أي خطاب سياسي أو نقابي انتهازي صرف، كيفما كانت اتجاهاته وأبعاده المتشعبة، لا يخلو من مصلحة ذاتية؛ تؤدي به في جل الأحيان إلى فقدان التوازن الطبيعي المعتاد. ويبلغ هذا الخطاب بحمولته التخريبية أقصى مداه السلبي عمليا؛ عندما يكون قادرا – بأي وسيلة مشروعة كانت أو غير مشروعة – على إلغاء الأطراف الأخرى، المناقضة لتوجهه ومعتقداته، وإلحاق الضرر بها، بشكل فظيع وملموس، أمام مرأى ومسمع العالم بأسره، بعد كسر أجنحتها الصلبة، وتحويلها إلى رماد على أرض الواقع، بشكل واضح وضوح الشمس في رابعة النهار . وحتى لا نخرج من دائرة النقد البناء، المؤسس بطبيعة الحال على الفكر؛ المنبثق من واقعنا كما هو، وتاريخنا الإنساني بكامل حقبه المختلفة، وثقافتنا الأصيلة والمتجددة معا، فإننا نؤكد إيماننا بضرورة فهم كل ما يجري من حولنا، في جميع الشؤون فهما دقيقا، بغية الكشف عن الحقيقة وحيثياتها ما أمكن، حسب قدراتنا و مجهوداتنا المتواضعة من جهة، ومن ثم تسهيل كل الخطوات الرائدة؛ التي تسعى إلى تحقيق الإصلاح والتغيير الإيجابي، الذي ننشده في بلادنا من جهة أخرى . هذه الحقائق ارتأيت التمهيد بها، حتى لا يظن ظان أن تحركات و خرجات العمدة والنقابي والسياسي شباط، تسعى جاهدة إلى الدفاع عن هموم المغاربة وحقوقهم المهضومة، لأن معظم القضايا التي أثارها في عيد العمال الأممي مؤخرا كانت في الواقع حقا أريد به باطل؛ فهي تدخل في تصورنا في دائرة الصراع بين الأحزاب عموما، وهذا ما يمكن أن نصل إليه من خلال استقرائنا تدريجيا لمجمل مواقفه الحاسمة، والمثيرة للجدل في الحقل السياسي المغربي المعاصر؛ منذ تسميته نصف أعضاء الائتلاف الحكومي بالتماسيح والعفاريت، بعد أن صرح بأن حزب العدالة والتنمية يرعى الفساد ولا يحاربه، بل يتستر على المفسدين، ويقدم لهم خدمات غير محدودة. ولم يكتف بهذا الأمر، بل أكد في حملته النقدية للحكومة مؤخرا، في لقائه مع أعضاء المجلس الجهوي لحزب الاستقلال بمدينة أكادير، بعض المظاهر السيئة والخطيرة لوزراء الائتلاف الحكومي، والتي لا يسمح لنا اتجاه هذا المقال ذكرها، أو تحليل بعض ما ورد فيها . من خلال تأملنا في نواح شتى من الأحداث، التي هزت الساحة السياسية المغربية مؤخرا، يتضح أن خطابات شباط المتتالية في كل خرجاته، تحتاج صراحة إلى أدلة وشواهد، لأن"البينة على المدعي"؛ حتى لا يتحول كلامه إلى كذب وافتراء علنا، ليس على أعضاء الحكومة فحسب كما يعتقد البعض، بل على كل المغاربة؛ الذين ينتظرون بأحر من الجمر حصاد الائتلاف الحكومي الحالي؛ الذي يتزعمه حزب العدالة والتنمية، منذ وصوله إلى رئاسة الحكومة بعد الربيع الديمقراطي؛ الذي رفع فيه كل المواطنين سواء داخل بلدنا أو خارجه، و بدون استثناء صغيرهم وكبيرهم، عالمهم و جاهلهم، شعار محاربة الفساد أولا وأخيرا . وإذا كان الكثير من المغاربة يرون– حسب ما ذهبت إليه نتائج صناديق الاقتراع – أن الحزب الوحيد والقادر على حماية شعار محاربة الفساد، هو حزب العدالة والتنمية؛ ذو التوجه الإسلامي فإنه بعد كسبه الثقة" نسبيا"، ثم توليه زمام الأمور، رفع الراية البيضاء أمام الفساد بعينه علانية، بعد الانحناء له، وبسط يديه إليه بأريحية، دون استشارة من يهمهم الأمر، وبذلك تبخرت روحه المندثرة بسرعة فائقة. وعلى إثر ذلك بقي الفساد فسادا ثابتا كما هو، كأن شيئا لم يكن أبدا؛ فلم يزدنا هذا الحزب بدون مبالغة سوى أوجاعا، وألغازا غريبة في عالم الحيوانات البرية، تضحكنا تارة وتبكينا بلا حدود تارة أخرى، إضافة إلى شقاوة في المعيشة، بعد أن قدم لنا طبقا من صنع أحلامنا؛ لكنه انقلب في رمشة عين إلى سراب، بشكل لم يتوقعه قط كل الذين عقدوا آمالهم عليه؛ منذ إعلان رئيس الائتلاف الحكومي الزيادة في الأسعار، بطرق ملتوية وتمويهية، فاقدة لروح المعنى، وهذا ما أدى إلى تخريب واستنزاف جيوب الطبقة المتوسطة والفقيرة بلا شفقة. وفي المقابل بقي المستثمرون – أصحاب الشركات المعفية من أداء الضرائب بالشكل المطلوب – في حالة الانتعاش و الطمأنينة، دون أن يلحق بهم أي تغيير كما كان منتظرا، وهذا ما زاد الطين بلة، لاسيما أثناء تقييمنا لأوضاعنا الاجتماعية. بكل بساطة، أدى هذا الوضع المزري إلى ازدياد الأغنياء غنى والفقراء فقرا … إنها معادلة معوجة، لا علاقة لها بالعدالة الاجتماعية، مادامت تحمل في طياتها نفحات ليبرالية محضة من طراز مغربي منبثقة من حزب ذو نبرة إسلامية !!! . وهذه هي نتيجة سياسة حكومتنا، التي جعلت المجتمع المغربي ضحية هذا الواقع، المؤلم بلا منازع رغما عنه، بعد مروره من عملية الاستهواء الشعبية . طبعا، هذا هو جزاء اختيار المغاربة لحزب العدالة والتنمية، لتولية زمام أمورهم وقيادة الحكومة الحالية، التي يطبعها عدم التجانس بين مكوناتها؛ ومن ثم فهي بحاجة إلى إرادة حقيقية، وعمل جاد لترتيب بيتها الداخلي مرة أخرى بلا ملل؛ عسى أن تكون في موقع القوة المطلوب، وإن كان هذا الوضع بدون أدنى شك صعب المنال، بحكم اختلاف المشارب والتوجهات العامة للأحزاب المشكلة للائتلاف الحكومي؛ فهي كالفسيفساء، لذا يستحيل أن نتكلم عن الانسجام التام في تركيبتها . ما نريد أن نخلص إليه، هو أن شباط انطلق من الحقائق السالفة الذكر، التي لا يختلف فيها اثنان، فجعلها مدخلا مباشرا له، ومفتاحا لزعزعة كيان الحكومة الحالية أمام كل المغاربة، حتى يفقدوا الثقة فيه، وعلى رأسه حزب العدالة والتنمية؛ الذي خذل آمالهم إلى حدود الآن، لعدم وفائه بوعوده عمليا. وهذا هو الهدف المشترك فيما بين شباط والمعارضة الحالية، التي تستعمل كما تبين لنا كل الآليات، والوسائل الممكنة وغير الممكنة، من أجل فرض قوتها، للإطاحة بحكومة بن كيران؛ وبالتالي قذفها مباشرة إلى هامش التاريخ أو مزبلته، على الأقل حتى لا تتكرر تجربة الأحزاب الإسلامية بالمغرب عموما !! . فإستراتيجية العمل السياسي وتطبيقاتها لدى شباط بدأت أشغالها المستمرة بمحاولة الهدم من الداخل، لتحقيق الفرجة المدهشة من الخارج، بعد خروجه منتصرا من باب النجاة، أو بالأحرى باب الإصلاح؛ الذي يلوح به بين الفينة والأخرى، وليس هذا بغريب على الفكر الشباطي، الذي أسقط حكومة آل الفاسي الحديدية، ليتولى منصب الأمين العام لحزب الاستقلال، بطريقة ديمقراطية منبثقة من صناديق الاقتراع تحت تصفيقات أنصاره؛ بعد خوضه لسلسلة من المعارك السياسية التي انتصر فيها، من خلال سحقه لكل من يحاول عرقلة مسيرته البطولية والإشعاعية في نظره، برؤى من إبداعه الخاص. وهذه صورة واضحة من صوره المجسدة لشخصيته المعروفة لدى جمهور الساسة المغاربة . ولكي تكتمل لدينا الصورة الحقيقية لشباط، فقد أكد خالد الجامعي – باقتضاب- أنه يتوفر على صفات لا تتوفر في غيره، فهو رجل شعبوي، يعرف كيف يلعب بالكلام، كما أنه يملك ميلشياته، وقد أحضرها في المؤتمر الثالث عشر لحزب الاستقلال المنعقد سنة 1998م؛ حيث اعتدى أصحابه على عدد من المؤتمرين، الذين كانوا ضد امحمد الدويري. أما في فاتح ماي فقد أحضرها أيضا بشكل أو بآخر، لتحقيق الجمهرة وغاياته، فهي لا تفارقه إذن أينما حل وارتحل! . وهذا ما يؤكد خطورة هذه الشخصية الكاريزماتية و المكيافيلية في آن واحد، وتحركاتها المبنية على المصلحة الفردية بدل المصلحة العامة . ولتحقيق شباط مصالحه ووعوده لجهات أعلى، ربما تكون من فصيلة التماسيح والعفاريت، دعا منذ توليه منصب الأمانة العامة لحزب الميزان إلى التعديل الحكومي، وقد ألح على هذا الأمر مرات عديدة!!. فهذا المطلب و الموقف الثابت لديه لا يقبل المساومة أبدا، ومن هنا يحق لنا القول بأن شباط يمثل الحكومة حينا؛ فهو جزء منها والمعارضة حينا آخر، فبحكم مشاركة حزبه في الحكومة الحالية، كان يبشر أعضاء المعارضة بقرب نهاية مهامها، وضرورة تجديد مكوناتها بعناصر أخرى، لأن هدفه الأساس بناء على مجمل التحاليل لما يجري الآن على الساحة السياسية المغربية، هو استفزاز معظم أعضاء الحكومة الحالية، بغية تغيير بعض وزراء حزبه، واستوزار الذين كانوا بجانبه دائما، وساعدوه على الوصول إلى الأمانة العامة باستحقاق؛- مستندا في ذلك إلى الفصل42 مع إغفال وتجاهل مقتضيات العمل بالفصل 47 من الدستور- وهذا بطبيعة الحال مقابل ما قدموه إليه!. لذلك لا بد في تقديري من رصد كل الخطوات، التي خطاها شباط للوصول إلى منصب الأمانة العامة، حتى ندرك كيفية اختراقه لحزب الميزان بهذا الشكل غير المتوقع، وهذا ما سيحيلنا بطبيعة الحال إلى معرفة أو استدراك بعض ما خفي علينا في الماضي و الحاضر أولا؛ على الأقل حتى لا نبذل جهدا مضنيا فيما لا ينفعنا، ونستوعب جل الأمور المخفية و كواليسها المستورة؛ لكي تتضح لنا كل الرؤى السياسية المستقبلية و سيناريوهاتها المحتملة، وهذا ما سيجعلنا في حالة اليقظة ثانيا، مادام الأمن السياسي كما يبدو جليا بعيدا عن واقعنا، فلم نكن نتصور يوما ما بأن يكون مآل بنيته بهذا المستوى الهش والفوضوي، الممزوج بالسخط المبرح في زمن اللخبطة الطاغية على المعالم الكبرى لخريطتنا السياسية المتصدعة؛ التي لا تبشر أجواؤها الراهنة وربما المستقبلية أيضا بخير! [email protected] ذ عزيز بعزي يتبع