شباط ليس زعيما سياسيا فحسب، بل قائد الزعامات، كما يحلو أن يصفه بذلك بعض أنصاره، وثلة من المناوئين له ، وهذه الحقيقة تبينها بما لا يدع مجالا للشك اللقاءات والمحافل التي لا يغيب عنها . وما يثير الذهول أنه لا يتهاون في صنع الحدث في كل المناسبات، التي تتيح له فرصة الإدلاء بمواقفه الجريئة؛ التي عرف بها، منذ بداية مشواره النقابي والسياسي، و التي اكتملت صورتها بشكل واضح للعيان مباشرة مع توليته منصب الأمين العام لحزب الاستقلال أواخر سبتمبر الماضي خلفا لعباس الفاسي،بعد الصراعات والمفاوضات؛ التي بينت بشكل ملموس ما مدى قدرته على مواجهة مختلف أصناف التحديات، رغم كل الصعاب؛ التي وفق في تفكيك ألغازها، لبناء أفقه السياسية بلا حدود والمسطرة مسبقا،جاعلا من كل مستحيلات الماضي ممكنات الحاضر، بشكل لم تشهده قط الزعامات السياسية الكلاسيكية والحديثة داخل حزب الميزان.وهذا ما يدفعنا إلى البحث والتساؤل عن الأسس التي ارتكز عليها شباط في تحقيق إنجازاته السياسية والنقابية ! . ربما يكون يوم فاتح ماي مناسبة لرفع كل نداءات عمال العالم عامة وبدون استثناء، وهذا ما يجعل شغيلتنا أيضا معنية بالأمر،فهي غير بعيدة عن هذا اليوم الأممي، الذي أثارت وقائعه ضجة على المستوى السياسي المغربي والمغاربي . فشباط الذي تزعم الفئات العريضة من العمال، وجد نفسه بحاجة إلى إبداء مواقفه في العديد من القضايا، فلسانه – غالبا في مثل هذه المناسبات – لا يأتي إلا بأشياء لم تخطر على بال السياسيين والنقابيين ، لذلك فكل موقف يصدره بوعي أو بدون وعي، يحسب عليه لا لشيء إلا لأنه زعيم سياسي ونقابي مسؤول . ومن هنا وجب عليه أن يعرف الاتجاه الذي يسلكه قبل أن يتحدث، ويحدد مواقفه؛التي ستشهد عليه، إذا أراد أن يضع بصمته الخاصة في سجلات التاريخ السياسي والنقابي المغربي المعاصر . شباط في هذا اليوم الأممي لم يجد بدا في إصدار مواقفه الجريئة، التي لا تحدها جداول أعمال الأمانة العامة أو البرلمان أو اللقاءات الدبلوماسية،فقد بدأ خطابه الجماهيري؛ الذي تزعمه بتوجيه انتقاداته اللاذعة إلى حكومة عبد الإله بن كيران ووزرائها، بعد الاستهلال بمفهوم الفساد وضرورة محاربته؛ وفي معرض حديثه عن هذه القضية تساءل مستغربا كيف يمكن ربط محاربة الفساد بالمشروع الإصلاحي لحزب العدالة والتنمية، لاسيما و أن الحكومة الحالية في نظره ترعى الفساد، وتقدم خدمات للمفسدين وتتستر عليهم ؟. لذلك دعا أعضاء الحكومة إلى التحلي بالموضوعية، و عدم الانتقائية في محاربة الفساد؛ حيث جعل- بدون تردد وبلغة واضحة – نصف أعضاءها تماسيح وعفاريت . أكيد أن حدة نقد شباط لم تتوقف عند هذا الحد،فما قيل سابقا يعد بداية لخطوته الأولى في عملية النقد،أما الخطوة الثانية ، فقد أشار فيها إلى أن أحد وزراء الحكومة الحالية دخل إلى البرلمان في حالة سكر في إحدى الاجتماعات، دون تسمية اسمه أو حقيبته الحزبية، وهي النقطة التي أفاضت الكأس، وأثارت غضب السياسيين والبرلمانيين والفئات العريضة الواعية من المجتمع المغربي، و بعد ذلك استرسل في كلامه المليء بالقذف والسب لحكومة بن كيران، لعدم رضاه بحصادها، حسب ما رصده شهود عيان بدون تحيز، ومن هنا انطلقت العاصفة الشباطية؛التي لم ترحم أعضاء الحكومة الحالية بل نسيت حدود الاجتياح. وفي اجتماع الأغلبية، المنعقد في اليوم الموالي، اتهم شباط بن كيران بأنه المسؤول الأول عن إغراق البلاد في ويلات الويلات ، بعد أن وجه إليه هذا الأخير، ووزير السكنى والتعمير انتقادات لاذعة، وبلغة التحدي، وفي دائرة البحث عن البرلماني السكران، دعا شباط كل من يهمه الأمر إلى اللجوء للقضاء، في حالة الشعور بالإهانة أو القذف. وعلى خلفية انتقادات الأمين العام لحزب الاستقلال، شن وزير التجهيز والنقل هجوما عليه، ووصف كل ما قاله يوم فاتح ماي بأنه إنزال بالسياسة إلى أدنى المستويات، ولم يلق حرجا في وصف هذه المرتبة – بلغتنا الشعبية – ب "الواد الحار". وهذا ما دفع الأمانة العامة لحزب العدالة والتنمية إلى اتخاذ قرار، مفاده عدم الانجرار مع كلام شباط، بعدما تبين لها أن مواقفه ليست سوى أداة في يد جهات، تسعى إلى عرقلة عمل الحكومة الإصلاحي،وهذا الكلام يحتاج إلى توضيح، لكي تتم عملية الفهم، لدى المغاربة كلهم لكل ما يجري في واقعنا السياسي . وعليه ، فمن خلال تصريحات شباط وعاصفته، التي زعزعت الحكومة الحالية ، والمناقشات التي جاءت على إثر هذا الحدث، يتضح أن السجال السياسي المغربي الحالي، سيتخذ منعطفا آخر وتداعيات مختلفة، ربما ستبدأ حلقاتها في القريب العاجل ،انطلاقا من تقييم عاصفة شباط و كل مراحل العمل الحكومي بدون استثناء، وإثارة تساؤلات معنية بواقع الإصلاح، الذي راهن عليه المجتمع المغربي بعد إنشاء الدستور الجديد، الذي حدد صلاحيات كل الجهات المسؤولة. ليس ثمة شك، في أن شباط له حق الكلمة لصياغة خطابه كما يشاء في فاتح ماي، فهو يملك حق النقد لسير الحكومة وثغراتها؛فحرية التعبير من أركان توضيح الرؤى، سيرا على نهج الدول، التي تهدف إلى تحقيق الإصلاح المنشود والتغيير الإيجابي . لكن الحرية – والحق كذلك – يجب أن تكون مقرونة بكلام منطقي ومعقول، يستجيب لمطالب المجتمع المغربي المشروعة ، وهذا ما شرع فيه شباط عندما أشار إلى أن اللجوء لرفع الأسعار والضرائب على الطبقة المتوسطة، وإعلان الحرب على المقاولة المواطنة غير معقول، إلا أن خطابه هذا ضم عبارات القذف والسب، وهذا ما جعله يتيه عن المطلوب، ويتخذ سبيلا آخر لا يعنينا صراحة؛ بحكم أننا نريد أن يكون العمل السياسي في بلادنا مقرونا بالجانب الأخلاقي، لأن غياب ذلك سيؤدي لا محالة إلى الزيغ عن الصواب، وبالتالي هدم كل ما من شأنه خدمة واقعنا ومستقبلنا عمليا. فلو استمر شباط في إثارة بعض القضايا السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية ، بشكل صريح وموضوعي لما كان أفضل، ولو جعل هذه المحطة النضالية فرصة لتقييم عمل الحكومة في مستوياتها المتعددة،والتساؤل عن القيمة المضافة لها، في شأن قطاع الصحة والتعليم والعالم القروي وحقوق الإنسان ومسألة الصحراء… لكان أفضل أيضا . لكنه فضل أن يجمع بين هذا الذي نريد في أحد أجزاءه، وما يريد دون الفصل بينهما، ومن هنا تكمن بداية العاصفة الشباطية- عمليا – و خطورتها ، المرتبطة بأهداف لا نعلم تفاصيلها الدقيقة على المستوى البعيد . ولنفترض مثلا أن شباط أضحى في مرتبة وزير للحكومة فهل سيغدو قادرا على محاربة الفساد، أم أنه سيدير ظهره إلينا، كما فعل أسلافه في أكثر من مرة ؟، أو ربما سيصرح كما فعل صاحبه أو أخوه أو عدوه – صراحة أو نفاقا سياسيا – بن كيران بوجود أياد خفية تماسيحية و عفريتية تعرقل مسيرته الإصلاحية، فيسميها دينصورات أو ما شابه ذلك ! . 2/2 الواقع أن شباط على دراية كاملة بنقط ضعف الحكومة الحالية، لذلك فكل ما أصدره في عيد العمال ربما يكون تكتيكا نوعيا، لرسم سياسة غير معلنة ما بعد فاتح ماي،ولا يملك في هذه المناسبة سوى تلك الانتقادات اللاذعة، والمرسلة شرارتها في ضوء النهار أمام العمال، لخلخلة أعضاء الحكومة وكيانها غير المنسجم، حتى يعلم درجة قوتهم أو ضعفهم، أمام قنابل النقد، التي تطلقها عاصفته بلا هوادة . أما الإصلاح الذي نريد و المرتبط بمحاربة الفساد،فشباط لم يتهاون في الإجابة على ما كان يعرقل خطوات بن كيران، الذي كبلته التماسيح والعفاريت، وعجز لحد الآن أن يجد لها مخرجا، بعد أن بين ضعفه أمامها. و أعلن بدون مقدمات قائلا"عفا الله عما سلف"،للخروج عن دائرة الصراع المفتعل، وهذا ما أثار غضب المغاربة قاطبة،ولإدراك خطئه عمل على تأويل ما قاله،ليرجع مرة أخرى إلى ساحة الصراع بنفس جديد، ولكن بدون جدوى . الحل في نظر شباط سهل، فالحكومة الحالية تحتاج إلى "بويا عمر"، لكي تظهر قسمات وجوه العفاريت والتماسيح المجهولة و المقنعة،وقد أشار إلى أنها توجد في عقر حكومة بن كيران،ويناهز عددها النصف – كما أوردنا سابقا-. لكن في مقابل ذلك أشار وزير من حزب العدالة والتنمية إلى أن التماسيح والعفاريت موجودة في الداخل، وليس في الخارج، وتقدم طعنات إلى القريبين، ووصلت بهم الوقاحة إلى السب والشتم على حد تعبيره . من هنا نتساءل، هل يمكن القول بأن موقع التماسيح والعفاريت محدد الآن ؟ وإذا كان الأمر كذلك فهل نملك القدرة للوصول إليه و معرفته على حقيقته ؟ ليس في مقدورنا الإجابة على هذه الأسئلة، ما دامت نتائج الحوار بين الفئات المتهمة والمتضاربة أقوالها سارية المفعول، ولم تصل بعد إلى نهايتها حسب علمنا، ومن الصعب أيضا، وضع سيناريوهات علمية على مخلفات العاصفة الشباطية المندلعة عمليا في فاتح ماي وتبعاتها؛ التي تحتاج إلى تفكير عميق، غير البعيد عن البعد السياسي والإصلاحي . لكن في حالة إذا لم تتحول هذه الأمور كلها إلى مسرحية سياسية بامتياز،إذ الواقع السياسي المغربي الحالي خاصة داخل الحكومة يغلب عليه طابع التمثيل و الفكاهة، بشتى ألوانها وصورها المضحكة . فبرلماننا اليوم أضحى عبارة عن خشبة مسرح بامتياز،تعرض فيه مشاهد لمسرحيات،مزينة بالحوارات المتنوعة. لذلك نجد أن بعض الوزراء والبرلمانيين يبحثون ويجمعون الحكم المغربية القحة والأمثال و الصور البلاغية، للاستشهاد بها أثناء خطاباتهم، أو ردا على الخطابات الأخرى،حتى ينالوا رضا وثناء الحضور المباشر، والمتتبعين لحلقات البرلمان المغربي، عبر الشاشات التلفزيونية والوسائل التكنولوجية الحديثة، وحتى ترسم أقلام الصحفيين هذه الأقوال والأمثال، وتضعها بين قوسين بدون تصرف، وتنسبها إلى مصادرها بكل أمانة ، و هذا ما يحلو لبعض وزرائنا وبرلمانيينا فعله؛ وهذا الصنف له تجربة في الخطاب واللغو و "التقشاب" السياسي الفظيع في بعض الأحيان و في" الشاذة و الفاذة"،بدون فائدة تجعلنا نطمع فيما سيأتي. أما الصنف الآخر – من الوزراء والبرلمانيين- الذي لا يقدر على الكلام، أو يعجز عن الاسترسال في الخطاب، ولا يملك القدرة على توظيف الأمثال للاستشهاد بها؛ فإنه سرعان ما يتحرك، ليتبع أضواء كاميرا البرلمان، للكشف عن كل ما يراه مناسبا في جسده، بشكل دقيق ومحدد للتعبير عن عدم رضاه. وقد كان آخر مظهر دال على ذلك هو كشف أحد البرلمانيين بطنه دون حياء، حتى يبين للعالم كله أن بطنه ليست من صنف "كرش لحرام" ، وأن ما بداخلها حلال و طاهر، ولا توجد فيها ولو ذرة من طعم المال الحرام، و لا دخل لها بالفساد المحارب في سياسة بن كيران،وهذه آلية من آليات محاربة الفساد لدى حكومتنا الموقرة للأسف الشديد . و من خلال الأحداث التي صنعتها العاصفة الشباطية يوم عيد الشغل، فإن الكل يرتقب نتائج إستراتيجية تفكير شباط ، لأننا نعتقد أن خطابه لم يأتي عبثا، وإنما جاء بغية التعبير عن المسار الجديد؛الذي سيتخذه في المستقبل، فهو يبدأ بأشياء، وينتهي بأشياء أخرى، تثير انتباه العامة والخاصة، وهذا ما ننتظره أيضا بعد إعلان المجلس الوطني لحزب الاستقلال قراره بالانسحاب من الحكومة، أثناء انعقاد دورته العادية الثالثة، وبعد التدخل الملكي لصد اجتياح هذه العاصفة، التي لا تخدم البلاد والعباد. والغريب في الأمر أن العاصفة الشباطية لم تكتف بزعزعة الشأن السياسي المغربي على مستوى الحكومة المغربية فحسب، بل أثارت غضب جيراننا الجزائريين أيضا، عندما أكد شباط ضرورة استرجاع الصحراء الشرقية،ومن هنا تكمن حدود العاصفة الشباطية جغرافيا . إنه لمن المؤكد أن شباط اتخذ فاتح ماي مناسبة لتفجير خطابه الساعي إلى إحداث انقلاب على حكومة بن كيران، التي وجدت نفسها في موقع الدفاع دون سابق علم. إنها خرجة أخرى من الخرجات الشباطية، التي تحولت إلى عاصفة، أفزعت جل وزراء الحكومة، وجعلتهم يتخذون الحذر أكثر فأكثر، بعد الصدمة التي أصابتهم. لكن قوة هذه العاصفة وحمولتها الثقيلة هذه المرة، جعلت شباط ووزراءه في واد و ما تبقى من حكومة بن كيران في واد آخر!!. وهذا ما يجعلنا نقف وقفة تأمل، للنظر في واقع نخبتنا السياسية المشغولة حسب ما تبين لنا بوضع برامج وخطط للعواصف والصراعات والمعارك والانقلابات ، عوض خلق مشاريع تنموية، وفقا للبرامج الانتخابية ، والعمل بمقتضياتها، لنيل رضا المغاربة، الذين تحولت آمالهم إلى آلام، وهذا للأسف الشديد، هو حصاد العقل السياسي المغربي المعاصر، – إذا جاز لنا هذا الوصف – بعد الربيع الديمقراطي ، الذي تلاه الدستور الجديد،وحدوث أول انقلاب على الحكومة ، بزعامة شباط الذي يسعى إلى الوصول للقمة وسحق كل المراحل؛ ولكن أي قمة يقصدها مادامت السياسة في بلادنا تطبعها الصبيانية الأفقية، التي لا تحدها حدود، ولا تنتج سوى الفساد بحذافيره و التعاسة بعينها؛ التي تهوي مباشرة على ظهر الإصلاح، فتقسمه بلا شفقة بمعول الفساد المركب إلى قسمين أو أكثر؛ فيغدوا منعدما ؟