من المنتظر أن تتعزز مدينة أكادير بمشرع سينضاف إلى الدينامية الكبيرة التي تشهدها البنية التحتية لمدينة الانبعاث. لا نتحدث هنا عن الحافلات الفائقة الجودة ولا عن المسرح الكبير ولا على الممرات تحت أرضية….وإنما نتحدث عن مشروع تيليفيريك أكادير أوفلا الذي يحظى بخصوصية متفردة تربط حاضر المدينة بتاريخها. وإذا كان ترميم قصبة أكادير أوفلا وما صاحبه من اكتشافات أركيولوجية قد ساهم في إحياء ذاكرة مدينة تعرضت لزلزال دمر جميع معالمها، فإن تيليفيريك أكادير أوفلا سيبعث من جديد أكادير ما قبل زلزال 1960 وسيجعلها حاضرة في كل رحلة عبر قاطرات التيليفيريك. مشروع التيليفيريك بشكل عام هو تجهيزات عصرية حداثية تتألف من محطة مجهزة بآليات تكنولوجية، وأعمدة لحمل الأحبال الكهربائية وقاطرات تسمح بركوب الزبناء والتمتع بمناظر طبيعية من علو يجعل من المكان منظرا بانوراميا كلوحة من صنع فنان تشكيلي. لكن تيليفيريك أكادير أوفلا هو أكثر من ذلك، لأنه يربط بين موقعين لهما مكانة تاريخية في ذاكرة المدينة. كما أنه لا يسمح فقط بالتمتع برحلة في قاطرة متحركة بعلو مرتفع، وإنما يجعل من الرحلة سفرا في التاريخ واستحضارا لذاكرة مدينة أصابها ما أصابها من دمار، إلى جانب متعة السياحة. تيليفيريك أكادير أوفلا لا يمكن اختزاله في تجهيزات عصرية، ولا في رحلة للاستمتاع كما هو حال التيليفيريك في كثير من مناطق العالم. وإنما هو تيليفيريك إلى جانب كل ذلك، ينطلق من منطقة لها تاريخ وأحداث عالقة بذاكرة المدينة، ليصل إلى قصبة كانت ذات يوم مدينة قائمة بذاتها، أزقتها تعج بالحياة وأحيائها لا زالت عالقة بذاكرة مدينة شكل يوم 29 فبراير 1960 يوما فارقا في تاريخ وحياة مدينة اسمها أكادير. تيليفيريك أكادير أوفلا ليس مشروعا عاديا ولا استثمارا طبيعيا، وإنما هو مسار يرصد تاريخ مدينة وسفر في أزقة الزمان ودروب التاريخ. انطلاقة التليفيريك تقع في مكان كان ذات يوم عبارة عن مدارة سبعة طرق (rond point) وبقربه كانت تقف شامخة مدرسة الفتيات في زنقة العزاوي التي تؤدي إلى ساحة التجارة حيث كانت تقف حافلات نقل المسافرين. ومن صدف القدر أن تقع محطة انطلاقة التيليفيريك في المكان الذي كانت تقف فيه حافلات نقل المسافرين، وكأن الأقدار أرادت أن تتحول الرحلات من أسفار إلى ربوع المملكة الشريفة ما قبل الزلزال عبر الحافلات، إلى رحلة تقود إلى قصبة أكادير أوفلا عبر قاطرات التيليفيريك من نفس المكان. تقع محطة التيليفيريك في حي كبيرا كان اسمه ذات يوم تالبرجت تتوسطه ساحة مليئة بالنشاط الإنساني والتجاري، ساحة تؤدي إلى شارع تجاري اسمه شارع القصرية الذي يؤدي إلى مسجد تالبرجت بصومعته التي تشبه المعمار الموحدي. وهو المسجد الذي كان إمامه سيدي الحسن بن أحمد طه وهو من ضحايا الزلزال في منزله ببناية أموكاي في ساحة الباشا. نعم… سيرتاد السائح محطة تيليفيريك في موقعها الحالي وسيعلم أن هذا المكان كان بجانبه ذات زمان عمارة "التيوتي" التي كان بجانبها محل الخياطة "سان فراتيلو"، قبل أن يتحول إلى مقهى بعد رحيل محل الخياطة إلى المدينةالجديدة. حين يكون زائر المدينة جالسا في قاطرة التيليفيريك ينتظر الانطلاقة للسفر عبر المكان وعبر الزمان، سيتذكر أن نفس المكان كان بجانبه ذات يوم زنقة المسجد التي كانت تتواجد فيها مقهى كوكدور (coq d'or) بلونها الأبيض الساطع وببابها المقوس المكتوب فوقه اسم المقهى باللون الأسود، وهي المقهى التي كان يجتمع فيها سكان المدينة ليتبادلو أطراف الحديث كما نفعل نحن جيل ما بعد الزلزال في مقاهي مدينتنا، لكن حديثهم بالتأكيد لا يشبه حديثنا. هم عاشوا فترة الاستعمار ومرحلة ما بعد الاستقلال، ونحن نعيش في مغرب الاستقلال وفي مدينة تنظر للمستقبل باهتمامات مغايرة. على يسار المقهى كانت تتواجد مكتبة "مدام ري" بواجهتيها لتستقبل أكبر عدد من المثقفين والزبناء. نعم…دمر الزلزال المقهى ليترك مكانه لمنصة التيليفيريك، لكن ذاكرتها ستحييها الرحلات في قاطرات التيليفيريك. بجانب المقهى في زنقة المسجد كان يوجد محل الخياطة لصاحبه شوقي أحمد الذي كان خياطا عصريا يسمي متجره (Chevalier Bayard) وهو الخياط الذي ارتاد الكثير من سكان أكادير ملابسه العصرية، ويليه محل لبيع الثوب ليهودي يسمي متجره أثواب فرنسا (Tissu de France) ثم نجد محل سانجير لآلات الخياطة. وعلى يسار زنقة المسجد كانت تتواجد بناية القائد بوشعيب، يليها منزل الحاج علي أو اليزيد ثم منزل الحاج عبد الله أشتوك المعروف عند الساكنة ب "ميسا". بجانب المحطة الرئيسية لتيليفيريك أكادير أوفلا، تخبرنا ذاكرة المدينة أن حي تالبرجت كانت فيه ساحة الباشا وساحة التجارة وبهما محلات تجارية تعرف رواجا كبيرا، وبين الساحتين كان ينتصب بشموخ فندق "كناريا" و"الفندق الكبير" وقصارية "أموكاي" التي تتاخم مقهى "دا سعيد أتنان" وكأن المدينة استبقت عصر المولات التي تجمع "الشوبين" والمقاهي في مكان واحد. تيليفيريك أكادير أوفلا ليس مشروعا كباقي المشاريع، فحين تمتطي القاطرة وتغادر المحطة الرئيسية بما يختزله موقعها من تاريخ وأحداث، سترتفع بك الأحبال الكهربائية عاليا في سماء الله، لتفتح لك إطلالة على منطقة كانت ذات يوم مفعمة بالحياة لأنها كانت تحتضن أحياء من قبيل تالبرجت وإحشاش وفونتي والمدينةالجديدة. كما أنها إطلالة يمكن أن تعود بك إلى زمان كانت فيه بحي تالبرجت ساحة تصطف من حولها الكثير من الأشجار وكأنها جنود مصطفة لحماية ساحة ينعقد فيها سوق " الحد "، ليدخل راكب القاطرة في سفر كأنه لوحة تشكيلية تجمع الماضي بالحاضر لتجعل مخيال السائح يجمع في لوحة واحدة سوق الحد الذي كان ذات يوم بالقرب من المحطة الرئيسية للتيليفيريك، وسوق الحد في موقعه الحالي. حين ترتفع بك القاطرة أكثر، ستشاهد مسجد لبنان، وسيذكرك سحر الرحلة أن المكان كان ذات يوم بناية تحتضن سوق المدينةالجديدة، وبجانبه كان يتواجد شارع "ديل كاسي" الذي كانت تتواجد به عمارة تستعملها شركة موكا لتحميص القهوة. وبجانب نفس المكان في شارع "لوسيان سان" كانت تتواجد عمارة "سود بودلينك" وهي أول عمارة في المدينة تتوفر على مصعد وصممت تصميما عصريا. تزيد القاطرة في الارتفاع وتقع عينك على بناية الإذاعة الوطنية، وستُخبرُك ذاكرة المدينة مرة أخرى أن المكان كان ذات يوم عبارة عن زاوية يلتقي فيها شارع "لوسيان سان" وشارع "ريمون بوان كاري"، وكانت فيها عمارة يتواجد في أسفلها جزار يسمي محله أليم ( ALIM ). ستقع عينك كذلك على ساحة الأمل ليُذَكِّرَك سحر المكان بأن الموقع كان يحتضن ذات يوم شارع اسمه "لوي بيرطو" وبه العديد من العمارات. تزيد القاطرة في الارتفاع وتقع عيناك على إدارة ترقيم السيارات، لتقول لك ذاكرة المدينة إن الموقع كان ذات يوم هو "سينما ريالطو"، فيتيه بك مخيالك إلى أن سينما ريالطو الحالية ما هي إلا بناية جديدة للحفاظ على ذاكرة سينما دمرها الزلزال والتي كانت في موقع آخر أصبح الآن لا يعرض الأفلام وإنما يقدم خدمات ترقيم السيارات في مشهد سريالي يجمع بين ذاكرة المدينة ووواقعها الحالي. ستقع عيناك كذلك على شاطئ البحر، وسيخبرك سحر المكان أن في هذا الشاطئ كانت تتواجد تحفة من تحف أكادير قبل الزلزال. يتعلق الأمر بمقهى ومطعم "لاريزيرف" (La Réserve) وهي على شكل صحن قائم على ثلاثة أعمدة. لو لم تعرف مدينة أكادير دمار الزلزال لكانت هذه المعلمة لا زالت قائمة في شاطئ المدينة، ولكنا نحن جيل ما بعد الزلزال نرتشف قهوتنا الصباحية أمام شاطئ المدينة كما كان يفعل جيل ما قبل الزلزال. من محطة التيليفيريك بمنطقة كانت ذات يوم تحمي بأجنحتها حيا كبيرا اسمه حي تالبرجت، إلى إطلالة تجعلك تسافر في التاريخ، ينتهي بك مسار التيليفيريك إلى أكادير أوفلا الذي يشكل حبة التوت فوق كعكة الحاضر وذاكرة الماضي. فمحطة التيليفيريك بأكادير أوفلا ستجعلك تعيش عالمين في مكان واحد دون الحاجة للنظارات الذكية. تعيش عالمين لأن القصبة لها واجهتان، واجهة مطلة على البحر وواجهة مطلة على الجبال والأودية. ستجد نفسك في مكان تم ترميمه وتأهيله ليكون الاستقبال في مستوى طبيعة الزيارة. ستجد نفسك في مكان محاط بأسوار تاريخية تشكل صلة وصل بين مكان تم تأهيله للحفاظ على ذاكرته، وتاريخ قصبة كان يلجها سكانها من باب وحيد يحميها من الغرباء، وبجانبه الأيمن كانت تتواجد مقهى "مازور" بنافذتها الكبيرة المطلة على البحر والميناء وأحياء المدينة، وبنجمة العلم الوطني المرسومة في جدرانها الداخلية تعبيرا عن اللقاءات التي جمعت ذات يوم ثلة من الوطنيين في المقهى حول كؤوس الشاي المغربي والحلويات المحلية والذين كانوا لا يرتادون مقاهي الأجانب، تعبيرا منهم عن رفضهم للاستعمار. بجانب المقهى كانت تتواجد حديقة تعتبر من المنتزهات الأولى التي شهدتها مدينة أكادير مع بداية العقد الثاني من القرن العشرين. عندما يتوقف التيليفيريك وتسمح القاطرة بالنزول، سيترجل الزائر نحو باب القصبة ليعيش عالمين في فضاء واحد. سيجد الزائر حين يقتحم الباب، فضاء شاسعا يستقبله بالأحضان ليسافر به عبر مقصورات التاريخ وتيليفيريك الزمان، ليعرف أن الفضاء الذي يتواجد فيه كان ذات يوم قصبة مأهولة بالسكان، وحيا مكتمل الأركان، بمنازله المصطفة حول أزقة ضيقة، ومسجده الذي تجاوره دكاكين التجارة، وحي الملاح الذي كانت تقطنه الطائفة اليهودية ومختلف الإدرارات التي يحتاجها سكان القصبة. تيليفيريك أكادير أوفلا لن يكون مشروعا عاديا، بل هو مرفق سياحي وسفر تاريخي من أجل إعادة إحياء ذاكرة مدينة الانبعاث لكي لا ننسى مدينة شَكَّلَت الساعة الثانية عشر إلا ربع من ليلة 29 فبراير من سنة 1960 لحظة فارقة في مدينة اسمها أكادير ولقبها الانبعاث. هكذا يمكن أن يُقَدِّم لنا تيليفيريك أكادير أوفلا مدينة أكادير بشكل مغاير لما هو حال مشاريع تيليفيريك في العالم، فيجعلنا نتمتع بمدينتين وبزمنين في وقت واحد، أكادير الذاكرة وأكادير الحالية. يبقى فقط اعتماد ثمن معقول للتذاكر حتى تجتمع في الرحلة متعة السياحة وسحر الذاكرة، ولاستقطاب أكبر عدد من الباحثين عن مغامرة السفر في التاريخ وفي الزمان. * ملحوظة: المعطيات الواردة في المقال حول ذاكرة أكادير قبل الزلزال مأخوذة من كتاب ذاكرة أكادير في القرن العشرين الجزء الثالث لمؤلفيه الأساتذة: الحسن الرسافي وإعزا جافر وعبد الله كيكر.