أعدت الحكومة مشروع قانون (رقم 13.89) المتعلق بالنظام الأساسي للصحافيين المهنيين، وسجل المشروع، مقارنة مع القانون رقم 21.94 الجاري به العمل والمراد نسخه، خطوات مهمة في حق الصحافي ومهنة الصحافة، غير أن المشروع المطروح حاليا على المهنيين لإبداء الملاحظة، سجل تراجعات خطيرة ومقلقة، خاصة فيما يتعلق بمصادر الخبر باعتبارها أحد الأسس الحيوية لمهنة الصحافة حيث يستحيل الحديث عن صحافة حقيقية بدون الحق في الوصول إلى مصادر الخبر والحق في حماية تلك المصادر. وسجل المشروع المعد تراجعه في مسألة مصادر الخبر من ناحيتين الأولى حين حذف المادة 4 من القانون الجاري وهي من المواد الحيوية في قانون الصحافة وجاء في تلك المادة المحذوفة: "للصحفي الحق في الوصول إلى مصادر الخبر، في إطار ممارسة مهنته وفي حدود احترام القوانين الجاري بها العمل". وجاء المشروع الحالي خاليا من هذا الحق رغم التقدم الذي سجله الدستور الحالي فيما يتعلق بالحق في المعلومة. والحق في الوصول إلى مصادر الخبر يستمد أهميته الحيوية من كون عمل الصحافي يرتكز في الأساس على المصادر. وهذا الحق يجعل المصادر نفسها تحس بالأمان حين تتعامل مع الصحافي في إطار قانونية سعيه للحصول على الخبر. وهنا يتضح أن مجرد حذف هذا الحق يعتبر ضربة موجعة لمهنة الصحافة وللصحافي المهني، ومن البديهي أنه لا يمكن الحديث عن صحافة دون الحق في الوصول إلى مصادر الخبر. الناحية الثانية تتعلق بكون المشروع لم يكتفي فقط بحذف الحق في الوصول إلى مصادر الخبر، بل شدد الخناق على الصحافي في علاقته بمصادره حتى بعد أن يصل إليها فيما يشبه تجفيف منابع أخباره، وجاء في المادة الثالثة من المشروع المقترح، "للصحافي الحق في الاحتفاظ بسرية مصادر الخبر إلا إذا أوجب القضاء الكشف عنها". وهنا لا بد من التوقف عند هذه المادة الثالثة لكشف التهديد الذي تنطوي عليه تجاه مهنة الصحافة من خلال ملاحظات أساسية. الملاحظة الأولى، المادة لا تعترف بحق الصحافي في الوصول إلى مصدر الخبر كأساس يضفي الشرعية على العلاقة بينه وبين مصادره، بل أعطته فقط حقا في الاحتفاظ بسرية تلك المصادر إذا هو وصل إليها، لكنها عادت وأخذت ذلك "الحق" بشكل خطير حين ألزمته قانونيا بالكشف عن تلك المصادر إذا أوجب القضاء ذلك. الملاحظة الثانية، تجعل هذه المادة الكشف عن المصادر أمرا قد يكون واجبا على الصحافي، ولم تربط المادة الكشف عن المصادر بأية علة تبررها وتخصصها، مما يجعل مصادر أي خبر يصل إلى القضاء عرضة للانكشاف، وهذا نوع من العبث، حيث أنه حين يقف الصحافي (أو ممثل مؤسسته الإعلامية) أمام القاضي بسبب خبر نشره فالذي يهم هو الأدلة التي يمكن للصحافي أن يدافع بها عن نفسه وعن كونه ينقل الحقيقة وفق ما تقتضيه أخلاقيات المهنة وقواعدها، وليس المهم مصادر خبره، فلا توجد أية قضية يمكن فيها للمصادر أن تكون مهمة في قضية تصل إلى القضاء سوى ما يتعلق بأمن الدولة، حيث تكتسي المصادر في هذه الحالة، بالنسبة للدولة وللمجتمع ككل، أهمية خاصة يمكن أن تكون موضع تحقيق ومتابعة، ويمكن لمعرفة تلك المصادر أن تلعب دورا حيويا فيما يتعلق بأمن الدولة ولا يمكن خارج هذه القضية لكشف المصادر أن تكون له أية أهمية. الملاحظة الثالثة، تتحدث تلك المادة عن أن الذي يمكن أن يوجب كشف المصادر هو القضاء، وكلمة القضاء، حسب الفصل الأول من النظام الأساسي لرجال القضاء، تعني قضاة الأحكام كما تعني قضاة النيابة العامة وفي كل مستويات القضاء (المجلس الأعلى محاكم الاستيناف والمحاكم الابتدائية و أيضا القضاة بالإدارة المركزية بوزارة العدل)، وهذا يعني أن الصحافي قد يكون ملزما قانونيا بكشف مصادره ليس فقط لقاضي الأحكام ولكن أيضا لقضاة النيابة العامة، وهذه كارثة عظمى. إن الجهة الوحيدة التي يمكن للصحافي أن يكشف لها مصادره حين يتعلق الأمر بأمن الدولة هو قاضي الأحكام، ولهذا الأخير بناء على نوع تلك المصادر وما يعنيه كشفها بالنسبة للأمن العام للدولة أن يقرر بشأنها. الملاحظة الرابعة، إن مبرر وجود الصحافة أصلا هو حق الجمهور في الحقيقة وواجب الصحافي في نقلها بأمانة و موضوعية، وهذا هو الأساس الذي تستمد منه الصحافة مبررات وجودها وحقوقها، وكشف الحقيقة يتطلب المرور عبر المصادر التي تختار عدم الكشف عن هويتها بل وحمايتها، ومن شأن الإبقاء على هذه المادة الثالثة كما هي، مع عدم إقرار حق الصحافي في الوصول إلى مصادر الخبر، أن يمس أحد أهم الحقوق الأساسية للمواطنين وهو حقهم في معرفة الحقيقة والمعلومة، كما أن من شأن ذلك أيضا الحكم بالاستحالة العملية على صحافة الاستقصاء وهي الصحافة المتخصصة في كشف المستور ورفع الغموض، وهي في مسعاها إلى ذلك تعتمد بشكل كبير على سرية المصادر، كما أن من شأن الإبقاء على تلك المادة أيضا أن يستأصل الأخبار التي تكشف عن الفساد، وهي أخبار ترتكز أيضا على سرية المصادر. الملاحظة الخامسة، إن عدم إقرار حق الصحافي في الوصول إلى مصادر الخبر وإقرار بذل عنه وجوب كشفه عنها أمام القضاء لا يعني سوى شيئا واحدا، وهو إعلام جميع المصادر المحتملة بكونها عرضة للكشف، وأنها تغامر بنفسها ومصالحها بتعاملها مع الصحافة، مما يعني إحجامها عن التعامل مع الصحافي، وقد تابعنا جميعا تطورات ما عرف في الإعلام بملف "بريمات مزوار وبن سودة" حيث لم يتم فتح تحقيق في الفساد المحتمل ولكن تمت معاقبة مصادر خبر الصحافي الذي كشف وقائع يشتبه في كونها فسادا. إن نفس هذا المشهد هو ما تؤسس له المادة الثالثة من مشروع القانون الحالي والذي هيأت له بحذف الحق في المصادر. إن عدم إقرار حق الصحافي في الوصول إلى مصادر الخبر، وحقه في حماية مصادره، وعدم الكشف عنها إلا في حالة تتعلق بأمن الدولة وأمام قاضي الأحكام، يعتبر ضربة قاضية لمهنة الصحافة، و"استئصالا قانونيا" لنوع من الصحافة تحمي المجتمع من الفساد، وبالمقابل يعتبر ذلك مكسبا مهما للفساد والمفسدين، الذين سيجعلهم مشروع القانون الحالي إذا أجيز، لا قدر الله، في مأمن عن الصحافة والصحافيين، وبالتالي في مأمن أيضا عن المجتمع المدني الذي يحارب الفساد ويجد في الصحافة المصدر الأساسي للمعطيات المتعلقة بذلك الفساد. إن المفارقة العظيمة في مشروع القانون المعني هي في المادة الخامسة منه حيث تؤكد أن الصحافي المهني يخضع بالإضافة إلى القوانين والأنظمة التي يضعها المجلس الوطني للصحافة، إلى الالتزامات المهنية المنصوص عليها في الاتفاقات الدولية، وهذه الاتفاقات وغيرها من النصوص المنظمة لمهنة الصحافة في العالم تجمع على قدسية مصادر الخبر وتوجب على الصحافي أخلاقيا حماية مصادره مهما كان الثمن. وختاما حتى لو أجيز مشروع القانون الحالي كما هو، فإن الصحافي المهني الحقيقي المشبع بأخلاقيات المهنة وبفلسفة مهنة الصحافة الهادفة إلى حماية حق الجمهور في الحقيقة، لن يسلم مصادره مهما كان الثمن، لأنه يدرك ببساطة أن ذلك معول من معاول هدم مهنة الصحافة وليس تنظيمها