بقلم: ذ. ب. بنيعيش، باحث في العلوم الأمنية. جامعة الحسن الأول بسطات يرمي وجود أي دولة كيفما كان شكلها ومضمونها الفلسفي، إلى ضمان أمن وسلامة مواطنيها، وكذا أمن وسلامة مؤسساتها السياسية. ومن أجل بلوغ هذا الهدف يتعين عليها، باعتبارها ممثلة للمجموعة البشرية المحكومة، أن تكون وباستمرار المحتكر الوحيد لما يسمى في أدبيات علماء السياسة بوسائل العنف المشروع. وهي وسائل توضع عادة في يد الشرطة والمحاكم والجيش. فالمغرب، ومنذ استقلاله سنة 1956، بادر إلى إنشاء جهاز للشرطة عهدت إليه مهمة ضمان هذا الأمن وهذه السلامة. وقد تجسد ذلك في ميلاد الإدارة العامة للأمن الوطني في 16 مايو من السنة نفسها، يرأسها مدير عام يعين بظهير ملكي شريف. زمن الإصلاح: وبما أنه من سنة حياة المؤسسات أن تتغير بتغيير الأحوال والظروف الاجتماعية والسياسية والثقافية وغيرها، فإن هذه الإدارة، ومنذ إنشائها عرفت العديد من الإصلاحات والمراجعات والتغييرات واكبت مجمل التغييرات التي حصلت داخل المجتمع على الصعيدين السياسي والثقافي العام. ومن الملاحظ أن وثيرة الإصلاحات الجذرية التي عرفتها الشرطة المغربية تسارعت كثيرا منذ اعتلاء محمد السادس عرش أجداده سنة 1999. إذ أبى إلا أن يعطي الشرارة الأولى لهذا الإصلاح الشامل في الخطاب التاريخي لأكتوبر 1999 من قلب مدينة الدارالبيضاء بتأكيده ضرورة اعتماد “المفهوم الجديد للسلطة” من لدن مجموع السلطات العمومية على مختلف درجاتها ومواقعها السياسية والإدارية. وهو أمر طبيعي بالنظر إلى مجموع الإصلاحات المؤسسية والسياسية التي أطلقها العاهل آنذاك والتي أتت مكملة لما بدأه الراحل الحسن الثاني في اتجاه ترسيخ دولة المؤسسات والحق والقانون. إصلاحات همت بالأساس موضوع المصالحة مع الذات ومع الماضي والقطع مع سنوات الرصاص، وشاركت فيها جميع مكونات المجتمعين المدني والسياسي عبر مؤسسات أنشئت لهذا الغرض كالمجلس الاستشاري لحقوق الإنسان وهيئة الإنصاف والمصالحة. وقد كان من الطبيعي، والحالة هذه، أن تحظى المصالح الأمنية عموما وجهاز الشرطة على وجه الخصوص، بالأولوية داخل هذه السياسة العمومية الجديدة التي وضعها الملك محمد السادس نظرا لإدراكه العميق أن لا دولة حق وقانون بدون شرطة خاضعة للحق والقانون. دواعي الإصلاح: غير أن هاجس العمل على ترسيخ دولة المؤسسات والمصالحة مع الذات لم يكن العامل الوحيد والأوحد في التغييرات الجذرية التي طالت الإدارة الأمنية. بل هناك أسباب وعوامل سياسية وثقافية وأمنية أخرى لعبت دورا أساسيا كذاك في عملية إعادة تأهيل المؤسسة الشرطية. فمن بين هذه الأسباب هناك ظاهرة تفكك البنيات الأساسية المتعلقة بالمجالين الترابي والاجتماعي على حد سواء. تفكك كان سببه الأساس تسامح الإدارة الترابية المفرط في تطبيق قواعد البناء والهندسة المعمارية وتهيئة المجال الترابي للمملكة. وذلك لدرجة أصبح معها هذا التسامح سياسة كاملة المعالم عوضت، في واقع الأمر، النقص الحاصل في قدرات الدولة على تلبية حاجيات المغاربة في مجال الإسكان. وهو نقص يوعز عادة لسياسة “التقشف” التي فرضت على المغرب فرضا من لدن المؤسسات المالية الدولية عقب تفاقم مديونيته الخارجية واعتماده لما يسمى بسياسة التقويم الهيكلي منذ بداية الثمانينات من القرن الماضي. وإذا ما أضفنا إلى كل هذا تأثير سنوات الجفاف المتتالية، أدركنا حجم “الكارثة الاجتماعية” التي طالت البلاد وألقت بالآلاف من ساكنة القرى إلى مدارات المدن المغربية الكبرى والتي أدت إلى إنشاء مدن صفيحية تنعدم فيها أدنى شروط العيش والتعايش الاجتماعيين. إذ هيمنت داخل هذا الفضاء أنساق قيم “خاصة” ونحل معاش “غريبة” تتعارض صراحة مع نسق القيم التي يفترض فيها أن تكون سائدة داخل المجتمع المغربي قاطبة. في هذه الظروف، يمكننا القول بأن الدولة “افتقدت” جزءا مهما من المجال الاجتماعي – الترابي الذي كانت تتحكم فيه، أو الذي من المفترض أن تتحكم فيه. وتتجسد “استقالة” الدولة هذه في العجز الحاصل في غياب قاتل للبنيات الدولتية الأساسية داخل هذا المجال كالبنيات الصحية والتواصلية والتعليمية والدينية وغيرها. وهو وضع تطلق عليه عادة الصحافة عبارة “أحزمة الفقر والتهميش”، وهي عبارة تبقى بعيدة عن الواقع المعيشي لهذا المجال بحكم خطورته على البلاد برمتها. فالمجموعات البشرية المهمشة والفقيرة هذه اضطرت، في غياب الدولة، إلى اعتماد نوع من “التسيير الذاتي” في جميع المجالات التي تتطلب عادة تدخل الدولة. لدرجة يمكن معها القول بأن هذه المجموعات أنشأت بنيات “معارضة” تماما لبنيات النسق العام للبلاد. إذ أوجدت لنفسها بنيات تعليمية شبه بدائية تجسدت في إنشاء شبه مساجد انتصب فيها للتدريس أشباه أميين يدرسون للنشء أشياء أقل ما يمكن أن نقول عنها أنها غريبة، وبنيات أمنية عهد بها لمجموعات شبه دينية تمزج في نشاطها بين “الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر” وبين السرقة وقطع الطريق، وبنيات إيديولوجية تأسست على قاعدة تكفيرية للمجتمع وللعالم وللدولة، وبنيات سكنية تذكرنا بكهوف أفغانستان وأعشاش “تورا بورا”، وذلك على مرأى ومسمع من الإدارة الترابية وعمالها وقوادها وشيوخها ومقدميها وغيرهم. وضع أدى، وبصورة شبه طبيعية، إلى ظهور نوع جديد-قديم من الجريمة والجريمة المنظمة يتأرجح بين النذالة الساقطة، والأنشطة الدعوية المؤسسة على الأمية، وقطع الطرق على العباد وسرقتهم، والتنظيم شبه المافيوزي. غير أن الهجمات الإرهابية التي استهدفت الدارالبيضاء في 16 مايو 2003 جعلت الجميع يستفيق!! ومن أعلى هرم السلطة جاء نداء مفاده أن “عهد التسامح قد ولى”، وأن الدولة عازمة بأن تتصدى للجريمة بشتى أصنافها بحزم وفعالية، ولكن في إطار احترام القانون واحترام حريات الأشخاص والجماعات. إلا أن محاربة الجريمة، والجريمة المنظمة على وجه الخصوص، يقتضي حتما من الأجهزة القيمة على الأمن قدرا كبيرا من تركيز المعلومة وتركيز اتخاذ القرار المناسب. بعبارة أوضح أن الدولة المغربية قررت “استرداد” ما افتقدته في مجال تدبير المجال الترابي والمجال الاجتماعي مما يفرض عليها تجنب تشتت المعلومات وتشتت مراكز اتخاذ القرارات. لكن على شرط ألا يتم التفريط في الاحترام الواجب للقانون وللحريات من أجل إشعار المواطن أنه محمي من طرف شرطة مواطنة تقدر مسؤولياتها خلال القيام بوظائفها الأساسية المتجسدة في ضمان احترام النظام العام، والدفاع عن مؤسسات الدولة، وحماية الأشخاص في أبدانهم وأموالهم. المقاربة المندمجة للإصلاح: من أجل الاضطلاع بالمهام الأمنية الملقاة على كاهل رجال الشرطة، كان لابد من وضع سياسة مندمجة للإصلاح. وإذا كان صحيحا أن زمن الإصلاح فرض على الدولة ضرورة إخضاع الأجهزة الأمنية للقانون والمراقبة الذاتية والقضائية، فإن نجاعة هذا المرفق العمومي الحيوي كان يقتضي كذلك ثلاثة أمور غاية في الأهمية وهي: ، العمل على مسايرة البنيات الأمنية المركزية والجهوية للتقسيم الإداري للمملكة لتوفير الانتشار اللازم لهذه البنيات بغرض توفير الأمن لكافة المواطنين، العمل على توفير الموارد المادية الضرورية لتحسين الأداء الأمني، العمل على تحسين الوضعية المهنية للشرطي وتحسين مستواه الاجتماعي، العمل على خلق بنيات للتواصل مع المواطنين ضمانا لمبدأ الشفافية في العمل الأمني. هذه السياسة العمومية المندمجة قام بالسهر على تنفيذها مجموعة من رجالات الدولة المشهود لهم بالخبرة والحنكة والممارسة للشأن الأمني. ويتعلق الأمر بكل من السيد فؤاد عالي الهمة الوزير المنتدب في الداخلية سابقا، والجينرال حميدو لعنيكري بعد تعيينه على رأس الإدارة العامة للأمن الوطني بعد الهجمات الإرهابية في الدارالبيضاء سنة 2003، والسيد الشرقي الضريس الوزير المنتدب في الداخلية الحالي والذي عهد له بتسيير الإدارة الشرطية سنة 2007، ثم السيد بوشعيب الرميل منذ شهر فبراير 2012 بعد تعيينه على رأس الإدارة الأمنية من طرف جلالة الملك. ففيما يتعلق بإصلاح البنيات الأمنية المركزية والجهوية بقصد مسايرتها للتقسيم الإداري للمملكة، فقد كان الهدف الأساسي منه هو ضرورة مركزة المعلومة من أجل مركزة القرار الأمني. وقد طبقت هذه المقاربة ابتداء من سنة 2004 حيث تمت إعادة هيكلة المديرية العامة للأمن الوطني على الصعيدين المركزي والجهوي. فعلى الصعيد المركزي أحدثت خمس مديريات كبيرة هي مديرية الميزانية والتجهيز، ومديرية الأمن العمومي، ومديرية الشرطة القضائية، ومديرية الموارد البشرية، ومديرية الاستعلامات العامة. أما على الصعيد الجهوي فقد أحدثت مجموعة من ولايات الأمن والمناطق الأمنية لتساير منطق الإدارة المحلية على صعيد الجهات والعمالات. ويتعلق الأمر بعملية إعادة انتشار البنيات الأمنية على مستوى التراب الوطني من أجل تغطية أمنية ناجعة. وبالموازاة مع ذلك، تم تزويد الإدارة الشرطية بالوسائل المادية الضرورية للقيام بالمهام الشرطية الأساسية كالحفاظ على النظام العام ومحاربة الجريمة بكل أنواعها. نذكر من ذلك على سبيل المثال لا الحصر، مختبر الشرطة العلمية والتقنية بالدارالبيضاء والذي كان له دور كبير في حل ألغاز مجموعة من الجرائم والقضايا المتعلقة بالأخطار والحوادث. أما الجانب المتعلق بإصلاح الوضعية المهنية والاجتماعية لرجال الشرطة فقد عهد بها للسيد الشرقي الضريس منذ شهر شتنبر 2007. فقد عمل الرجل على إخراج رجال الأمن من قانون الوظيفة العمومية وإيجاد نظام خاص بهم يضمن لهم زيادة غير مسبوقة في الأجور، ومساطر جديدة للارتقاء في سلالم الأمن تقطع نهائيا مع ممارسات الماضي. إضافة إلى ذلك، عمل السيد الشرقي الضريس على إنشاء مؤسسة محمد السادس للأعمال الاجتماعية لرجال الأمن بغرض مأسسة المسألة الاجتماعية لرجال الشرطة من أجل ضمان العيش الكريم لهم ولأبنائهم في كل ما يتصل بالسكن والتطبيب والترفيه وما شابه ذلك. وإذا كان السيد الشرقي الضريس هو أول مدير عام عمل على خلق بنيات مركزية للتواصل مع المواطنين والمجتمع المدني ووسائل الاتصال المكتوبة والسمعية البصرية، وأول مدير عام قام بعملية انفتاح غير مسبوقة لقطاع الأمن على محيطه الجامعي والعلمي، فإن خلفه السيد بوشعيب الرميل سار على نفس النهج إدراكا منه لأهمية التواصل والانفتاح على المحيط في كل عملية إصلاح، إذ عمل على إنشاء خلايا للتواصل مع الصحافة والمجتمع المدني على صعيد المصالح الشرطية الجهوية.