أ قصد هنا بأخلاق التقدم تلك القيم الإيجابية الجماعية التي تؤطر سلوكيات المواطنين داخل المجتمع وتوجه معاملات أبنائه، وتتميز بما يمكن أن نسميه "التحضر". وأخلاق التقدم لها تأثيرات وتداعيات إيجابية على كل المجالات بما فيها المجال السياسي، ومن مظاهرها وجود نخب تتحمل مسؤوليتها في تأطير المواطنين وتكوينهم. ويبدو أن شعوب العالم التي تنعم بأخلاق التقدم لها ممارسات متحضرة تميز السلوكيات الفردية والجماعية للمواطنين أما عادات التخلف، فهي أنماط سلوكية قد تكون فردية وقد تكون جماعية سلبية تؤطر حركية أفراد المجتمع وهي عادات مرتبطة بضعف الوعي، وهي تعبير عن المستوى الاجتماعي والثقافي للأفراد. والسؤال المطروح في هذا الصدد هل يكفي تغيير الدستور لنتغير؟. هل يكفي وضع تشريعات وقوانين متقدمة لنتغير؟. هل يكفي استيراد آليات وعربات وأحدث التكنولوجيات لنتقدم؟. سؤال يراودني منذ مدة، أين نحن من مداخل النهوض المجتمعي الحقيقي؟. فمن أهم مداخل التغيير نحو التقدم في المجتمعات مدخل التغيير الثقافي والاجتماعي، وهذا تحد ملح في بلادنا، فالمجتمع المغربي يعيش مشكلات ثقافية مستعصية وجب إثارة الانتباه إليها، لقد عاد السؤال الثقافي إلى الواجهة في كثير من المجتمعات خاصة مع تنامي العولمة العابرة للقارات والمتجاوزة للحدود، والتي تؤسس لمجتمعات مفتوحة لا تعير اهتماما للهويات الوطنية، مما جعل مجموعة من الدول تضع تدابير حمائية لحماية هويتها الوطنية، وبدأ الحديث عن الاستثناء الثقافي واتخاذ تدابير لحماية اللغات الوطنية. في هذا السياق يبقى الاهتمام بالشأن الثقافي في المغرب ضعيفا والنقاش المجتمعي في المجال الثقافي لا يرقى إلى المستوى المطلوب في أمة تتطلع إلى الرقي، بل يمكن للمتتبع أن يلحظ فراغات وبياضات كبيرة في مجال نقاش القيم الإيجابية وأخلاق القوة والتقدم وسبل ترسيخها في المجتمع. إن المتتبع لحركة التغيير الإيجابي في المجتمعات يجد أنها تبدأ بأفكار ثم تنمو وتزدهر وتتحول إلى نقاش عمومي مثمر وسلوكات وقيم إيجابية مشتركة يتقاسمها أبناء المجتمع الواحد. فصناعة القانون في كثير من الدول الديمقراطية تبدأ بنقاش مجتمعي يؤطر الرأي العام، وبعد ذلك تتحول إلى قوانين وتشريعات تحكم المجتمع بقوة القانون. إن إشكالية النهضة بمفهوم الإصلاحيين في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، أو التنمية البشرية بالمفهوم الجديد هي مفاهيم تقوم في عمقها على الإنسان باعتباره صانع الحضارة والتغيير، والمتتبع لأوضاع العديد من المجتمعات العربية، ولحركية الشعوب عموما وتطورها، يمكن أن يلاحظ بدون صعوبات كبيرة وجود صنفين من الأخلاق، وقد يتعايشان خاصة في المجتمعات المتخلفة، وهو ما أسميه في العديد من مداخلاتي ومشاركاتي أخلاق التقدم وسلوكيات وعادات التخلف، وهي ثنائية تؤكد أن التخلف لا يكون إلا مركبا، والتقدم كذلك بنية منسجمة متراصة، لها تجليات مجتمعية وثقافية وسلوكية. ولاشك أننا نحتاج اليوم أكثر من أي وقت مضى إلى تحويل هذه القضية إلى محور يحظى بالاهتمام ويستأثر بنقاش وطني مسؤول. ومن أهم المفارقات في هذه الثنائية القيمية النظرة للعمل، فأخلاق التقدم تنتج قيمة أساسية في المجتمع، وهي قيمة حب العمل والتفاني فيه مهما كان هذا العمل، ويكفي أن أذكر أنه في بعض الدول المتقدمة يفضل المتقاعد ولو كان ينتمي إلى أعلى سلم إداري أن يعود للعمل ولو حارسا أمام مبنى مؤسسة على أن يظل قابعا ببيته بدون عمل وبعضهم يقوم بذلك العمل تطوعا. وأعتقد أن من أهم القضايا الفاصلة بين نموذج مجتمعين هو موضوع تدبير الاختلاف واحترام الرأي المخالف، فهل يحق لأي فريق سياسي الافتراء والبهتان وتزييف الحقائق ونعت خصمه السياسي بأقبح النعوت والأوصاف، ظنا منه أن الأمر يعطيه قوة ومصداقية، والحال أن المصداقية هي نتيجة مسار طويل وسلوك قويم ونظافة يد…قبل أن تكون عنترية فارغة. قيمة أخرى وهي النظافة، طبعا لا أقصد المظهر الخارجي للأفراد ولكن المظهر العام للمجتمع، ونظافة شوارعه هنا تتناسل الأسئلة بإلحاح وتظهر المفارقات الكبيرة، بين مدن تبهرك نظافتها رغم معاناة حكوماتها من أزمة مالية، ومدن غارقة في مشاكل النظافة ويتحمل سكانها مسؤولية كبيرة بسبب سلوكيات تنم عن الأنانية. مثال آخر وهو التعامل مع الصف(احترام الدور)، فلا يكفي استيراد عربات جميلة للقطار أو التراموي أو الحافلات بل إن عقلية وسلوك مستعملي هذه الوسائل يحسم في استغلالها أحسن استغلال والمحافظة عليها أو يعرضها للإتلاف السريع. وتبقى قضية السياقة نموذجا آخر فاصلا بين أخلاق التقدم وعادات التخلف. فالإفراط في استعمال منبه السيارات عنوان على شخصية صاحبه، وعدم احترام ممرات الراجلين من قبل السائقين ومستعملي الطريق على السواء عنوان على تخلف اجتماعي خطير يستبطن الاستخفاف بالنظام العام. ولا يمكن فصل علاقة سلوك السائق بطبيعة أخلاقه ومزاجه، ولهذا يقول البعض قل لي كيف تقود السيارة أقل لك من أنت. و الأمثلة كثيرة التي تميز بين أخلاق التقدم والتحضر وعادات التخلف، وأكتفي بهذه الأمثلة في هذا السياق لأخلص للقول أنه بقدر ما انصب اهتمامنا على تنزيل الوثيقة الدستورية، وعلى إخراج القوانين التنظيمية فإنه لابد من الاهتمام بالبعد الثقافي والسلوكيات الاجتماعية، فهي المدخل الأساس الذي يصنع رقي الشعوب وتحضرها ونهضتها الحقيقية وهذا يحتاج إلى مجهود جماعي كبير، تنخرط فيه المدرسة والأسرة والإعلام لنضمن الانتقال إلى أخلاق التقدم، وهو عنوان بداية تشكل وعي جديد بالمواطنة التي تقوم على المسؤولية وعلى التضحية في تناغم بين الحق والواجب. وبداية القطع مع سلوكيات وعادات التخلف التي ترهق مجتمعنا وتضيع علينا كثيرا من الفرص والأوقات وتؤخر إقلاعنا نحو تنمية مجتمعية شمولية.