رغم تطور وسائل الاتصال، ما زالت مكاتب البريد تضع فوق بوابتها الرئيسية، الخدمات القديمة التي ارتبطت بمكاتب البريد أي "التلغراف البريد التليفون". وهو واقع حال أكبر وكالة لبريد المغرب في شارع محمد الخامس بالرباط، رغم أن الوكالة لم تعد تقدم تلك الخدمات بعد تطور اختصاصاتها. فما القصة؟ عبْر العصور كان الإنسان يبحث عن وسيلة للتواصل عن بعد لتيسير شؤون حياته اليومية. في الزمن الماضي كان التواصل عبر دخان النار، وفي زمننا الحاضر هناك الأنترنيت ووسائل التواصل الاجتماعي. وبين الحقبتين ابتكر الإنسان عبر مراحل، وسائل متعددة للتواصل عن بعد. لكن الابتكار الذي سيشكل ثورة فعلية في مجال الاتصال سيأتي من فرنسا على يد المخترع كلود شاب (Claude Chappe) الذي ابتكر أول نظام لتلغراف هوائي ومرئي. مصطلح تلغراف أصله كلمتان يونانيتان: بعيد وكتابة، وهو ما يعطي لمصطلح تلغراف معنى "الكتابة عن بعد". وبجملة واحدة التلغراف هو أول نظام تقني للاتصالات في العالم وكان ذلك سنة 1792. إذا كان دور الهاتف هو إرسال الصوت من جهاز لجهاز، فإن التلغراف يتكلف بإرسال الرسائل التي كانت في البداية تصل عن طريق الرؤية البصرية (تلغراف شاب: CHAPPE) ثم عن طريق رسائل مشفرة (تلغراف مورس) لنصل في الأخير لرسائل مكتوبة على الورق والمعروفة تاريخيا بالتلغرام. أول اختراع عرفه العالَم ليس جهاز الهاتف الذي يرسل الصوت وإنما جهاز التلغراف الذي يرسل الرسائل. ويعود اختراع التلغراف إلى القرن 18، فيما اختراع التلفون يعود لنهاية القرن 19 وبالضبط 1876. في البداية لم يكن استعمال خدمات التلغراف متاحا للعموم، بل كان استعماله محصورا في الدائرة الرسمية للدول والحكومات. لكن منذ فاتح مارس 1851 سيتم وضع خدمات التلغراف رهن إشارة العموم. وهنا ستتدخل مكاتب البريد التي كانت منتشرة في أغلب مدن العالم، لتتيح خدمات التلغراف إلى جانب وظيفتها الرئيسية المتمثلة في إرسال الرسالات. وبعد ظهور الهاتف، ستنضاف هذه الخدمة لخدمات البريد. فأصبحت مكاتب البريد في العالم معروفة ب "التلغراف البريد التليفون". وليس من قبيل الصدف أن يرتبط اسم البريد بخدمات "ويستيرن يونيون" المتعلقة بتحويل الأموال. سامويل مورس صاحب أشهر تلغراف في التاريخ الذي حمل اسمه، سيساهم في انتشار التلغراف بإنشاء شركة "ويستيرن يونيون" للتلغراف لتقديم الخدمات التلغرافية لعموم الزبائن بعد أن كانت هذه الأخيرة مقتصرة على الجيش والإدارات الحكومية. هذه الشركة ما زالت قائمة حتى وقتنا الراهن، إلا أنها غيرت مجال نشاطها، فأصبحت متخصصة في إرسال الأموال عبر العالم مع الاحتفاظ بنفس اسم الشركة اعتزازا بتاريخها في مجال التلغراف. ورغم تطور وسائل الاتصال وانقراض التلغراف وتوفر كل مواطن على هاتف في جيبه، ما زالت مكاتب البريد تضع خدمات "التلغراف البريد التلفون" فوق بوابتها، عربونا لمحبتها وتعلقها بفترة ذهبية كان فيها البريد محور حياة البشر، والعلبة السوداء لوجدانه. فعبْر خدمات البريد، كان الإنسان يستقبل أخبار الفرح من زواج وولادة وأفراح، كما يستقبل أخبار القرح من وفاة ومرض وأحزان. سعيد الغماز