اعتمدت المنظمات النسائية والحقوقية في خطاباتها المطالبة بتعديل مدونة الاسرة وتطويرها على عدة مقاربات منها: مقاربة "النوع GENDER" المستوردة، ليس كآلية من آليات التحليل فقط، بل لتقييم الشريعة والفقه وربط النتائج المتوصل إليها بالمدونة والفقه والشريعة، لتأكيد التلاحم بين هذه الحقول الثلاثة للطعن فيها والحكم بقصورها وعدم صلاحيتها للتطبيق. ولفهم الأصول المرجعية لمطالب تعديل مدونة الأسرة المبنية على هذه المقاربة، مما يستدعي فهم هذه المقاربة واستيعابها. إن مصطلح "النوع" "gender" يطرح إشكالا على المستوى المفاهيمي والوظيفي، وتعتريه صعوبة التحديد لمدلوله، تقول أماني أبو الفضل فرج: "باعتباري شاهدة عيان ليس فقط على لحظة ميلاده في العاصمة الصينية بكين عند انعقاد مؤتمر المرأة 1995، ولكن أيضا شاهدة على هذا المصطلح منذ أن كان جنينا في رحم النظام العالمي الجديد أثناء مؤتمر القاهرة للسكان والتنمية 1994م، كم كانت مهمتي لشرح أبعاد هذا المصطلح شاقة…"1 فالدلالة التاريخية لكلمة "النوع" "gender" كانت تشير إلى الفرق بين الجنسين ذكورة وأنوثة" كل منهما بخصائصه فكثر استخدامها في مجال الدراسات اللغوية لتشير إلى ضمائر المذكر والمؤنث معا. Advertisements وقبل الحديث عن تعريف مقاربة النوع "gender" ومرتكزاتها، سأتناول التطور التاريخي لمصطلح المساواة ومفهومه الذي أصبح يدل على النوع، من خلال المؤتمرات الدولية والاتفاقيات المصادق عليها. أولا: تطور المفهوم من "المساواة" إلى النوع "gender": إن الراصد لتطور مصطلح "المساواة" من خلال المؤتمرات الدولية التي عقدت، والاتفاقيات التي أبرمت وصادقت عليها وفود الدول ليجد أن مصطلح "المساواة" قد تغير مفهومه ودلالته، ومن خلال نظرة تاريخية لظهور دلالة جديدة لهذا المصطلح، فقد "اعتبرت الأممالمتحدة سنة 1975 سنة دولية للمرأة وكان شعار هذه السنة هو "المساواة والتنمية والسلم" وهذا صار هذا الشعار هو الموجه لروح المؤتمرات التي عقدت حول المرأة بعد ذلك. ففي نفس السنة عقد المؤتمر الأول للمرأة في المكسيك وكان من نتائجه إعلان مساواة النساء بالرجال من حيث المساهمة في "التنمية والسلم"، ثم حدد معنى المساواة بعد ذلك في "عدم التفرقة بين الجنسين في كرامة الإنسان وقيمته". وفي مؤتمر كوبنهاكن 1980م، تم التأكيد على المساواة بين الرجل والمرأة إلا أنه خص المساواة بالجانب المهني والخدمات الترفيهية إلى جانب المساواة في "الصحة والتعليم والتربية"، أما مؤتمر نيروبي عام 1985 فجديده هو ترسيخ الإجراءات الاجتماعية المحققة لهذه المساواة. Advertisements وفي مؤتمر بكين شذ مفهوم المساواة عن كل المفاهيم السابقة، ليصبح معناه المساواة في "النوع"، بدلا من "الجنس" فقد أقرت الوثيقة بحق المرأة في أن تتساوى مع الرجل في نوعه، وأن لا تكون نوعا منفصلا عنه، ورفضت الفروق البيولوجية، فتختار المرأة الجنس الذي تحب أن تعامل على أساسه".2 وقبل مؤتمر بكين 1995 كان مؤتمر السكان والتنمية بالقاهرة 1994 بمثابة الصدمة الحضارية التي أخرجت الشرق من براءته الموروثة، حيث ورد مصطلح "الجندر" في خمسين موضعا بديلا عن كلمة "الجنسين"، إلا أن توظيفه كان "في إطار المناداة بإلغاء الفروق واللامساواة بين الرجال والنساء. فمصطلح "gender disevimation" تمت ترجمته على أنه إزالة التمييز بين الجنسين، وترجم "gender egality" على أنها المساواة بين الجنسين وانتهى الأمر...".3 لم يكن مؤتمر القاهرة إلا مرحلة من مراحل التقديم المرحلي التدريجي لمصطلح "الجندر" مما ينبئ بوجود فلسفة ما يتم تحيينها، وبعد عام انعقد مؤتمر بكين تحت شعار "إعادة صياغة المجتمع عن طريق رؤية العالم من خلال عيون النساء". Advertisements وقد وردت كلمة "جندار" في وثيقة هذا المؤتمر "حوالي 233 مرة ، ولوحظ أنها تأتي لتعبر عن أكثر من معنى فهي تارة تشير إلى "الجنسين" وتارة تشير إلى "المرأة" فقط، وتارة للتعبير عن الأدوار المنوطة بالجنسين، وهكذا توسع المعنى وتمدد ليشمل معاني كلها تحتشد تحت لواء لفظة "gender" وتمت بالتبعية ترجمتها في الإصدار العربي للوثيقة على أنها الجنسين ما أفقدها منطقية السياق في كثير من المواضيع..".4 وهذا الغموض في مصطلح "جندار" دفع وفود الدول لمطالبة إدارة المؤتمر في الجلسات التحضيرية للكشف عن معناه الحقيقي، وبدأت المفاوضات الطويلة والاجتماعات الاستثنائية والمذكرات الملحقة التي أدت إلى تعميق الغموض واللبس،5 فعبارة "الجندر" "النوع" هذه ليست بالبراءة التي قد يتخيلها البعض على أنها مجرد صيغة مهذبة للإشارة إلى نوع الجنس، ذكر وأنى، وإنما هي عبارة تخفي من ورائها حركة فكرية تخريبية، قائمة على رفض حقيقة أن اختلاف الذكر والأنثى من صنع الله عز وجل بل يدعون أنه مجرد اختلاف ناتج عن التنشئة الاجتماعية وعلى بيئة يحتكرها الرجل، يتحكم فيها لصالحه الشخصي"6 إنه بحق مصطلح منظومة يعبر عن فلسفة ونظام قيمي متكامل، ويقدم صورة حياتية غير نمطية، يقتحم بها الفكر الغربي مجتمعات لها خصوصيتها وذات جذور حضارية وتراث ديني يصعب على الاقتلاع".7 ثانيا: دلالة مصطلح "النوع" "جندر" رغم التحفظ الذي أبدته وفود الدول العربية على استخدام وتداول مصطلح "الجندر" فقد قامت بمحاولة تعريفه على أنه: "إدخال منظور المرأة داخل مجالات العمل والإنتاج والخدمات ووضع السياسات…"، وأنه يعني "أن يتمكن كل من الرجل والمرأة علي أداء دوره المنوط به …"، وتعرف الموسوعة البريطانية قوية الحرية Gender ldentity" بأنها: شعور الإنسان بنفسه كذكر أو أنثى، وفي الأعم الأغلب فإن الهوية الجندرية تطابق الخصائص العضوية، لكن هناك حالات لا يرتبط فيها شعور الإنسان بخصائصه العضوية، ولا يكون هناك توافق بين الصفات العضوية وهويته الجندرية (أي شعوره الشخصي بالذكورة أو الأنوثة)" …. وتواصل التعريف بقولها: "إن الهوية الجندرية ليست ثابتة بالولادة – ذكر أو أنثى – بل تؤثر فيها العوامل النفسية والاجتماعية بتشكيل نواة الهوية الجندرية وهي تتغير وتتوسع بتأثير العوامل الاجتماعية كلما نما الطفل. . . كما أنه من الممكن أن تتكون هوية جندرية لاحقة أو ثانوية لتتطور وتطغى على الهوية الجندرية الأساسية – الذكورة أو الأنوثة – حيث يتم اكتساب أنماط من السلوك الجنسي في وقت لاحق من الحياة، إذ أن أنماط السلوك الجنسي والغير نمطية منها أيضاً تتطور لاحقاً حتى بين الجنسين…"8 أما منظمة "الصحة العالمية" فتعرفه بأنه: "المصطلح الذي يفيد استعماله-أي الجندر- وصف الخصائص التي يحملها الرجل والمرأة كصفات مركبة اجتماعية، لا علاقة لها بالاختلافات العضوية" بمعنى أن كونك ذكراً أو أنثى عضوياً ليس له علاقة باختيارك لأي نشاط جنسي قد تمارسه فالمرأة ليست امرأة إلا لأن المجتمع أعطاها ذلك الدور".9 Advertisements إلا أن الأستاذة أماني أبو الفضل فرج، خبرت خبايا ما يروج في أروقة الأممالمتحدة، وما يحاك فيها ضد الإنسانية، قالت عن نفسها: "لقد قضيت ثمانية أعوام من عمري في أروقة الأممالمتحدة بحثا عن حل وسط يجمعنا نحن العرب والمسلمين مع هذا المصطلح الوافد الغريب المفروض علينا بقوة النظام العالمي الجديد…"10 وأضافت قائلة : "إنه على الرغم من أن المعنى الطبيعي لكلمة "جندر" هو الفروق بين الجنسين ذكورة وأنوثة، وأن هذه الكلمة تشير بوضوح إلى انفراد كل جنس بخصائصه ولكن المعنى الذي فرضه السياق الجديد لفلسفة الجندر هو العكس تماما فأصبح يعني : إلغاء كل الفروق بين الرجل والمرأة وعدم الاعتراف بها، سواء كانت فروقا بيولوجية من نتائج الطبيعة، أو كل ما ينتج عن هذه الخصائص العضوية من توزيع لأدوار الحياة هذه هي أقرب صيغة تعريفية نستطيع أن نوردها."11 إن مضمون فلسفة "النوع" "gender" التي تعتبر أرضية المؤتمر الذي يعتبر بدوره مرجعية المنظمات النسائية "لا تعترف بكون الإنسان ذكرا أو أنثى، وتؤمن أن التغييرات الجسمانية التي تفرق بين الرجل والمرأة ناجمة عن التنشئة فالإنسان يخلق صفحة بيضاء وما يطرأ عليه من تغيير إنما مصدره التنشئة وعليه يمكن للمرأة أن تصبح رجلا ويمكن للرجل أن يصير امرأة إذا رغب."12، و"تخلص نظرية النوع إلى أنه ينبغي فك الارتباط بين البيولوجي والاجتماعي، بمعنى أن الذكورة والأنوثة لا تحددان في ذاتها موقعا أدنى أو أعلى، ولا تقضيان إلى أدوار نمطية قارة للرجل وللمرأة وبالتالي من الممكن إحداث تغييرات في الأدوار الاجتماعية للنوعين في اتجاه المساواة."13 ________________________________ Advertisements المصادر والمراجع: *أستاذ باحث في قضايا الفقه والأسرة. 1. -تحرير المرأة العربية فلسفة الجندر نموذجا، دراسة في المصطلح و المفهوم أماني أبو الفضل فرج، المرأة وتحولات عصر حديد، ندوة الفكر في أسبوعها الثقافي الثالث، إشراف المكتب الإعلامي بدار الفكر، ص: 521. 2. -خلفيات مؤتمر بكين واحتكار مؤتمرات المرأة : نور الهدى سعيد قضايا دولية، ع: 300 16 أكتوبر 1995م ص: 10 3. -تحرير المرأة العربية فلسفة الجندر نموذجا، ص:522. 4. -المرجع السابق، ص: 522 -523 . 5. -المرجع السابق، ص: 523. 6. -المرأة والنظام العالمي رؤية إسلامية زينب عبد العزيز جامعة الصحوة الإسلامية، 293/2. 7. -تحرير المرأة العربية فلسفة الجندر نموذجا، ص:523. 8. -الجندرة: مطية الشذوذ الجنسي، نزار محمد عثمان، موقع الجزيرة على شبكة الانترنيت: www.aljazeera.net 9. -المرجع السابق. 10. تحرير المرأة العربية فلسفة الجندر نموذجا، ص: 525-524. 11. -المرجع السابق. 12. -قراءة في وثيقة مؤتمر بكين، د. نزهة امعاريج، جامعة الصحوة الإسلامية، الدورة الخامسة، ج292/2 وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية المملكة المغربية. 13. -في الاتصال ما بين الشريعة الإسلامية والشريعة الدولية في عدم التمييز بين المرأة والرجل في الحقوق والواجبات، عبد الصمد الديالمي، مقدمات: المجلة المغاربية للكتاب، ع. خ. رقم: 70/4. Advertisements Advertisements