وأنا أشاهد شريط تسليم الأسرى إلى الصليب الأحمر، الذي بثته كتائب القسام، عجز عقلي عن التفاعل مع تلك المشاهد، وحارت نفسي في تصديق ما أرى. فبعد 471 يوما من القصف اليومي باستعمال أحدث، وأشرس، وأذكى الأسلحة، التي أنتجتها أكبر المصانع الأمريكية، تمت عملية التبادل وسط أجواء الفرح وشعور الانتصار. أنظر لتلك المشاهد، وعقلي يتساءل عن طينة الإنسان الذي يسكن غزة. وفؤادي يبحث عن طبيعة البحر الذي تشرب منه تلك المقاومة، روح التحدي، وقوة الصبر، وعزيمة الصمود. لكن تفكيري لا يريد أن يصدق أنها صور من عالمنا، لأنها صور تنتمي لعالم آخر، يخضع لعقل آخر، ولمنطق مغاير. فتوقف عقلي عن التساؤل، واستسلم إلى مقولة العالم الآخر. في العالم الآخر، ظلت الأسئلة تتناسل في عقلي، وبتزايدها تزداد حيرتي حول العالم الذي ينتمي إليه شعب غزة. تصفحت كل أوراق ذاكرتي ومعرفتي، فوجدت أن عزيمة هذا الشعب لا تنتمي لعالمنا، وإنما تنتمي لعالم الأساطير اليونانية. فهذا الصمود، وهذه القدرة على الصبر، وهذه العزة بالنصر، لا نجدها إلا في جبل "أوليمبوس" الذي يسكنه أسطورة الإغريق "زيوس"، ونجد فيه الأساطير اليونانية. لعل تلك الأساطير، يمكنها أن تفسر لنا ماذا يجري في غزة. حتى لساني لم يسلم من سحر صور تبادل الأسرى. فبدأ يبحث عن الكلمات التي يمكنها أن تنقل بأمانة تلك الصور، وراح يغوص في بلاغة التعبير، لعله يجد العبارات المتناسقة التي يمكنها تقريب الصورة الكتابية لتلك الصور المرئية. بحث اللسان، في قاموس الكلمات، ومعجم التعبيرات، فلم يجد سوى شعر عنترة بن شداد، لينقل بأمانة الكلمات التي تنطقها صور تبادل الأسرى. تلك الكلمات التي رددها، ذات يوم، المناضل الإيطالي "فرانكو فونتانا" للتعبير عن حبه الشديد لفلسطين حتى رحيله في 2015 واختار أن يدفن في المخيمات الفلسطينية بلبنان. تقول تلك الكلمات: لا تسقني ماء الحياة بذلة بل فاسقني بالعز كأس الحنظل نضع جميعا الكوفية الفلسطينية، كتعبير رمزي عن حبنا لهذا الشعب، وتضامننا معه من أجل استرجاع أرضه. لكن مع هذه الصور، في زمن تحولت فيه الصورة إلى سلاح كذلك، يجب أن نطرح على أنفسنا سؤال: هل نستحق وضع الكوفية على صدورنا؟ هذه لم تعد كوفية فلسطينية فحسب، بل صارت رمزا للأساطير الغزاوية.