شكل الأنترنيت إحدى أهم التطورات التي خلقت عالما جديدا بمواصفات جديدة غيرت حتى عاداتنا اليومية. شبكة الأنترنيت كانت وراء ظهور الكثير من التطبيقات التي أصبحت جزءا من عاداتنا اليومية كتصفح رسائل الواتساب مباشرة بعد الاستيقاظ، أو النوم على ما جادت به صفحات اليوتيوب والفايسبوك والإنستغرام وتيك توك. فكيف ظهرت للوجود هذه الشبكة التي غيرت العالم والإنسان؟ تمتد جذور شبكة الأنترنيت إلى أواخر ستينيات القرن الماضي وبالضبط 1969 حين شرعت وزارة الدفاع الأمريكي "البنتاغون" بشكل سري وفي عز الحرب الباردة بينها وبين الاتحاد السوفيتي آنذاك، في البحث عن وسيلة لربط مراكز هذه المؤسسة على صعيد التراب الأمريكي تتمتع بخاصيتين: -أ- تأمين المعلومات المتبادلة داخل البنتاغون من القرصنة. -ب- القدرة على نقل المعلومات والتعليمات بشكل دائري، الأمر الذي يجعل تواصل مركزين اثنين يتم عن طريق مسارين مختلفين على الأقل. هذا الأمر أملاه الخوف من تعرض الولاياتالمتحدةالأمريكية لهجمة خارجية إبان الحرب الباردة. فلو تعرض مثلا مسار نقل المعلومات للتلف لا تنقطع الصلة بين مراكز البنتاغون نظرا لإمكانية نقل المعلومات في مسار آخر. ولبلوغ هذا الهدف، بدأ البنتاغون في تطوير شبكة من نوع خاص لا تتمحور حول المركز وإنما تشتغل بشكل دائري لتربط أجهزة تحتضن بنك المعلومات. هكذا ظهرت للوجود أول شبكة لنقل المعطيات ذات طابع عسكري، تحمل اسم أربانيت (ARPANET) تعتمد على نظام اشتغال خاص وكانت شبكة سرية لاستخدامات عسكرية. بقيت هذه الشبكة حكرا على البنتاغون الأمريكي حتى بدأت تطفو إلى السطح مشاكل تقنية تعرقل تطور هذه الشبكة. ورغم ما تتوفر عليه المؤسسة العسكرية من كفاءة تقنية وعلمية، إلا أن الأمر يتجاوزها مما اضطرها إلى الاستعانة بخبرة وأبحاث الجامعات الأمريكية، حيث أن كفاءة هذه الأخيرة في مجال تخصصها أي البحث العلمي وتبادل الخبرات بين مختلف المؤسسات الجامعية والقطاع الخاص، يفوق بكثير قدرات المؤسسة العسكرية التي تشتغل بشكل مغلق وسري. كان هذا الانفتاح للشبكة العسكرية أربانيت على الفضاء الجامعي هي البداية الحقيقية لما أصبح يُعرف في وقتنا الحاضر بشبكة الأنترنيت. وقد وجدت الجامعات الأمريكية في هذا المشروع مادة حيوية للبحث العلمي والتطور التكنولوجي، فأولته عناية خاصة وسخرت له جميع المستلزمات من أدمغة بشرية وأدوات البحث العلمي مع إشراك عمالقة الإعلاميات الأمريكيين وخاصة IBM ومايكروسوفت. هذا التعاون مع القطاع الخاص الذي لا تستطيع القيام به مؤسسة حساسة من قبيل البنتاغون، هوما سمح للجامعات الأمريكية الاستحواذ على هذا المشروع. في البداية تم إنشاء شبكة معلوماتية تربط الجامعات الأمريكية فيما بينها، ولا تسمح سوى بتداول مواد البحث العلمي وهي شبكة كانت معروفة في وقتها بشبكة NSF Net (National Science Fondation Network). إلا أن التطور الذي عرفه مجال الإعلاميات وظهور جهاز الكومبيوتر الشخصي في مطلع ثمانينيات القرن الماضي، جعل هذه الشبكة تأخذ بعدا عالميا وتتطور بشكل سريع لتتحول إلى شبكة الأنترنيت في 1983 بعد أن رفع البنتاغون يده نهائيا عن هذه الشبكة وتغيير اسمها من أربانيت ليصبح أنترنيت (International Network=InterNet) أي الشبكة الدولية. فيما عمد البنتاغون إلى إنشاء شبكة خاصة به أطلق عليها اسم ميل نيت (MilNet). البداية الفعلية للأنترنيت كانت في 1983: في بداية شبكة الأنترنيت كان الولوج لها محصورا على الجامعات وبعض المؤسسات من قبل الناسا وحلف الناتو. وقد ظهرت العديد من الشبكات التي تعتمد على أنظمة مغايرة، الأمر الذي جعل التواصل بينها يتعذر بحكم اختلاف التقنيات المستعملة، كما أن لكل شبكة لغة للاتصال خاصة بها، مما يتعذر معه التواصل بين هذه الشبكات. ولتمكين جميع الشبكات، الخاصة بتراسل المعطيات من التواصل بينها، تم الاتفاق على اعتماد منظومة موحدة أي لغة واحدة للتواصل بين الأجهزة المعلوماتية تحت اسم PI/TCP ترتكز على أساس شبكة عنكبوتية بدون مركز وبنية شبكية غير متمركزة. وهي المنظومة التي وضع أسسها أمريكيان في 1974 تم فيها لأول مرة الحديث عن مصطلح "أنترنيت" الذي يعني الربط بين العديد من الشبكات. شبكة أربانيت ستتخلى عن نظامها القديم NCP وتعتمد نظام PI/TCP في 1983. لم تُفتح شبكة الأنترنيت للعموم على الصعيد الدولي سوى عام 1994 بعد تطوير نظام التصفح المعروف "WWW :Word Wilde Web" وهو نظام سلس وسهل الاستعمال يسمح بتصفح الصفحات الواحدة تلو الأخرى، والانتقال بسهولة من موقع إلى موقع آخر بنقر الرابط المطلوب، وهو الأمر الذي فتح مجال الأنترنيت حتى لمن ليست له دراية بالإعلاميات، لتُصبح شبكة الأنترنيت في متناول عموم الناس، وهنا تكمن قُوَّتها. سنةً بعد ذلك ستعرف الشبكة مضاعفة عدد الكمبيوترات المرتبطة بها، وستبدأ في الظهور أولى أنظمة الإبحار في الشبكة "كنيتسكايب"و"موزاييك"، لتظهر فيما بعد أنظمة البحث التي تساعد على الحصول على المعلومة المطلوبة، كان نظام "ياهو" أولها ثم تلاه فيما بعد العملاق الذي أصبح مستعملا في العالم بأسره "غوغل". إنها بداية الإبداع والابتكار في شبكة الأنترنيت الذي لا حدود له ولا أحد يمكنه معرفة إلى أي مدى سيصل هذا الابتكار. هكذا إذا انتقل عدد الكمبيوترات المرتبطة بالشبكة من مليونين في 1994 إلى مليار و250 مليون في 2007. وهو رقم يعبر عن نفسه ولا يحتاج أي تحليل أو تعليق. هذا الإنجاز كان نتيجة طبيعية "لزواج" الاتصالات بالإعلاميات، ومع مرور الوقت توطدت أواصر هذا "الزواج" لدرجة أصبح فيها مصير الواحد مرتبط بالآخر. هذا المعطى جعل مُصنعي الكمبيوتر يتسارعون إلى جعل أجهزتهم قادرة على توفير الربط بالشبكة العنكبوتية. هكذا إذا أصبح الأنترنيت يؤثر بشكل قوي فيما يعرفه قطاع الاتصالات والإعلاميات من تطور حتى أصبح الحاسوب الغير مرتبط بشبكة الاتصالات لا مكان له في السوق. سعيد الغماز