التفاهة الراقية هي واحدة من الظواهر التي تتسلل بصمت، دون صخب، لكنها تترك أثرًا عميقًا في نسيج المجتمعات. هي ليست التفاهة التي يُلام عليها المواطن البسيط أو منابر الإعلام الشعبي، بل هي تفاهة تتسلح بثوب أنيق من الكلمات المنمقة والأفكار المغلفة بعمق زائف. أصحابها ليسوا أفرادًا عاديين، بل صحفيون، كتاب، ومفكرون يتقنون فن التلون، كالحرباء، وفقًا للامتيازات التي يحصلون عليها، فيتحولون من مناضلين ضد الفساد إلى مدافعين شرسين عنه بمجرد أن تُلقى أمامهم العظمة. هؤلاء المتلونون بارعون في تقديم التفاهة على أنها رؤية متجددة أو تحليلات عميقة. يتحدثون عن القيم والشفافية، بينما يُدارون حقيقتهم خلف الأبواب المغلقة. صحفي يكتب عن محاربة الفساد، ثم تملأ إعلانات الجهات المفسدة صفحات جريدته. كاتب يدّعي الحياد الفكري، لكنه لا يفوت فرصة توقيع عقود مربحة مع جهات حكومية، ليصبح بوقًا لها. مثقف يخطب عن العدالة الاجتماعية، لكنه يعيش حياة من الترف الفاحش الذي يناقض كل ما يدّعيه. في عالم التفاهة الراقية، السطحية تتخذ أشكالًا معقدة، والأقنعة تُرتدى ببراعة. هناك من يتحدث عن الوطنية وهو يضع أمواله في بنوك أجنبية، ومن يكتب عن حقوق الإنسان بينما يمضي عطلاته في أحضان أصحاب النفوذ. التفاهة الراقية ليست مجرد تسلية أو نزوة، بل هي خيانة مزدوجة للحقيقة وللجمهور الذي لا يزال يؤمن بأن الكلمة المكتوبة يمكن أن تحمل شيئًا من النزاهة. إذا كان المواطن البسيط يُلام على سطحية اختياراته في المحتوى الذي يستهلكه، فماذا نقول عن أولئك الذين يصنعون هذه السطحية الراقية؟ التفاهة ليست عفوية هنا؛ بل هي منتج مدروس بعناية، يُباع تحت غطاء الفهم العميق والتحليل الرصين. وما يزيد من خطورتها أنها تُمارَس من قبل أولئك الذين يمتلكون التأثير والقوة لتحريك الرأي العام وتشكيل الوعي. لقد آن الأوان للتوقف عن لوم الحائط القصير، ورفع مستوى النقاش إلى من يديرون هذه اللعبة الكبيرة. التفاهة الراقية ليست مجرد تسلية، بل هي نظام قائم على التلون، الخداع، واستغلال النفوذ. وإذا كنا نطمح إلى مجتمعات أكثر وعيًا، فإن المعركة ضد التفاهة تبدأ من فضح أولئك الذين يُلبسونها ثوب الرقي، ويقدمونها لنا على أنها الحقيقة المطلقة.