يبدو أن تقارير المجلس الأعلى للحسابات توضح أننا ما زلنا بعيدين كل البعد عن معايير "الحكامة" التي جاء بها دستور2011م. ومن يعارض ما ذهبنا إليه، فبإمكانه أن يفسر لنا أسباب استفحال ظاهرة الفساد ببلدنا، وما الأسباب التي جعلتنا نحتل الرتبة ال90 من ضمن 176 دولة، بسبب النتائج المتدنية المحصل عليها في جل المؤشرات الخاصة بالرشوة والشفافية؟ حتى لا نقع في المزايدات التي ترهق مصيرنا، فمن الأولى أن نلتزم الصمت، كحكمة عندما نصل بالملموس إلى أن منطق المحسوبية والزبونية يتحكم في عدد كبير من التعيينات التي تتم ببلدنا. وحسب ما اطلعت عليه، فإن المندوبية السامية للتخطيط ترى أن ما يقارب 26 في المائة من التعيينات، والتوظيفات لم تجد تفسيرا لها. إن المؤسسة سالفة الذكر قد وجدت أن بعض الأشخاص الذين حصول على وظائف لا يتوفرون على الكفاءة؛ بل إن بعضهم لا يتوفرون على شواهد تؤهلهم لتحمل مسؤولية الإدارة. ومن ثم، فمن حقنا أن نستغرب، وإن كان عدم الاستغراب بالمنطق المغربي فطري في مثل هذه القضايا، إذا علمنا أن ربع التوظيفات بالمغرب يتم بمنطق الزبونية. ولا ننسى أن المنطق السياسوي يخلق ما لا يمكن تصوره في عالم الزبونية والفساد الذي يهدد كيان الدولة، ويؤدي إلى نتائج سياسية واقتصادية في غاية الخطورة، كما يؤثر على الأداء الحكومي، ويشيع أجواء عدم الثقة، كما ينشر الإحساس بالظلم، ويقوم بتقويض الشرعية السياسية للدولة، ويخلق أمام الذين يسيرون دواليب الدولة مفاتيح للمنافسة في إطار ريع الفساد، وهذا ما يغضب الشعب، وبالتالي الإضرار بالنمو الاقتصادي وبالتنمية الاجتماعية عموما. ولهذا، نجد أن الكلفة الاقتصادية للفساد ببلدنا تقدر بحوالي 2 في المائة من الناتج الوطني الإجمالي، وبذلك تصل قيمة الخسائر المترتبة عن ذلك إلى حوالي 200 مليار درهم. وبدون الاستناد إلى لغة الأرقام، فجل المغاربة يعترفون بأن الفساد سمة من سمات بلدنا. أعتقد أن كل ما ذكرناه يتعلق بالفساد الأصغر. أما الفساد الأكبر، فهو الأشد خطورة على حاضرنا ومستقبلنا، ولا يمكن أن ندعي معرفة تفاصيله، بحكم تعقد ملتبساته؛ ففي بعض الحالات تتضح معالمه، لكي تبين لنا أن ما خفي أعظم، وفي حالات أخرى تجعلنا بعض الحقائق التي نقف عندها، نختار الرجوع إلى الوراء، لكي نتأمل قصة رواها القديس أوغسطين، حيث وقع قرصان في أسر الإسكندر الكبير، الذي سأله: "كيف يجرؤ على إزعاج البحر؟" ثم "كيف تجرؤ على إزعاج العالم بأسره؟"، فأجاب القرصان: "لأنني أفعل ذلك بسفينة صغيرة فحسب، أدعى لصا.. وأنت الذي يفعل ذلك بأسطول ضخم تدعى إمبراطورا". وهذا ينطبق على واقعنا؛ فاللصوص الكبار، وما أدراك ما الكبار من الصعب محاكمتهم، على اعتبار أن تصرفاتهم تأخذ مشروعيتها من الأعلى في عالم الفساد الذي لا تخفى معالمه عند أهله.. وبذلك يرون أن من تجب محاكمتهم هم غيرهم في حالة تجاوزهم الخطوط الحمراء التي تثير الانتباه وتزعج الرأي العام.. وما الفساد الأكبر سوى أصل الداء الذي يستحق المحاسبة قبل محاسبة الفساد الأصغر، حتى تكون عملية الإصلاح والتغيير المنشودين ممكنة التحقق بشكل عملي.