من القضايا السياسية التي تثير اليوم الكثير من الجدل هو سلوك الحركات الاسلامية لطريق جديدة وخطاب جديد ورؤية جديدة للواقع والحياة ويبدو هذا الخطاب الجديد وكانه انقلاب على الذات وتراجع كلي عن الخط السلفي بل انه يبدو وكانه تراجع عن الانتساب الفكري والايديولوجي لهذه الحركات الاسلامية. لكن في نظر المجددين ودعاة الحركة الاسلامية هي دعوة الى تكييف الشرائع الاسلامية مع تحديات المستقبل (اسلام مستقبلي) معتبرين ان تطور المجتمعات يتم في ضوء سنن وقوانين اجتماعية وهذا في نظرها نتيجة ان " حركة المجتمع صعودا وانتكاسا هي مسالة قابلة للفهم والتحكم وليست غيبا وقدرا" مما ترتب عنه ان ماضي هذا المجتمع قابل للفهم والاستيعاب ولكنه غير قابل للتكرار وتراثه جزء من بنيته ولكنه ليس بديلا عن مستقبله – (صلاح الدين الجورشي "لماذا الفكر الاسلامي المستقبلي") منذ عقود مضت غيرت الكثير من الحركات الاسلامية مواقفها من المؤسسات المدنية فبعد ان كانت تعاديها وتقيم بدائل لها خارجها غيرت رايها ورؤيتها وبدأت تؤسس الجمعيات والمنظمات والاحزاب واستفادت من القوانين التي تمنح لهم فرص المشاركة في تدبير الشأن العام والسياسات العمومية وتنزيل التصورات والبرامج التي تعد بها المواطنين في الانتخابات العامة او المحلية وتشارك في الاستحقاقات الانتخابية والاستفتاءات الدستورية لان الشريعة الاسلامية في نظرها هي قوانين حقوقية واخلاقية يجب ان تسير على هديها الامة والامة بدورها هي مصدر السلطة وان تكون الامة مصدرا للسلطة او من ينوب عنها يعني في نهاية الامر الاقرار بصلاح النظام الدستوري في الامة الاسلامية كما هو الحال في دول الغرب. وبخصوص تطبيق الشريعة الاسلامية واحكامها يرى قادة ودعاة ومنظرو الحركات الاسلامية الجديدة ان الشريعة الاسلامية ( ليست قوالب فوقية متعالية جاهزة للتطبيق حيثما اتفق بقدر ما هي جملة من القيم والقواعد والمبادئ العليا المطلوب تفاعلها مع خصوصيات زمننا )- راشد الغنوشي. ويؤكد زعيم حركة النهضة الاسلامية في تونس راشد الغنوشي ان حركته لا ترى انسب من الديموقراطية وعليه اعتبر هذا التصريح وكانه نقطة تحول نوعية هامة في توجهات الحركة الاسلامية وطبيعتها بينما رأى اخرون انه مجرد مناورة للحصول على التأشيرة القانونية. وسيرا على هذا النهج التجديدي للخطاب الاسلامي الجديد يقول السيد الغنوشي انه ليس من نهج الحركة الاسلامية الجديدة (التعسف على مجتمعنا وعصرنا بإسقاط انماط اجتماعية قد خلت او التذيل لأنماط سائدة في بيئات اخرى) لينتهي به الامر الى التأكيد بأهمية الديموقراطية في المجتمع العربي والاسلامي. يقول السيد الغنوشي (انه ليس في الاساس الفكري للحركة ولا في تصورها لواقع بلادنا ما يغرينا بالتردي في حماة الانفراد والانعزال والسرية والاحتكار لما هو من ثوابت الهوية وقيم النبل والخير والتقدم …ولذلك لا نريد للاختيار الوطني ان يكون بين مؤمن وكافر بل بين منهج حياة ومنهج اخر تندرج في ذلك الرؤى الفكرية والقيم الاجتماعية والقيم الاخلاقية والبرامج المعاشية لتطوير حياة الناس واسعادهم)- يبدو هذا القول وكانه خطاب مفتوح ومتسامح واراد بذلك ان يمحو من الاذهان الانطباع السائد عن حركته باعتبارها حركة غير منغلقة تقبل الاختلاف بل يزيد في دفاعه عن الديموقراطية ويقول (نختلف مع غيرنا في معالجة الهموم واستلهام الثوابت ولا ضير في ذلك طالما اعترف الجميع للجميع بحق الاختلاف والتنوع ) ويضيف في نفس السياق ان مثل (هذا الاختلاف في البرامج والتنافس على خدمة البلاد ضروري ومقوم لا غنى عنه لإرساء ديموقراطية حقيقية متوازنة وحيوية لا شكلية جامدة). في بلد السودان التي تنامى فيها نفوذ التيارات الاصولية الاسلامية منذ اواخر السبعينيات من القرن العشرين وازدادت العضوية العاملة في هذه الحركات الاسلامية وانتشر خطابها الفكري والسياسي والديني عبر المؤسسات الرسمية وعبر الصحف والكتب والمجلات وازدادت المساحة الاعلامية المكرسة للبرامج السلفية في التلفزيون والإذاعة الحكوميتين من عهد النميري الى حسن البشير.. ما يزال هذا الخطاب الديني حاضرا وفاعلا. ويعد الدكتور حسن الترابي من اشهر اعلام الفكر الاسلامي المعاصر في السودان عرف سياسيا اكثر من اشتهاره مفكرا وكاتبا اسلاميا وارتبطت تجربته بالحركة الاسلامية السودانية على امتداد عقود متصلة فهو المنظر الفكري الاول للحركة الاسلامية والمحرك لها منذ ستينيات القرن العشرين وتقلد مناصب قيادية حركية وحزبية الى ان اصبح امينا عاما لحزب المؤتمر الشعبي في 2001 وتتوزع مؤلفاته على صعيد الفكر والفقه الاسلاميين والمرأة والفن والسياسة والحكم والتفسير والكتابة السياسية التي ارخ من خلالها لمسيرة الحركة الاسلامية السودانية والدارس لكتابات هذا الزعيم السياسي يلاحظ ان القضية المحورية فيها هي قضية التجديد: تجديد الفكر الاسلامي الذي تطلب منه تجديد اصول الفقه والانشغال بالتأسيس لمنهج اصولي جديد يحتل فيه مفهوم التوحيد المركز الرئيس بحسبانه رؤية شاملة للوجود والحياة. في كتابات حسن الترابي تجد ذلك الصوت الداعي الى تأسيس منهجية توحيدية تستوعب المنقول والمعقول وتتغذى بمناهج علوم الطبيعة والمجتمع فمكنته من توليد فقه للتدين يكيف الحياة العامة في مجالات السياسة والاجتماع والاقتصاد والعلاقات الدولية. وفيما يخص الموقف من الديموقراطية نجده يقر بان الديموقراطية بوصفها ممارسة سياسية عرفها الغرب مع الاغريق منذ القرن الخامس قبل الميلاد لكن وعلى الرغم من ذلك لم يتمكن الغرب من التأسيس النظري للديموقراطية الا باثر الاتصال بالفقه الاسلامي السياسي فقد تعلم الغربيون من (البيعة) مسالة العقد الاجتماعي الذي تأسست عليه الديموقراطية كما انهم تعلموا من كتاب الشاطبي ( اصول الفقه) مسالة الاصلاح الديني او البروتستانتي ورأى ان التعاقد المزعوم في الغرب لم يكن له ممارسة واقعية مثل البيعة والامامة في تاريخنا الاسلامي كما ان اصل اسناد السلطة لولاة الامر هو عقد البيعة السياسية ولعل هذا المفهوم وجد سبيله الى الغرب. وفي نظره (الغربيون ديموقراطيون في اوطانهم اما خارجها فلا يمارسون الديموقراطية) اي ان الديموقراطية في الغرب محدودة بحدود الوطن ولا تمس الا مواطنيهم اما في الاسلام فلا حدود لها لا جغرافيا ولا انسانيا (الغربيون ديموقراطيون داخل اوطانهم اما خارجها فلا). ولم يكن الاردن شاذا عن بقية الدول العربية من حيث تأثير الصحوة الاسلامية عليه ومظاهر تلك الصحوة تبدو واضحة من حيث تزايد اعداد المنتمين الى الحركات الاسلامية ومنها ما هو مسيس بصورة مباشرة مثل حركة الاخوان المسلمين وحزب التحرير الاسلامي ومنها ما هو بعيد عن السياسة مثل حركة "الدعوة والتبليغ" وحركة "السلفيين" وان كانت كلها تصب في بوتقة التأثير السياسي في نهاية المطاف. لا تختلف حركة الاخوان المسلمين في الاردن فكريا عن الحركة الام في مصر وان اختلفت معها في بعض الممارسات والمواقف التي تحتمها علاقة الاخوان المسلمين في الاردن بالنظام السياسي القائم والتجائهم الى اتخاذ مواقف منسجمة مع النظام السائد عكس الاخوان المسلمين في مصر، فهم اقل استعمالا للعنف من اخوانهم في مصر وذلك بسبب علاقتهم التاريخية مع النظام الاردني وكذلك لان الاردن هو(بلد القبائل والعشائر) وهو اقل تأثرا بالحضارة الغربية من مصر حيث كان العنف هو رد فعل هذه الاخيرة على مظاهر تلك الحضارة في الغالب مما جعل حركة الاخوان في الاردن تعمل كأي تنظيم سياسي بحرية وعلنية بل لا تكاد تخلو حكومة اردنية من وزير ينتمي للإخوان المسلمين كما تشارك في الانتخابات المهنية والبرلمانية لكن رغم العلاقة الطيبة بالنظام فان السلطات قامت بالتضييق عليهم واعتقال نشطائهم في فترات متعددة لكن رغم كل هذه المنغصات فالعلاقة بين الاخوان المسلمين والنظام في الاردن لم تصل في اي فترة الى استغناء اي من الطرفين عن الطرف الاخر ومن خلال هذه العلاقة يتبين لنا ان الاخوان المسلمين في الاردن ورغم مواقفهم المؤيدة للسلطة الا انهم ليسوا السلطة وليسوا جزءا منها مع انهم احد ادواتها وليسوا معارضة رغم انهم يمارسون المعارضة الجزئية في وقت لآخر ومع ان الاسلام احد ادوات تلك المعارضة الجزئية. وفي المغرب فان الاعضاء المؤسسين للجماعة الاسلامية في بداية الثمانينيات من القرن العشرين والمنشقين عن حركة الشبيبة الاسلامية كان تأثرهم الفكري والايديولوجي منبثقا من المرجعيات الايديولوجية التي تأسست عليها حركة الاخوان المسلمين في مصر وغيرها متمثلة في كتابات حسن البنا والمودودي وسيد قطب وشكلت هذه الكتابات نبراسا يوجههم نحو النشاط الحركي الاسلامي القائم على: – ان كل المجتمعات القائمة هي مجتمعات جاهلية وكافرة. – ان الحاكم الذي لا يحكم بما انزل الله خارج عن الاسلام. – ان الاسلام الحق هو الذي تتبناه "جماعة المسلمين". – اتباع عقيدة السلف الصالح واقامة خلافة اسلامية رشيدة. هذه الشعارات هي "ميثاق العمل الاسلامي" وهي تشكل خطابا تعبويا صداميا مع الدولة التي في نظر الشبيبة الاسلامية جانحة عن طريق الاسلام الحق ومتعارضة في قوانينها الوضعية مع اصول الشريعة واحكامها لكن مع بداية التسعينيات وقع انفراج سياسي وحقوقي في المغرب توج بمجموعة من الاصلاحات السياسية والمؤسساتية وهو ما استثمرته الجماعة الاسلامية المغربية فدخلت في موجة من المراجعات الفكرية وكان الهدف منها بعث رسائل الى السلطة الحاكمة تؤكد فيه انها تخلت عن اطروحة الصدام والعنف فتكلل ذلك بتغيير اسم الحركة من الجماعة الاسلامية الى "الاصلاح والتجديد" (1992) وفي سنة1996اندمجت حركة "الاصلاح والتجديد" مع تنظيمات اسلامية اخرى تحت مسمى "حركة التوحيد والاصلاح " تم جاء الانضمام الكلي لقادة الحركة تحت لواء حزب الحركة الشعبية الدستورية الديموقراطية تحت قيادة الراحل الدكتور عبد الكريم الخطيب وهي المرحلة التي ستشكل حلقة حاسمة في موجة المراجعة الجذرية للتنظيم الاسلامي مما فتح له طريق المكاسب الذي ضمن له الوجود التنظيمي داخل النسق السياسي الوطني وكان هو الخيار الذي اوصلهم الى رئاسة الحكومة في فترتين متتاليتين. هكذا يبدو ان كل الحركات المحسوبة على التيار الاسلامي في شرق العالم العربي وغربه قد استخلصت الدروس من سنوات الماضي التي كانت تعمل فيه في الاقبية وفي السر او في الاسر ولا تستطيع الخروج الى العلن بسبب الخوف من التنكيل والقمع والقتل الذي قد تتعرض له من طرف السلطات الحاكمة وادواتها القانونية والامنية ولكن اليوم اصبحت هذه الحركات الاسلامية تعمل وتخطط لاكتساح تنظيمات المجتمع المدني مستعملة خطاب التسامح والانفتاح وغيروا نظرتهم وموقفهم من المؤسسات المدنية فبعد ان كانت تعاديها وتكفرها وتقيم بدائل لها خارجها غيرت الاسلوب واصبحت تحتل هذه المؤسسات ذاتها بغاية طبعها بطابعها الخاص ورغم عدم موافقة الحركات الاسلامية على العديد من بنود اللائحة العالمية لحقوق الانسان مثل شجب العقوبات بما فيها عقوبة الاعدام والمساواة بين المرأة والرجل وحرية الزواج دون قيد او شرط … رغم عدم موافقتهم على ذلك الا انهم يتواجدون في العديد من منظمات حقوق الانسان الوطنية والدولية ويسعون باستمرار الى اكتساب المزيد من المواقع لتوظيفها عند الحاجة في تكثيف الحملات الاعلامية كلما تعرضوا الى الاضطهاد او القمع مطالبين بضرورة تطبيق المبادئ الانسانية. فهل خطاب الحركات الاسلامية الجديدة هو تكتيك مرحلي ام هو انقلاب عن الذات؟ ام مراجعة فكرية لنظرياتها واطروحاتها؟ الجواب عن هذا السؤال لا يمكن ان يكون عبر اجترار نصوص سلفية او الاتكاء على ادبيات ومرجعيات اطرها ومنظريها او عبر التحليل السوسيولوجي واللغوي لانتماءات منظريها وخطاباتهم… لان هذه الحركات الاسلامية ذات الطابع الاصلاحي عرفت تحولات تاريخية وسياسية مما اضفى عليها خصائص اجتماعية وفكرية وسياسية اكثر منها دينية بحثة ففي فترة الاستعمار دعت الى الوحدة الاسلامية للتصدي للأخطار الخارجية كما ركزت البحث عن اسباب الوهن والعجز في ارض المسلمين وعلاج الداء.. وفي المرحلة الموالية بعد الاستقلال في العشرينيات والثلاثينيات من القرن الماضي ظهرت كرد فعل للفكر العلماني مع التأكيد على الشمول الاسلامي ومواجهة كل نزعات فصل الدين عن نظم الحياة وقدم الراحل الدكتور محمد عابد الجابري تصنيفا رغم خصوصيته المغربية يشير فيه الى ظهور الملامح الاولى للوهابية في المغرب في الاتجاه الديني السلفي الذي عرف به السلطان محمد بن عبد الله تم تلت ذلك السلفية النهضوية لكنها لم تقتصر على محاربة البدع بل كانت ذات مضمون وطني (ابي شعيب الدكالي – محمد بن العربي العلوي) تم تحولت السلفية المغربية الى حركة وطنية سلفية الاطار وليبيرالية المضمون (علال الفاسي) واليوم نجد حركات الاسلام السياسي الحاضرة مثل الاخوان المسلمين والجبهة الاسلامية القومية في السودان وحركة النهضة في تونس وجبهة العمل في الاردن والتوحيد والاصلاح في المغرب تعتبر نفسها حركات تجديدية تنطلق من الاصول اي من الكتاب والسنة وتسعى لاستنباط نماذج وصور مجتمعية جديدة من خلال احداث التفاعل بين النص والواقع اي تكييف التراث والنصوص الدينية مع الواقع المتغير. فهل نجحت في الحفاظ على هويتها الفكرية والايديولوجية امام التحولات السريعة والكثيفة؟ ام انها تلعب على الخطاب المزدوج؟ او انها انقلبت على الذات؟ او انها مارست حق المراجعة – الاجتهاد – اي ربط الفقه بالقضايا المعاصرة …انها اسئلة تواجه الحركات الاسلامية من داخل منظومتها الايديولوجية والفكرية وليس التحديات الخارجية فقط . ذ. محمد بادرة