تداولت وسائل الإعلام في الأيام الأخيرة شريطا يظهر فيه السيد وزير الصحة في زيارة لمستشفى جديد بمدينة طنجة. ظاهريا يعكس الشريط مؤسسة عصرية بمواصفات متقدمة قياسا للكثير من المؤسسات الأخرى، ومجهزة بتجهيزات طبية حديثة ووسائل لا تتوفر إلا في بعض المصحات الخاصة كجرس المناداة على الممرض وهاتف الاتصال في حالة الضرورة. لكن السيد الوزير اكتشف أن الهاتف غير مُشغَّل علما أن المؤسسة حديثة العهد، والأخطر في الأمر، أن أي مسؤول لا يعلم بهذا العطب الذي قد يكون الشجرة التي تُخفي غابة أعطاب المستشفى. فكيف سيكون حال هذا الهاتف وباقي التجهيزات بعد أعوام من عمل المؤسسة الاستشفائية بهذا الشكل في التسيير؟؟؟ ما وقف عليه السيد الوزير هو أن لا المدير الجهوي ولا المدير الإقليمي على علم بالأعطاب التي يعاني منها المستشفى وهو لم يستقبل بعد المرضى والمرتفقين. كما أنهم يجهلون النظام الداخلي الذي يجب أن يعتمده هذا المرفق الصحي. لا أريد أن أتحدث عن الأسئلة التي وجهها السيد الوزير لبعض الممرضات والممرضين وللتقنيين الذين لم يستطيعوا إعطاء جواب شافي، لأن مكمن الداء يكمن أولا وقبل الآخرين في المسؤول الجهوي والمسؤول الإقليمي ومدير المستشفى. فالمدير الجهوي الذي يكتفي بالعمل في مكتبه، ويهتم بهندامه ومظهره الخارجي أكثر من اهتمامه بمسؤولياته، لا يمكنه أن يتمثل الأهداف التي سطرها النموذج التنموي الجديد. والمندوب الإقليمي الذي لا يقضي أغلب وقته في زيارة المؤسسات الاستشفائية التابعة له، والوقوف على كيفية سير الاشتغال داخلها والتجاوب المباشر مع المرتفقين والمرضى لمعرفة مدى نجاعة الخدمات المقدمة من قبل المستشفى، وقياس جودة هذه الخدمات..لا يمكنه هو أيضا أن يساهم في إنجاح خلاصات النموذج التنموي الذي ينتظره المغاربة لرؤية واقع جديد في مجال الصحة العمومية. نفس الشيء بالنسبة لمدير المستشفى، فلكي ينسجم مع ضوابط العقل التنموي الذي تنشده بلادنا، يكون من واجبه زيارة شاملة في صباح كل يوم لجميع مرافق المؤسسة الاستشفائية التي يُشرف عليها، للوقوف شخصيا على جميع الاختلالات والقيام بدور استباقي لمعالجتها. يجب عليه كذلك الحديث مع عينة من المرضى لمعرفة مشاكل المستشفى من فَمِ من تمت إنشاء المؤسسة من أجله لتلبية حاجاته الصحية. حين يقوم المسؤول بهذا الدور وفق ما يقتضيه العقل التنموي، سيجد السيد الوزير أمامه، خلال زيارته، مسؤولا يعرف كل شيء عن المؤسسة التي يُشرف عليها، وسيكون بإمكانه إعطاء الجواب حتى قبل استكمال الوزير لسؤاله، بدل بَلع لسانه عند كل تساؤل. وبِلُغة أخرى سيكون السيد الوزير أمام مسؤول "قاد بشغالاتو وقايم بواجبو"، وسيحظى آنذاك المسؤول باحترام السيد الوزير وهو ما سيُمكنه من التجاوب مع أسئلته بِنِدِّيَة الرجل الكفء، وسيكون آنذاك بإمكانه طرح المشاكل المرتبطة بالوزارة ومحاسبة الوزير عليها. فالعقل التنموي قائم على أساس دعامة رئيسية عنوانها "كل واحد إدير شغالاتو" سواء الموظف أو المسؤول أو الوزير. إن البلد الذي يبحث عن انتقاله نحو التنمية يجب أن يبدأ من البداية الحقيقية المتجلية في مُحاسبة المسؤول في الوزارة وفي الجهة وفي الإقليم قبل أي شخص آخر. وحين يشتغل هذا المحرك ستتبعه باقي حلقات السلسة، من رئيس المصلحة حتى حارس البناية. في 2017، وقفتُ بأم عيني على مؤسسة استشفائية بمدينة مراكش. وكانت مفاجأتي كبيرة حين وجدتُ الحارس هو الذي يُسيِّر المؤسسة ويفهم في الملفات الطبية أكثر من الطبيب، وهو من يُقرر من يدخل ومن لا يدخل، وهو أمر ما كان ليقع لولا الغياب التام لمدير المستشفى واستقالته العملية من مسؤولياته. وعدم معرفة المدير الإقليمي ولا المدير الجهوي بهذا الحدث الخطير، يجعلنا نقف بجلاء على مكمن أعطاب منظومتنا الصحية. وحين دخلتُ للبناية كانت مفاجأتي أكبر حين رأيتُ البناية من الداخل بمكيفات وقاعة استقبال لا تتوفر عليها كثير من المؤسسات الاستشفائية في بلدان أوروبية. وحظيت بمعاملة حضارية من قبل الممرضين و"البرفيسور" التي عالجتني. فقلت مع نفسي حرام ثم حرام أن تكون الدولة وفَّرت لمواطنيها مؤسسة استشفائية بهذه المواصفات الحداثية والعصرية، وبتجهيزات كلفت الميزانية الملايير، ويتركها المسؤولون لحارس يتجاوز اختصاصاته ليصير هو المدير. قلتُ ذلك مع نفسي والألم يعتصر قلبي، لأني اضطررت للمكوث أكثر من ثلاث ساعات، مع مرضى وشيوخ ونساء حوامل وأمهات يصطحبن أطفالا، تحت شمس حارقة في يوم بَلَغَتْ فيه درجة الحرارة 42 درجة، وبداخل البناية قاعة انتظار كبيرة مكيفة وبكراسي حداثية. فأين الخلل؟ …ما قام به السيد وزير الصحة خلال زيارته للمستشفى الجديد في طنجة، يجب أن يكون مهمة يومية للمدير الجهوي والإقليمي للوقوف على الخلل وتجويد الخدمات، ومدير المؤسسة يجب أن يمضي أغلب وقته في مرافق المؤسسة التي يُشرف عليها وليس بين جدران مكتبه المكيف إن كان متواجدا فيه أصلا. ومن هنا تبدأ التنمية وهذه هي نقطة انطلاق الإقلاع التنموي الذي نحلم به كمغاربة من أجل منظومة صحية تُعالج المريض وليس منظومة تُضاعف آلامه. فالتنمية تشتغل بمنطق بناء الإنسان قبل بناء الجدران.