…أكيد أن لا أحد يبحث عن الموت، اللهم إن كان أحمقا أو يعاني من اضطراب نفسي. ثم إن الموت بأجل، وإذا حان موعد الرحيل، فلا يمكن تأخيره ولا تقديمه ولو بثانية. فساعة الموت هي أدق ساعة لم يستطع الذكاء الإنساني ابتكار ساعة أدق منها. وأخيرا الموت ما هو إلا حلقة وصل بين مغادرة عالم محسوس، والانتقال إلى عالم آخر لا يستطيع العقل البشري الخوض فيه…ورغم كل ما أسلفتُ ذكره، أقول وأكرر لا أريد أن أموت، لأني أتحدث عن الموت المعنوي وليس موت القبور، فالموت ليس له لا مفهوم واحد، ولا مدلول فريد…فقد يكون المرء حيا وهو ميت، وذاك حال من مات ضميره. كما قد يكون المرء ميتا لكنه حي في ذاكرة التاريخ وعقول الشرفاء، وذاك حال كل من ترك أثرا طيبا في البشرية، أو ترك صدقة جارية تسري عليه مدى الدهر. ونحن نعيش ذكرى عيد الاستقلال، نستحضر الماضي، نعيش الحاضر، ونحلم بالمستقبل. نستحضر الماضي لنتأسف عن الفرص الضائعة، التي جعلتنا نخوض في الصراع السياسي، وننسى الاقتصاد والتنمية التي ستنعم بها الأجيال القادمة. في هذا الوقت، وقت الفرص الضائعة في بلدي، كانت دول أخرى، أقل تقدما من المغرب وأضعف من بلادنا، تعمل على اقتناص الفرص، أو الهمزة حسب تعبير عالم الاجتماع محمد جسوس رحمه الله. في وقت الفرص الضائعة، كان المغرب يعيش سنوات الرصاص، وكانت سنغافورة وماليزيا والصين والهند وكوريا الجنوبية وهونغ كونغ والتايوان….تعيش في عالم استغلال الفرص المتاحة، وتتحدث لغة التنمية قبل لغة السياسة والصراع على الحكم. استنطِقوا التاريخ ليخبركم كيف كان بلدنا في سبعينيات القرن الماضي، وكيف كانت تلك الدول…وتحدثوا مع الخبراء ليوضحوا لكم كيف هو حال تلك الدول وكيف هو حال بلدنا، في زمن الفرص الضائعة. التاريخ هو جزء من الماضي…لا نستحضره لنعيش في الماضي، وإنما نستحضره لنقرأ الحاضر، ونستحضر أحداثه لنفهم أحداث الوقت المعاصر. حاضر مغربنا الحبيب، يفتح أمامه فرصة ذهبية لتحقيق طفرته التنموية وإقلاعه الاقتصادي المنشود. في سبعينيات القرن الماضي، كانت تلك الدول التي تحدثنا عنها، تعيش فرصة ذهبية، وتقاطعت تلك الفرصة بشروط موضوعية، تتجلى في تمتع تلك الدول بالقيادة الراشدة، بالاستقرار السياسي وبالتعبئة المجتمعية. وفي وقتنا الحاضر، يعيش بلدنا فرصة ذهبية، التقت بشروط موضوعية شبيهة بتلك الشروط التي كانت وراء تقدم تلك الدول: القيادة الراشدة، الاستقرار السياسي، التعبئة المجتمعية. فهل ستكون بلادنا على موعد مع التاريخ، لتلتحق بركب سنغافورة وماليزيا والصين والهند وكوريا الجنوبية وهونغ كونغ والتايوان؟ لا أريد أن أموت…لأني أنظر إلى مغرب في المنظور القريب، قادر على الانتقال من دولة ناشئة، إلى دولة متقدمة. دولة قادرة على الانسلاخ من واقع مرارة جار مفرط في عدوانيته، لا يفهم في التنمية ولا في التقدم، ولا يعرف سوى التنافس في الرداءة والتخلف، وصرف الأموال على السلاح…دولة قادرة على الانسلاخ من واقعٍ عربيٍّ يتفنن في خلق الحروب والصراعات، وعاجز عن حل صراع دام أكثر من 50 سنة… لا أريد أن أموت….فأنا أنظر لبلدي أنه دولة قادرة على الانسلاخ من واقع عربي عنيد، والابتعاد عن جار يفكر بعقل مقلوب… دولة قادرة على اللحاق بالدول المتقدمة، الدول التي تتقن لغة التنمية وعبارات التقدم. وهو أمر يتطلب بحكم منطق الأشياء، الابتعاد عن عالم عربي لا يتقن سوى لغة التقهقر والحروب الأهلية والنزاعات الإقليمية. الفرصة الذهبية متاحة، وشروط التقدم متوفرة، والحلم بمستقبل يكون فيه المغرب ينتمي للعالم المتقدم، وللدول النامية، هو حلم لا يحلُم، بل هو واقع معاش. أقول ذلك لأنه حلم يرتكز على معطيات التاريخ وحقيقة الواقع وتجارب الآخر، والآخر ليس سوى سنغافورة وماليزيا والصين والهند وكوريا الجنوبية وهونغ كونغ والتايوان …لذلك أقول لا أريد أن أموت. لكني حين أقف على واقع المحاكمات التي طالت جزءا غير يسير ممن تسلطوا على تدبير الشأن العام، بعد تسللهم في انتخابات 8 شتنبر. وحين أقف على تغول الفساد بعد هذا التسلل، وأنظر إلى حكومة تسحب مشروع قانون الإثراء الغير مشروع، ولا تنبس بشفة حول مصيره…أشعر أن الموت يرقص حولي، ويجعلني أشعر أن بلدي سيخلف مرة موعده مع التاريخ. وينتابني شعور ضياع هذه الفرصة من جديد، كما ضاعت فرص أخرى التحقت فيها سنغافورة وماليزيا والصين والهند وكوريا الجنوبية وهونغ كونغ والتايوان…. بركب العالم المتقدم. قد يرقص الموت حولي، على إيقاع أنشودة الفساد، ويعزف الملحن معزوفة سحب قانون الإثراء الغير مشروع، في قصيدة الانتصار البطولي للحكومة…لكني سأظل أكرر مقولتي: لا أريد أن أموت… سعيد الغماز