إن تميز شخصية المرء يقاس بجودة وتميز اختياراته التي يصقلها بعد النظر وقوة الإرادة وثبات العزيمة فضلا عن رسم خارطة طريق تمهد فيها السبل وتدلل فيها العقبات من أجل معانقة الحلم وصناعة التميز. هكذا بصمت كليوباترا الأوبرا المغربية "سميرة القادري" على مسار فني مكلل بالنجاح والريادة.. وعن جدارة واستحقاق استطاعت أن تخلد اسمها في سيمفونية موسيقى البحر الأبيض المتوسط بمداد من الفخر. مع التي أسرت القلوب والآذان، مع صاحبة الصوت الدافئ والحضور المتميز، مع السوبرانو العالمية سميرة القادري كان لأكورا بريس هذا اللقاء.
السوبرانو سميرة القادري: موسيقات البحر الأبيض المتوسط علم ساحري لابد من اقتسامه مع المشاهد. عن موسيقى البحر الأبيض المتوسط تقول صاحبة الصوت الأوبرالي "سميرة القادري": بدأت في هذا التخصص سنة 2000، فأنا خريجة المعهد العالي… ، بعد هذا بدأت أتخصص في الغناء اللريكي أو الغناء الكلاسيكي المتعارف عليه كغناء يتطلب نوعا من الدراية والممارسة في تليين الصوت، وقد تصل مدة هذه الدراسة إلى ما بين 10 و 14 سنة، لكن تخصصي في موسيقات البحر الأبيض المتوسط ابتدأ كما أسلفت سنة 2000. لماذا؟ لأنني وبكل صدق من بعد ما تطوعت وغنيت مجموعة من الأعمال للراحل مصطفى عائشة الذي كان متخصصا في صياغة اللغة العربية في قوالب أكاديمية مثل الليد والكنطاطا والأوبيريت، وقد كنت جد محظوظة كون أعماله ظلت حبيسة مكتبته حتى أتيت سنة 1995 ودخلت المعهد الموسيقي وتعرفت عليه ودرست عنده الموسيقى النظرية، وفي نفس الوقت وضع في كامل ثقته وأعطاني تلك الأعمال، بصراحة كانت هذه التجربة فريدة من نوعها، لكنها لم تحظى بشعبية كبيرة، فمن المتعارف عليه أن غالبية المغاربة لا يمتلكون ثقافة الموسيقى الكلاسيكية، زد على ذلك غياب الإعلام الذي لا يعير هذا النوع من الفن أي اهتمام كونه مجرد موسيقى مستوردة وهذا غير صحيح. وفي سنة 2000 وحتى لا أبقى نخبوية فكرت في البحث عن قائمة توسع رقعة جمهوري لكن مع الحفاظ على التوجه الفني الذي بدأت مشواري فيه. إذا تخصصت في هذا النوع من الغناء ودرست فيه، كانت دراستي الأولى عبارة عن محترفات أكاديمية في أحد اللقاءات في إسطنبول التركية وهناك سأتعرف على موسيقى البحر الأبيض المتوسط، لأكتشف منذ الوهلة الأولى أن هذه الموسيقى يجمعها رابط بموروثنا الثقافي، وما أثار انتباهي هو سماعي أول كانتيكا في حياتي، والكانتيكا هي عبارة عن قصائد مكتوبة على شكل أزجال أو موشحات باللغة الإسبانية القديمة جدا التي هي الجليقية الإسبانية القريبة من البرتغالية، حيث كانت هذه الأخيرة هي اللغة الرسمية في القرون 11-12-13م. بعد اختياري لهذا التخصص راودتني فكرة وهي هل يمكن اعتبار الموسيقى الأندلسية، وعندما أقول الموسيقى الأندلسية فأني لا أتحدث عن الموسيقى التي وصلتنا، لأنه لدي شكوك مغزاها أن ما أصاب الموسيقى الأندلسية هو نفسه الذي أصاب الإنسان الأندلسي المورسكي. فهذه الموسيقى عندما نتقصى أثرها في المصادر نجد أنها كانت راقية جدا لأنها كانت تعزف وتلحن داخل البلاطات والقصور، وعندما اطلعت على مستوى هذا الفن في المصادر انتابني شك في ما إذا كان هذا الشيء حقيقة أم زيفا؟ وهل الموسيقى التي وصلتنا حقا أندلسية؟ لكن في نفس الوقت ليس عندي شك في أن ما وصلنا فيه روح لأن التعبير الشفاهي مهم جدا، كل هذه التساؤلات لها هدف وهو البحث عن مقاربات بين ما هو موجود في شبه الجزيرة الأيبيرية مكان الأندلس المفقود وما بين الموسيقى الأم. هل هناك موسيقى أم تفرعت عنها كل هذه الموسيقات، وفعلا أجد أن الموسيقى الأندلسية هي اللغة الأم التي تفرعت عنها موسيقات البحر الأبيض المتوسط (كانتيكا القرون 11-12-13، والمادريغال الإيطالي، والطربيدور الذي كان بشمال إسبانيا وجنوبفرنسا)، إذا كل هذه الأشياء هي لتي ستدفعني للبحث عن مجموعة من أوجه التشابه والتقارب ما بين الموسيقى الأندلسية وما بين موسيقات البحر الأبيض المتوسط، والجواب على هذه الأسئلة كاملة جعل من المحتم علي التخصص في الموسيقى القروسطوية والنهضوية وموسيقى الباروك، هاته الأشكال الموسيقية الثلاث جعلتني أتوقع أن العرب المسلمين أو الإسبان المسلمين يرجع إليهم الفضل في إرساء القواعد الأولى للموسيقى الراقية أو الموسيقى الكلاسيكية، في حين أن الارتجال كان في موسيقى النهضة (عصر النهضة)، كل ما قلته للتو قصدت به أن أوضح للعموم لماذا أبحث في هذا المجال، لكن السؤال الذي يطرح نفسه هو من يحوز قصب السبق هل البحث أم الموسيقى؟ تضيف الجميلة سميرة القادري: هنا أقول للجميع أني دائما أحب أن يكون صوتي قلم، فقبل أن أنحث مجموعة من الميلوديات والألحان أحببت أن أمر من طور البحث والتنقيب قبل كل شيء، إذا مرحلة التنقيب هاته تقتضي البحث في كبريات المكتبات، فالمستمع كيف ما كان عندما سيحضر عرضي سيطرح العديد من الأسئلة، لكن من خلال هذا البحث سأكون قد راكمت العديد من الأجوبة الشافية، وهذا ما سيجعلني قادرا على منحه مفتاحا لكل تساؤلاته وسيدفعه ذلك الغموض للبحث أيضا حتى لا يكون مستهلكا، والمراد من هذا كله هو أن يشاركني المستمع ليس جمالية الفضاء الموسيقي وإنما الإحساس بأثرنا نحن العرب في ذلك الفن حتى ولو لم يكن متخصصا.
الفنانة العالمية سميرة القادري تزور جميع المتاحف الأوروبية بحثا عن المصادر الغنية، فتقول: ذهبت إلى المنمنمات المتواجدة في جميع المتاحف الأوربية، وهناك أيضا مجموعة من المصادر الغنية بمثل هذه الأشياء في المكتبات الأوربية، منها الإسكوريال والمكتبة الملكية بمدريد، وهناك مكتبات أخرى في هولاندا وإسطنبول، وقد وجدت ضمن هذه المنمنمات الكانتيكاس وهي قصائد حول السانتا ماريا أو القديسة مريم، وهي أشعار ربما دينية، تتكلم عن معجزات مريم، ولكن روح تلك الأشعار شرقية مسلمة عربية لماذا؟ لأن ألفونصو الحكيم كان يجمع المسلمين واليهود والمسيحيين ويطلب منهم جعل تلك القصائد في منوال وقوالب الموسيقى الأندلسية، وهذا ما جعلني أفتح نافذة، وكلما عاودت فتحها مرة أخرى أجد أنني أتعمق أكثر فأكثر ، وأكتشف أني ولجت عالما ساحريا وأنه من الضروري تقاسمه مع المشاهد، ولا أكون مجرد مطربة تلبس ثيابا جميلة لتطرب المستمعين فقط، فأنا أحب أن أطرب وأفيد في نفس الوقت، وأنني أتحدث معه وأفتح له صفحة على تاريخ أجدادنا المجيد الذين ساهما بطريقة من الطرق في إثراء الحضارة الغربية، أحب الغرب أم كرهوا، ولينعتونا بالتخلف وبأصحاب دين رجعي، لكن على العكس من ذلك فأنا أرى أن للمسلمين الأندلسيين نسمة عطرة في هذا الفن سواء غنيته بالغايغو بورتوغيز أو بالحكايتية أو باللادينو أو بالإسبانية القشتالية القديمة أو بالعربية أو بالأمازيغية، فلو ذهبت إلى تركيا ستجد آثار الأندلسيين من خلال الموسيقى. وإذا عللنا كيف وصلت تلك الآثار إلى هناك، فإننا نجد أنه بعد ترحيل الأندلسيين أو المورسكيون ابتداء من سنة 1609، سنة الطرد النهائي، فمن المورسكيين من قصد المغرب العربي، وآخرين توجهوا إلى جنوبفرنسا، والبعض منهم هاجر إلى تركيا حيث كانت الإمبراطورية العثمانية في أزهى فتراتها، وهذا ما يفسر انتشار هذا الفن في كافة البلاد المطلة على ضفتي البحر الأبيض المتوسط، هنا بدأت أمارس نوعا من الأركيولوجيا في الموسيقى، كوني بدأت أبحث عن أي أثر لموسيقانا، وأقول بأعلى صوتي لبعض المستشرقين وبعض الداعيات في الموسيقى الذين يقولون أن الموسيقى السفردية هي اللغة الأم، وأنا أقول عكس ذلك، فالسفردية هي مجرد تقليد يهودي إسباني، ليس مكتوبا بالعبرية ولكنه مكتوب بلغات أخرى، هذا النموذج أغنيه كذلك، ولكن أؤديه لأشعر المتذوق وأجعله يحكم بنفسك في ما إذا كانت اللغة السفردية هي الأم أم اللغة الأندلسية.
سميرة القادري صوت الذاكرة الأندلسية تقربنا من مجال اشتغالها فتصرح: أنا أشتغل على رسالة واحدة هي أن الموسيقى الأندلسية هي اللغة الأم وهي التي تفرعت عنها مجموعة من الموسيقات في البحر الأبيض المتوسط، ومن يلاحظ مساري ويتتبعه سيلاحظ أنني في كل مرة آتي بفكرة بسيطة أشتغل عليها وأدرسها من جميع جوانبها حتى أضع بين يديه حقيقة ليست مطلقة لكنها واقع كنا ولا زلنا نتحسس صداه ونسمته إلى يومنا هذا. هذا الغناء السفردي الذي يعرفني البعض بأدائه، أنا لا أغنيه بهدف المحافظة عليه ولكن هناك أصحابه الذين يحافظون عليه، ولكن لدي رسالة أخرى وهي إشعار المستمع أن هذا الغناء تأثر بشكل مباشر بجميع المكونات الغنائية التي كانت شائعة في شبه الجزيرة الإيبيرية وخاصة في الأندلس، اشتغلت مثلا على رقصة موريسكية، وهذا العمل هو عبارة عن مقاربة بين لاسايطا والعيطة، يعني أخذت نموذج من كل ضفة، وذلك بغية التوصل لأوجه التشارك والتشابه بين لاسايطا وهو فن يغنى في الفلامنكو ويكون في ما يسمونه ب la semana santa، فعندما نستمع إلى هذا التقليد نحس أنه قريب من تقليد "عيوع" المغربي، وهنا أطرح السؤل هل العيطا و لاسايطا تحريف للكلمات فقط؟ وحتى أقرب المستمع أكثر فإني أحاول طرح الفكرة في إطار مشروع فني وهو ما كان مع ماركيز وهو أحد أصوات الفلامنكو المعروفة في إسبانيا، وكان هذا المشروع يحمل مجموعة من الرسائل. أنا لا أنظر إلى مسألة تهجير الموريسكيين على أنها سلبية بل العكس فهذا التهجير كان إيجابيا فلولا خروجهم في كل البحر الأبيض المتوسط لم تكن هذه البقاع لتعرف هذا الثراء وهذه التنمية.
وعندما سألناها هل فعلا توجد هناك علاقة بين الفلانكو والموسيقى الأندلسية أجابت ب: هناك بعض المستشرقين يقولون أنه لا توجد علاقة بين الفلامنكو والموسيقى الأندلسية وأنا أقول العكس لأن الفرضية تقول أنه بقيت هناك أقلية لم تهجر، وتلك الأقلية انصهرت مع الطبقة التي لم يكن مرغوبا فيها وهي طبقة الغجر، استقروا مع بعض في جبال البشرات وجبال أخرى لخوفهم من الاضطهاد الإسباني، ومن ذلك الانصهار نجد رقصة "الزمبرة" وهذه الأخيرة في وصفها الدقيق من خلال المخطوطات نجدها رقصة عربية أو يمكن أن نطلق عليها رقصة إسبانية مسلمة، أنا أتأسف حينما أسمع مصطلح الرقص الشرقي داخل مجتمعنا، هناك عادات ليست عادتنا وإنما مستوردة، فبدل هذا النوع من الرقص يجب أن يكون لنا نحن المغاربة الرقص الأندلسي الذي كان يتميز بالاحتشام . من القرن 17 إلى القرن 20 كان هناك غياب وظلام ولم يكن هناك أي شيء يصف لنا الفنون بما فيها الموسيقى الأندلسية، وحتى أعود إلى صلب الموضوع فرسالتي واضحة وهي أنني أعتبر نفسي صوتا من الأصوات التي تحاول ليس معاتبة الأجداد، وإنما استحضار الآثار المسلمة من هذا الفن والتأكيد على حضورها فيه بقوة، وأنه على الغرب أن يقروا بأن ما وصلوا إليه من تقدم هو من صنيع الحضارة الإسلامية والأندلس بالخصوص، فأنا قلم ينبش في الذاكرة بشكل لطيف وراقي، في كل مرة أحاول أن أوقع المستمع في الفخ عندما أقدم له قصيدة "ثلاث فتيات عشيقات" حينما يسمع هذه القطعة يقول أنها إسبانية، لكن الجديد الذي اشتغلت عليه هي محاولتي عدم تجريد هذه القصيدة من جمالية ما يسمى بالزخرفة الصوتية، فعندما نبحث نجد أن هذه القصيدة عبارة عن أول زجل دخل إلى أوربا، ولا أحد يستطيع القول أن الزجل دخل مع دخول المسلمين العرب وأثر في الشعر الأوربي بشكل قوي، وهذا الزجل موجود في الكانتيكاس وغيره. إذن فسميرة القادري تعتبر نفسها صوتا متوسطيا، وقلما ينبش في ذاكرة حية، وجميع المشاريع التي اشتغلت عليها، "أندلسيات من ضفة إلى أخرى" "صوت من هنا وهناك" "رقصة موريسكية"… إلخ. وآخر عمل وهو الأصعب بينهم وأجمل عمل أفتخر به هو "من البشرات إلى عرفات"، فهو تحقيق لمشروع بدأت فيه من سنة 2007 وأنا مصرة على إخراجه إلى الوجود. من البشرات إلى عرفات هي عبارة عن قصائد مكتوبة بالأعجمية الإسبانية. هذه الأعجمية هي لغة رومانتية لكنها مكتوبة بحروف عربية، الأمر الذي حيرني في أول زيارة لي للإسكوريال بمدريد أني وجدت مخطوطات ترجع إلى القرن 17 مكتوبة بهذه اللغة، حينها طرحت سؤالا لماذا كتبت هذه القصائد بالإسبانية لكن بخط عربي، فقلت في نفسي هناك سر غامض، بعدها توصلت إلى أن تلك المخطوطات وجدت تحت الأنقاض، ومن خلال هذا افترضت أن هذه ممارسة خفية لمجموعة من المسلمين أرغموا على اعتناق المسيحية، لكن في أعماقهم ظلوا مسلمين، كانوا يؤدون الطقوس داخل الكنائس، لكن في بيوتهم كانوا يصلون ويقومون بكل أعمال المسلمين، والدليل على ذلك هو هذه القصائد الصوفية التي ثم العثور عليها، ومن بين القصائد التي اشتغلت عليها قصائد "بول دي مونصون" وشعراء آخرين. إن الموسيقى التي أقدمها هي موسيقى ثقافية، ومؤخرا بدأت أطلق دعاية لخلق شعبة الموريسكولوجية داخل الجامعات، حتى نعرف هل هذه الثقافة تخص الإسبان دوننا أو تخصنا نحن، أم هي ثرات مشترك، وهذه بصفة عامة التوجهات التي أشتغل عليها، وكلها أسباب جعلتني أتخصص في هذا النوع من الموسيقى.