هناك حالة انتعاش فى الC.I.A بالحصول على مصادر موثوقة، وعمل جداول لنزوات وطموحات وسياسات العشرات من الوزراء ونواب الوزراء. لم يكن هناك تقييم كافٍ لما تحصل عليه المخابرات، فقد غلب الكم على الكيف، بتدفق هذا الكم الغزير من المعلومات، وتحول العمل السرى للمخابرات إلى إدمان، وفى أوقات معينة بدا أن الأمر يستحيل تقييمه ويصعب تصنيفه، وكلما زادت المعلومات التى تعرفها الC.I.A كلما قل ما يمكن الاستفادة به منها، لقد استخدم قادة مثل «السادات» هذه العمليات المخابراتية باعتبارها مرتكزا ومتكأ، يؤمِّن لهم بابا خلفيا لحكومة الولاياتالمتحدة، وهى طريقة للالتفاف حول القنوات الدبلوماسية المعتادة، وطلب معلومات خاصة من ال C.I.A وخدمات مختلفة، أو حتى اعتمادات مالية. ●●● وأما بالنسبة لزمن «مبارك«، فإن «بوب وودوارد» أفاض فى التفاصيل بالتحديد ابتداء من صفحة 168 من نفس الكتاب وأكتفى منه لأسباب عديدة بمجرد إشارة يقول فيها «وودوارد»: «فى يوم 6 أكتوبر تلقى «كايسى» Casey («ويليام كايسى» رئيس وكالة المخابرات المركزية الأمريكية) تقريرا عاجلا بأن الرئيس المصرى السادات تعرَّض لإطلاق النار أثناء مشاهدته العرض العسكرى، وعلى مدى ثلاث ساعات كررت التقارير الصادرة من محطة وكالة المخابرات المركزية فى القاهرة الخط الرسمى للحكومة المصرية بأن إصابة «السادات» ليست خطيرة، على الرغم من أن التليفزيون الأمريكى كان يبث تقارير تقول إن الرئيس المصرى قد مات. وبعد قُرابة ثلاث ساعات من التقرير الأول ليوم 6 أكتوبر أكدت محطة القاهرة أن «السادات» قد قُتِل، وأنه قد توفى على الفور بعد إصابته بعدة طلقات. شعر «كايسى» Casey بالخزى، فى حين أمضى «ريجان» Reagan النهار فى المكتب البيضاوى يتلقى تطمينات بأن تقارير التليفزيون خاطئة. كان «كايسى» و«إينمان» Inman قلقين من أن يتقدم الرئيس الجديد «حسنى مبارك» باحتجاج عنيف وربما انفعالى، لأن الC.I.A التى قامت بتدريب الحرس الشخصى ل«السادات» قد فشلت فى تحذيرهم، إلا أن أيا من هذا لم يحدث، ولا حتى شكوى رقيقة. لقد اتضح أن منفذى الاغتيال كانوا جزءا من مجموعة إسلامية أصولية فى مصر، لقد أولت الC.I.A اهتماما كبيرا بالتنصت واختراق حكومة «السادات»، وتحذير «السادات» من الأخطار الخارجية إلى درجة أنها تجاهلت القوى الداخلية فى مصر، لقد بدا الأمر قريبا لدرجة الخطر من كونه إعادة لكارثة إيران، وانتاب «كايسى» الغضب الشديد، لقد احتاجت الC.I.A قنوات مستقلة أوسع وأكثر للمعلومات فى مصر، وأراد «كايسى» المزيد، سواء من المصادر البشرية أو ما يتم جمعه إلكترونيا، وعلى أعلى مستوى فى الحكومة الجديدة، وكانت أوامر «كايسى»: «أخرج بعض الناس فى الشارع اللعين للتحقق عما إذا كان أحد سيطلق الرصاص على (مبارك)»!! ●●● كان البند الثالث فى خطة الأمن والتأمين اجتماعيا واقتصاديا، وكذلك فكريا وثقافيا. والحقيقة أن الظروف كانت تفتح الأبواب واسعة لهذا البند، ذلك أنه على الطريق إلى أكتوبر وكذلك بعد المعركة بدا واضحا أن هناك مستجدات وضرورات لابد على نحو ما من التوافق معها، وكانت هذه المستجدات علمية واقتصادية واجتماعية هبت رياحها على مصر، وتوافقت معها فوائض ثروات من قفزة أسعار البترول أشاعت جوا من التوقعات تفاعلت بين المستجدات والتطلعات، ونشأ بالتالى مناخ مستعد ومهيأ لكل شىء وأى شىء، ولأن الظروف تستدعى الرجال، فقد كانت تلك هى اللحظة التى ظهر فيها رجال مثل المهندس «عثمان أحمد عثمان» بالقُرب من الرئيس «السادات»، مبشرين بالمنطق «العملى» و«الواقعى» دون «أحلام أو خيالات»! ●●● وليس مصادفة أن تلك الأوضاع تأكيدا ولو على المدى القصير لتصورات «هنرى كيسنجر» وخطته فى بند الأمن والتأمين الاجتماعى والفكرى والثقافى، وأتذكر أننى سمعت بنفسى كلام «هنرى كيسنجر» فى هذه النقطة بالذات، وكان مجمل حديثه وقد أطال النظر هو وغيره من القائمين على مراكز القرار الأمريكى فيما يقوله الرئيس «السادات» «أن الظروف المستجدة على استراتيجية مصر بالفعل تفتح المجال لظهور طبقة أو جماعات اجتماعية تؤيد السياسات الجديدة وتسندها، ورأى الجميع أن تلك عملية ممكنة ومقبولة، لأن مصر تواجه حالة فراغ طبقى، فقد قام «ناصر» («جمال عبد الناصر») بتصفية الملكيات الكبيرة للأرض، وبتأميم كثير من شركات التجارة والخارجية والبنوك، وبطرد القائمين على شركات التجارة الخارجية والبنوك والتوكيلات التجارية، وكلهم من الأجانب وترتب على ذلك أن الطبقة العُليا فى المجتمع المصرى فقدت قاعدتها، وفى نفس الوقت فإن الطبقات الوسطى والفقيرة التى قصد إليها «جمال عبد الناصر» بإجراءاته، لم تتمكن بعد من صنع قاعدتها، رغم وجود قطاع عام واسع فيه جماعات من أصحاب الكفاءة، لكن رباطهم بعملهم وظيفى (بيروقراطى) لا يصنع طبقة سياسية، لأن الطبقات تصنعها الملكية». وبناء عليه فى تقدير «كيسنجر» وآخرين فى واشنطن فإن المجتمع المصرى يواجه الآن «مشكلة فراغ يمكن ملؤه بطبقة جديدة تدخل إلى البنيان الاجتماعي المصري». ●●● كان دور القطاع الخاص قد برز وازداد بروزا لأسباب بعضها صحيح، وبعضها مُبالغ فيه، وبعضها مصطنع. ● كان الصحيح هو أن العالم راح يتجه أكثر إلى إفساح المجال للقطاع الخاص، بهدف توسيع مجال التنمية، بمعنى أن القطاع الخاص يقدر بحيوية كامنة، وبحوافز المبادرة الفردية على زيادة طاقة الإنتاج، بل ومضاعفتها، ويخلق منافسة صحية بين قطاع عام قد تعوقه البيروقراطية، وقطاع خاص قد يملك مرونة إيقاع يساعد على دورة نشيطة لرأس المال. ● وأما المُبالغ فيه فهو نسيان أن القطاع الخاص بالقيمة الحقيقية له يحتاج إلى وقت لنضوج رأسمالية واعية بالتزامها الاجتماعي، دون عدوان بالفساد تتجاوز به حدود المشروع إلى ما بعده، لأن نجاح العملية الرأسمالية له شروط: أن تدخل الرأسمالية إلى السوق بمشروعات موصولة بخريطة الاقتصاد الوطنى واحتياجاتها. أن تدخل الرأسمالية ومعها رأسمالها، بحيث يكون اعتمادها على النظام البنكى فى حدود معقولة مما هو متعارف عليه عالميا! وأن تكون قادرة على تحمل مخاطر الربح، باعتبار أن هذه المخاطر هى مشروعية الربح. ● وأما المصطنع فأوله الاستيلاء على القطاع العام، وبالتخصيص وحداته الرابحة. وأن تفعل ذلك بالاعتماد على قطاع البنوك العامة وتسهيلاته دون مخاطرة بأموالها. وأن تلجأ إلى الدولة لحمايتها من مخاطر كان لابد أن تكون فى حسابها. وفى الواقع فإن تلك الشروط باستثناءات معدودة جرى تجاهلها، خصوصا مع أول موجة تقدمت تحت مُسمَّى القطاع الخاص بعد حرب أكتوبر. ●●● وعلى أرض الواقع فإنه عندما بدأ حديث «الخصخصة» أوائل سنة 1974 ثارت قطاعات كبيرة من الرأى العام تبدى قلقها مما حسبته غارات على مدَّخراتها، وكذلك اكتشف الطالبون وقتها أن الاقتراب من الشركات الآن صعب، وأولى الصعوبات أن النقابات العمالية أثبتت أنها قادرة على حركة مؤثرة، ساعد عليها أن حرب أكتوبر وتضحياتها مازالت فى الأذهان وحدث تراجع جزئى للغارات المتعجلة. وتوقفت عمليات الخصخصة مؤقتا لكن الاهتمام تركَّز على التوكيلات الأجنبية، فهى جانب مهم من النشاط المالى يقع بعيدا عن المصانع والمنشآت الكبرى المرئية رأى العين، ثم هى الجزء الرابح أكيدا من القطاع العام، فهذه التوكيلات تهيمن على معظم ما تستورده مصر، وهو فى حدود 12 مليار دولار سنويا ذلك الوقت، ونسبة الربح فيه ما بين 10 و14 فى المائة سنويا، أى أن هامش الربح يقارب 2 مليار دولار سنويا، وكانت هذه التوكيلات بالكامل ملكا للأجانب قبل معركة السويس سنة 1956 قد وقع تمصيرها، وفى ذلك الوقت اختار «جمال عبدالناصر» أن يكون استردادها «وطنيا» عن طريق «التأميم» وليس «التمصير»، وتفكيره ذلك الوقت أن «التمصير» ينقل هذا القطاع من ملكية الأجانب إلى ملكية القادرين على الشراء من المصريين ومعنى ذلك فى نهاية المطاف أن يزداد الأغنياء غنى، دون أن يحصل الفقراء على نصيب، والآن وبعد أقل من عشرين سنة (من سنة 1956 1974) كانت العجلة تدور دورة شبه كاملة، والتوكيلات تطرح للتوزيع على من يقع عليهم الاختيار، وممن يطمئن النظام إلى قُربهم من سياساته الجديدة، خصوصا فى السلام مع إسرائيل، والعلاقة الخاصة مع الولاياتالمتحدةالأمريكية. ●●● وفى هذا الوقت أوائل 75 وقع توزيع ما يقارب ألفى توكيلا، وبجرة قلم أصبح فى مصر ألفين من أصحاب الملايين الجُدد، وكانت تلك عملية هندسة طبقية أحدثت خللا مفاجئا فى توازن الدخول، لا تبرره الأوضاع الاجتماعية فى مصر، لكنه فى المحصلة أعطى للسياسات الجديدة سندا اجتماعيا قادرا على التأثير وسط الساحة السياسية. ●●● وكان ذلك إجراء مؤقتا حتى جاءت الخطوة التالية فى عصر «مبارك»، وبدأ التصرف فى القطاع العام، وبخصخصة أنجح وأكبر الشركات وأكثرها ملاءة وربحية، ثم تدفق الطوفان بتسييل أراضى الدولة، ثم تطويق قطاعات مهمة بمصالح مالية ذات طبائع عنكبوتية، تنقض على مواقع محددة مثل البترول والغاز، وخدمات الطيران، ومراكز الإعلام (1). وفى هذا المناخ نشأت علاقة غرام بين السلطة والمصالح التى تفتَّحت شهيتها أكثر على أبعد مما كانت تحلم به. والشاهد أن العمل الحثيث فى خدمة مشروع التوريث كان نوعا من الأمل فى تحويل العلاقة بين المصالح والسلطة، من مجرد عهد «غرام» إلى عقد زواج، يؤكد الرغبة بين الطرفين فى عيش مشترك له كل مقومات وضمانات التقنين لحياة متواصلة فى بيت واحد. وفى كل العصور فإن العيش المشترك لا تضمنه غير مصالح متكافئة ومتبادلة، ومسئولية واقعة على كل طرف من الطرفين. وحتى تلك اللحظة فإن السلطة كانت هى الطرف الذى يمنح ويعطى، وكانت المصالح هى التى تتلقى وتأخذ، والآن فإن المصالح كان عليها أن تثبت قدرتها وتؤكد فائدتها. وهكذا راحت المصالح تتحين الفرص، ولعلها خشيت إذا بقيت العلاقة دون نوع من تبادل العطايا والهدايا، كما جرى فى مسألة التوكيلات الأجنبية، فإنها قد تصبح رهينة لنزوات هذه السلطة، وأما إذا تجاسرت وتشجعت فإنها تستطيع أن تجعل من نفسها نظيرا شرعيا أو على الأقل موازيا لقوة السلطة! ●●● وفجأة لاحت فرصة لهدايا وعطايا تقدمها المصالح إلى السلطة، ولسوء الحظ فإن كثيرين لم يتنبهوا إلى ما قيل بالهمس وما جرى فى الخفاء. وهنا فإن قضية «طابا» تستحق الوقوف بعناية وتنبُّه أمامها. كانت إسرائيل طوال المحادثات التى أجراها «هنرى كيسنجر» حول فك الاشتباك، قد أرست مبدأ يمكن اعتباره «فخا سياسيا» لم يكن هناك مبرر للوقوع فى حفرته، وذلك هو مبدأ الفصل بين «السيادة» وبين «الأمن». وتفسيره كما جرى اعتماده يعنى أن مصر تستطيع أن تعود إلى ممارسة حقوقها فى السيادة على «سيناء»، لكن هناك ترتيبات للأمن أمن إسرائيل بالطبع يتحتم إجراؤها على الأرض دون إخلال (كما يقولون) «بحق السيادة لمصر»! وكانت فكرة وضع قوات دولية للرقابة فى «سيناء» غير تابعة للأمم المتحدة، وإنما أمريكية فى تكوينها، وفى قيادتها نوعا من هذا الفصل بين «السيادة» وبين «الأمن»، وجرى التوسع فى هذا المبدأ، فلم تعد مقتضيات الأمن تفرض مجرد الفصل بين القوات، وإنما وصل الحال إلى قوة دولية (أمريكية فى الحقيقة والواقع)، لها داوريات تفتيش، ونقط تسمع وترصد وتتدخل وتطلب، وبالتوازى مع ذلك جرى تقسيم «سيناء» إلى مناطق، تتفاوت فيها درجات وجود قوات مصرية وسلاح مصرى على الأرض المصرية، ثم يقع ترتيب درجات التواجد العسكرى المصرى بالنقصان كلما زاد القُرب من خط الحدود الدولية، فإذا ما بلغته إذا القوة المصرية المسموح بها هى 750 فردا من حرس الحدود، وليس معهم من السلاح غير ما تمسك به أيديهم، وذلك على اتساع منطقة تكاد مساحتها أن توازى نصف مساحة إسرائيل كلها! ●●● وكان الخندق الأخير فى مسألة الانسحاب الإسرائيلى من «سيناء» هو موقع «طابا»، وعندما رفضت إسرائيل أن تنسحب، فإن الحكومة المصرية وطبقا لمشروطية «كامب داڤيد» لجأت إلى التحكيم الدولى، وخاض عدد من الدبلوماسيين والمؤرخين والخبراء معركة طويلة وشاقة حتى جاء التحكيم لصالح مصر. لكن إسرائيل ظلت متمسكة بالرفض، ثم أمكن حل الأزمة والوصول فيها إلى حل وسط بأسلوب بدا غامضا، حتى تكفلت مذكرات «جورج شولتز» (وزير الخارجية الأمريكية وقتها وفى رئاسة «رونالد ريجان») بكشف اللغز الذى احتار فيه الكثيرون، فقد قدم «شولتز» فى هذا الصدد خبرا صريحا حاول إخفاؤه فى هامش على صفحة 477 من مذكراته، وكان نصه: أن إسرائيل كانت ترفض تسليم «طابا» إلى مصر مهما كانت الأسباب، وهدفها إقرار مبدأ أن قرار مجلس الأمن 242 لا يفرض انسحابها من كل الأراضى، لكن المستشار القانونى لوزارة الخارجية الأمريكية «إبراهام صوفير» توصل إلى حل يعطى مصر «حق السيادة»، ويعطى إسرائيل «حق الانتفاع»!! وكذلك جاء الحل فخا آخر منصوبا وبنفس دعوى الفصل بين «السيادة» وبين «الأمن»، وبمقتضاه ظهرت مجموعة من رجال الأعمال المصريين ورجال الأعمال الإسرائيليين ينشئون شركة سياحة دولية تدير الفندق الكبير فى «طابا» (وهو يشغل كل شاطئها)، والاكتتاب فى رأس المال مفتوح للمساهمين على الناحيتين بحرية السوق، ثم جرى إسناد إدارة الفندق إلى شركة «هيلتون» العالمية تديره لمدة خمسة عشر عاما، وبدورها فإن «هيلتون» العالمية شكَّلت مجلس إدارة مشترك يضم مصريين وإسرائيليين، على أن يكون هناك مدير مصرى ومدير إسرائيلى، وعلى أن تكون العملة المتداولة فيه لتسوية الحسابات، هى: الجنيه المصرى والشيكل الإسرائيلى. أى أن فندق «طابا» وهو معظم مساحة «طابا» أصبح إدارة مصرية إسرائيلية، والعلم المصرى يرفرف على الفندق إعلانا للسيادة، والشراكة الإسرائيلية فى داخله ضمان للأمن المنفصل عن السيادة. والمدهش أن السياسيين والدبلوماسيين الذين عملوا على صدور قرار التحكيم الدولى لصالح مصر، لم تكن لدى أيهم فكرة عما وقع من ترتيبات على الأرض، لأن المسألة انتقلت من وزارة إلى وزارة، خرجت من وزارة الخارجية كقضية وانتقلت إلى وزارة السياحة، كشركة وفندق وشاطئ، ولم يتوقف أحد عند التفاصيل، وكان الشيطان موجودا فى التفاصيل على حد التعبير المأثور فى دراسة النصوص! ●●● ولاحت فرصة أخرى ومرة ثانية دار الكلام همسا ووقعت الحركة خفاء! وإذا المصالح تقدم خدمة أخرى مفيدة للقرار السياسى المصرى. فقد وقعت فى إطار نفس التوقيت أواخر الثمانينيات حادثة «سليمان خاطر»، وهو مجند مصرى، كان يؤدى الخدمة ضمن وحدة عسكرية مصرية فى «سيناء». وقصة «سليمان خاطر» معروفة فى حد ذاتها، ملخصها أن هذا المجند المصرى وجد أمامه مجموعة من السياح الإسرائيليين يدخلون وفقا لترتيبات معاهدة السلام دون جوازات أو تأشيرات وإنما بمجرد بطاقة الهوية الشخصية (الفصل بين السيادة والأمن أيضا)، ويبدو أن الشاب وهو يراهم يقتربون من موقعه، صاح يحذرهم، لكنهم واصلوا الاقتراب، وفَقَدَ الشاب المجنَّد أعصابه، وإذا هو يطلق النار، يقتل واحدا ويصيب ستة من الإسرائيليين! وبرغم محاكمة «سليمان خاطر»، والحكم بالسجن المشدد عليه (تم العثور عليه بعد شهور ميتا فى زنزانة سجنه) فإن الحكومة الإسرائيلية صممت على أن تدفع مصر تعويضات مقدارها مليون ونصف مليون دولار، بحساب: مليون دولار لأسرة القتيل، ومائة ألف دولار لكل جريح، رغم أن جروح بعضهم خدوش! وكان ذلك مُحرِجًا للحكومة المصرية أمام رأى عام مصرى وعربى يعرف بالعلم العام أن إسرائيل قتلت مواطنين مصريين حتى بعد معاهدة السلام، دون أن يكلفها أو يطالبها أحد فى مصر بطلب تعويضات! والآن كانت إسرائيل هى التى تصر. والحكومة المصرية تشعر بالحرج. وفجأة هدأ الموضوع، ولم يعد يتكلم فيه أحد، وتبين أن عددا من رجال الأعمال المصريين الجُدد خشوا على معاهدة السلام أن تتأثر، وعلى الطرف المصرى أن يتحرج، وأرادوا الاستجابة للمطلب الإسرائيلى دون أن يشعر أحد، وجمعوا من بينهم مبلغ التعويضات التى طلبتها إسرائيل، وتم دفعه بهدوء، وانتهى الإشكال دون ضجة، وبغير مضاعفات. ●●● وكانت العلاقة بين المصالح والقرار السياسى تزداد حميمة، وتحتاج إلى تحصينها على نحو ما باعتراف، حتى يتحول «الغرام» وتوابعه إلى زواج يسدل ستار الشرعية على «وليد التوريث»، ولذلك لم يكن غريبا أن تجىء انتخابات آخر مجلس شعب وقع انتخابه قبل ثورة 25 يناير 2011، وفيه عدد غير مسبوق من رجال الأعمال، لا تكفى لطمأنتهم وعود وعهود ولا سلطة تطوع من أجلهم القانون، لكنهم يريدون أن يكتبوا النصوص الآن وفى المستقبل. ولو أن أحدا راجع تشكيل البعثات والوفود المتحركة بنشاط على الطريق إلى «واشنطن»، لظهر أمامه الدور المتزايد للجماعات الجديدة الصاعدة فى مصر، وهى تلتصق بالسلطة، وتبذل أقصى الجهود للترويج لها من خارج الإطار. ولم تكتفِ البعثات والوفود بما تستطيع توصيله إلى من التقوهم فى أروقة الكونجرس أو دور الصحف، بل وصل بعضهم إلى توظيف خدمات مكاتب علاقات عامة، وجماعات ضغط تتحرك بظن التأثير على مراكز القرار الأمريكى، وإقناعه بأن النظام القائم على السلطة فى مصر لابد من مساندته على الأمد الطويل، ومساندته فى المستقبل كما فى الحاضر، لأنه ضرورة أمريكية قبل أن يكون ضرورة مصرية، باعتبار أن الحاضر يحكمه الأب، والمستقبل يحتاج إلى الابن! ●●● وكذلك تسربت الطبقة الجديدة فى مصر إلى آفاق أوسع فى الداخل والخارج، خصوصا فى مجالات الإعلام والعلاقات العامة والتأثير قريبا وبعيدا على المناخ الثقافى فى مصر، وهكذا وقع عملية تجريف مصر، وكان أسوأ ما فيه ما جرى للتعليم، بعدما جرى للإعلام والثقافة. كانت مصر دائما تقوم بدورين فى العالم العربى: دور تنويرى ودور توحيدى، وكانت الصلة بين الدورين وثيقة وطبيعية، وفى الواقع أن مشروع النظام العربى كان فى الأساس ثقافيا. فقد كانت حركة التنوير (بالتعليم والثقافة والإعلام)، والتى بدأت فى مصر (ولبنان) هى التى تحرِّك عوامل التقارب والتواصل بين شعوب الأمة العربية كلها. وكانت حركة التوحيد نتيجة منطقية لهذا التواصل والتقارب، وبخروج مصر بصلح منفرد مع إسرائيل توقفت عملية التقارب والتواصل. ●●● وفى أجواء ما سُمى بالانفتاح وفى التمهيد له، وبهذه العلاقة غير المشروعة بين السلطة والثروة فإن أفضل العناصر المستعدة والمؤهلة للحِراك الاجتماعى والفكرى أحست أن الآفاق أمامها محصورة أو مُحاصَرة، وفجأة فُتح الباب للتعاقد الفردى للمعلمين وأساتذة الجامعات المصرية للعمل خارجها، وفى أجواء الحَصر والحِصار هرع كثيرون إلى حيث وجدوا الفرصة، وكانت العقود جاهزة وسخية، وفى عشر سنوات لا أكثر من سنة 1975 وحتى سنة 1985 كانت الإحصاءات الرسمية تؤكد أن الجامعات المصرية فقدت 55% من طاقتها العلمية، كما أن التدريس فى المدارس الثانوية فقد 42% من طاقته التعليمية. ●●● ولعل ما حدث لنهر النيل أثناء مروره فى كل مدينة كشف حجم العدوان حتى على قداسة الحياة. كانت الرغبة جامحة مع التحولات والتغيرات السياسية، فى إرضاء جميع الطوائف والجماعات حتى تتلهى وتنصرف، وفى ظرف خمس سنوات بعد حرب أكتوبر كانت ملايين الأطنان من الأسمنت قد ألقيت فى مجرى النيل لإنشاء ملاعب ونوادٍ نهرية لمختلف الهيئات والتجمعات المهنية إرضاء وإلهاء لفئات متعددة ما لبث معظمها أن اكتشف أنها على ضفافه، لكن خصوبته تسير فى اتجاه آخر، وحدث للنيل ما لم يحدث لأى نهر فى مقامه، حتى كاد النهر العظيم يختنق على طول مجراه فى مصر كلما مر بعاصمة أو مدينة. وفى آخر زيارة قام بها الرئيس «فرانسوا ميتران» لمصر كان سؤاله الوحيد: «لماذا شوَّهتم وجه النيل بهذه الصورة المعادية للحضارة وللحياة؟!». وكان قد خرج من بيت السفير الفرنسى على النيل فى الجيزة يتمشى على شاطئ النهر العظيم، ويتأمل ما يرى بشعور من الأسى! (1) (من الإنصاف القول بإن بعض مراكز الإعلام الخاص التى استجدت فى تلك الظروف، قامت بدور شديد الأهمية فى السنوات الأخيرة بتأثير نجوم ظهروا فيها على الصفحات وعلى الشاشات). وغيرها مما كان الوصول إليه ضروريا لخدمة المصالح الطارئة، وتوفير الأمن والتأمين لها هى الأخرى!فى الحلقة القادمة 450 مليون يورو تخرج مع حسين سالم من مصر إلى أبوظبى لغز حسين سالم ولقاء معه على الطريق إلى جنيف.. وماذا جرى؟!