وسط حي العكاري الشعبي في الرباط، ذي الكثافة السكانية العالية، يوجد مستشفى مولاي يوسف، المعروف ب«سطبيار الصدر».. زحمة خانقة في الطريق التي «التهم» الطرامواوي معظمَها، ليفرض على العربات الانتظام في طوابيرَ تتحرك ببطء، وتتوقف أحيانا نتيجة حوادث السير المتعددة بين الدراجات النارية والسيارات، التي تتزاحم في نطاق ضيق. في بوابة المستشفى أربعة عناصر من الحراسة الخاصة تتكفل فقط بفتح البوابة للسيارات وإغلاقها، أما الزوار والمرضى فهم في حركة دائمة، لا تعكس الهدوء الذي يسود داخل مستشفى تحوّلَ إلى قنبلة موقوتة تهدّد حياة مئات المواطنين. هو جناح بدون اسم، يبدو للوهلة الأولى وكأنّ قاطينه أشباح ترفض الظهور، نوافذ زجاجية من الحجم الكبير، وبوابة مشرعة يتعيّن عليك الانتظار على بعد أمتار منها، قبل أن تلاحظ الأجساد النحلية للنزلاء، المعروفين ب»الكرونيكْ»، وهي تتحرك بين الفينة والأخرى ليس خارج الجناح فقط، بل إلى حيّ العكاري، بأسواقه ومقاهيه. قد تتحول كحّة واحدة أو عطسة من هؤلاء إلى كارثة بالنسبة إلى عدد ممّن يتحركون إما داخل المستشفى أو في محيطه، كما يقول ممرض، أكد ل«المساء» أنّ ضحايا هذا الوضع ليسوا فقط مواطنين عاديين، بل مستخدمين في المستشفى، من ممرضين أو أطباء.. ولأنّ من سمع ليس كمن رأى، فقد تتبعنا مسار أحد نزلاء الحجر الصحي، بجسده النحيل وملامح وجهه، التي تحولت إلى ما يشبه جمجمة مغطاة بقليل من الجلد واللحم، خطوات بطيئة نحو حديقة المستشفى، ثم صوب البوابة الحديدية، ليغادر نحو السوق الشعبي للعكاري، ثم بعد ذلك إلى مقهى جلس فيه منهكا، وهو يلهث بشكل واضح، كمن قطع كيلومترات.. ربما لأنّ داء السل، الذي استوطن جسده جعله عاجزا عن التقاط أنفاسه من اجل إكمال الرحلة كما خطط لها قبل مغادرة الجناح، الذي يجعل أي زائر على علم بخطر انتقال العدوى، يعيش وسواسا قهريا حقيقيا بعد مغادرته المستشفى خوفا من أن كون الداء قد انتقل اليه. يشكل مثل هذا النزيل وغيره خطرا يهدد بنشر السل في أيّ تحرك خارج نطاق الحجر، علما أن هذا الداء ينتقل إما بالسعال أو العطس والبصق، الذي يسمح بإطلاق رذاذ يحمل الكريات المسببة للسل الرئوي، لكنْ يبدو أن هذا الوضع لم يدفع المسؤولين في الوزارة إلى التفكير في حماية ساكنة الأحياء المجاورة من خطر انتشار الداء باعتباره مرضا مُعديّاً. يقول احد ساكنة حي العكاري: «واشْ بغاو كولشي يْولي مْسلول؟.. علاشْ ما يحيّدوش هاد البيسطار ويْدّيوه لبلاصة مْعزولة؟».. قبل أن يشير إلى أنه أصبح يتجنب الاقتراب من أي شخص «مشبوه» مند أن نصحه أحد جيرانه بذلك. بالقرب من هذا الجناح المرعب يوجد جناح آخر، لكنّ نزلاءه ممنوعون من مغادرته، لأن الأمر يتعلق بسجن صغير مخصص للمساجين الذين يصابون بأمراض صدرية، ومنها السل، حيث يتواجد بالقرب من هدا الجناح رجُل أمن مكلف بالمراقبة. تأشيرة طبية للجرثومة أكد ممرض في المستشفى أن الوضع أصبح لا يطاق، وحذر من كارثة حقيقية بعد الإعلان عن الشروع في توسيع الطاقة الاستيعابية للحجر الصحي، بإضافة غرف أخرى، ستخصص للنساء، وقال: «ما كدّو فيلْ زادُوهْ فيلة»، مضيفا أن أصحاب هذا المشروع صمّوا آذانهم عن كل التحذيرات التي وصل بعضها إلى حد المطالبة بنقل المستشفى إلى مكان آخر، وتابع قائلا: «لا يُعقل أن نترك مئات المواطنين عرضة لجرثومة السل، ولا معنى لمثل هذا المستشفى في حيّ شعبيٍّ آهل بالسكان». لا يكشف انتشار السل في المغرب والأرقام الرسمية المعلنة حسب أحد العاملين في مولاي يوسف حقيقة هذا المرض، حيث أكد أن معظم النزلاء يُجبَرون على مغادرة المستشفى قبل إتمام العلاج على أساس متابعته في المستوصفات، وهو ما يسهم في انتشار المرض بحكم أن معظم المصابين يمتنعون عن ذلك لمجرد إحساسهم أنّ حالتهم الصحية قد تحسنت، ناهيك عن كون الأدوية التي تُمنح لهم تُشعرهم ببضع الألم، ما يجعلهم يقلعون عنها فور تحرير ورقة مغادرتهم مستشفى مولاي يوسف، وقال إن نتيجة ذلك هي مزيد من حالات «الكرونيك»، التي لا ينجو أصحابها من هذا الداء في بعض الأحيان، لتكون النهاية قبرا مفتوحا ينتظر المريض وعدوى خطيرة انتقلت إلى عدد من المحيطين به، حيث أكد ممرض في المستشفى أنه سنة 2011 سُجِّلت 30 حالة وفاة، و32 حالة سنة 2012 وسجلت 5 حالات إلى الآن في السنة الجارية. أكد أحد البنائين، صادفناه داخل المستشفى، قرب جناح الرعب، أنه يجهل طبيعة الجناح، وبعد أن شرحنا له الوضع، صمت قليلا وقال: «ما فْخباريشْ، ولكنْ خصّني نكمل الخْدمة.. وغادي نبعّد من تمّا».. هدية مسمومة الغريب أن معظم العاملين في المستشفى، الذي يستقبل حالات السل من تمارةوالرباط وسلا والخميسات وأحيانا من الدارالبيضاء، يجمعون على أن ظروف الاشتغال منعدمة، وأنه لا بد من مستشفى تتوفر فيه المعايير الدولية، ومنها ضرورة التوفر على وسائل الحماية والتهوية والبعد عن التجمعات السكانية وعزل المصابين بالسل ضمن خانة الكرونيك» بشكل صارم. وأكد هؤلاء أنّ الاهتمام الرسميَّ الكبير بداء السيدا ينبغي أن يطبق أيضا على داء السل، الذي أصبح يحصد يوميا عشرات الضحايا، وهو ما يقتضي من الدولة والمجتمع المدني إعلان التعبئة لمواجهة هدا الداء «الصامت»، الذي لا «يتكلم» إلا بعد أن يستوطن الرئة.. قال «م. ا.»، وهو ممرض اشتغل في المستشفى لأزيد من 30 سنة، إن جرثومة السل أصبحت تتمتع بتأشيرة تسمح لها بالتجول وسط عدد من المواطنين الأبرياء الذين قد يقعون ضحية هذا الداء في مرحلته المتقدمة، بحكم أن المرضى الذين يخضعون للحجر هم من المصابين الدين انقطعوا عن تناول الأدوية في مراحل استشفاء متقطعة زمنيا، ما جعل جرثومة السل تطور مناعتها تجاه الأدوية، رغم منحهم جرعات مركزة ومضاعَفة، وبالتالي فإن أيّ شخص قد يقوده حظه العاثر إلى الاحتكاك بأي مصاب ضمن هده الخانة سيصاب بالجرثومة نفسها، ما يستدعي وضعه -بدوره- تحت طائلة العزل الصحي، الذي يستدعي الخضوع لعلاج مكثف وفحوصات دورية وتحليل عينات من خلال منح المرضى كيسا للنفخ فيه.. لم يتوقف هذا الممرض عند هذا الحد، بل كشف كيف فوجئ، في أحد الأيام وهو يغادر المستشفى على متن سيارة أجرة كبيرة، بأحد المصابين الموضوعين في العزل وهو يجلس بجانبه.. وقال إن استمرار هذا الوضع هو كارثة واستهتار بالمواطن وبحقّه في الصحة. وأشار المصدر نفسُه إلى أن زيارة المستشفى من طرف أي مواطن أصبحت تقتضي اتخاذ عدد من الاحتياطات، ومنها عدم لمس أي شيء، بحكم وجود أقنعة ومناديل بعضها مرميّ على الأرض، إضافة إلى ضرورة تطهير الأحذية بشكل مباشر بعد مغادرة المستشفى.. غير أنه أكد أن هذه الإجراءات الاحترازية تظل دون جدوى، بحكم أن الحالات التي يُفترَض أنْ تخضع للعزل الصحي تتجول بكل حرية داخل المستشفى، وهو الوضع الذي سيتفاقم بعد أن تقرَّر تخصيص جناح إضافيّ للعزل يفتقر إلى أبسط شروط السلامة في ظل الانتشار الكبير لداء السل في المغرب. كما أكد عدد من العاملين في المستشفى أن هذا الوضع يشكل خطرا حقيقيا على صحة المواطنين، في ظل عدم وجود حراسة على الجناح أو مجرد علامة تحذيرية تمنع المواطنين من الاقتراب منه، بعد أن أصبح هذا المكان مخيفا بالنسبة إلى عدد من المستخدمين، الذين يجدون أنفسهم دون حماية، باستثناء أقنعة عادية تجاوزت مدة صلاحيتها، وهي التخوفات التي زادت حدّتها بعد أن تمكنت جرثومة السل من أحد العاملين في المستشفى. من المسؤول؟ كشف أحد الممرضين القدامي في المستشفى الإجراءات الصارمة التي كانت تُتَّخذ في الماضي لتجنب انتشار السلّ وسط العاملين وزوار المستشفى، وقال إن الأطباء الفرنسيين الذين كانوا يشتغلون في مستشفى مولاي يوسف، الذي أحدِث سنة 1918، كانوا يفرضون على المرضى المُصنَّفين ضمن خانة «الكرونيك» ضرورة تسليم جميع أغراضهم لوضعها في مستودع خاص، مع ضرورة إلزامهم بارتداء زيّ مُوحَّد بلون أزرقَ لتمييزهم عن باقي المرضى، وعدم السماح لهم بمغادرة الجناح المخصص للحجر الصحي إلا لأمتار قليلة من أجل التعرّض لأشعة الشمس أو استنشاق الهواء ضمن رقعة محدودة للغاية.. وأضاف الممرضُ نفسه أن هذه الإجراءات الاحترازية اختفت مع رحيل آخر الأطباء الفرنسيين في منتصف الثمانينيات، وأصبح المرضى «يتسكعون» بكل حرية داخل وخارج المستشفى، بل منهم من يتمادَون أكثر من ذلك ويجلسون في المقاهي ويتنقلون على متن وسائل النقل العمومي، بما فيها الترامواي، الذي توجد محطته النهائية عند بوابة مستشفى مولاي يوسف.. ولم تبدُ على أحد أصحاب المحلات التجارية المحاذية لمستشفى مولاي يوسف علامات الاندهاش عندما سألناه عمّا إذا كان يدرك خطورة احتكاكه بالمرضى المتسللين خارج المستشفى، وقال: «عارفينهومْ كيخرجو ولكنْ شنو غادي نْديرو»، قبل أن يضيف: «كيف سأعرف أنه مريض؟.. أنا أتعامل مع عشرات الأشخاص يوميا وليست لدي القدرة على تمييز المرضى منهم». حاولت «المساء» استطلاع رأي الإدارة لمعرفة الأسباب التي تحُول دون إجبار المرضى المصابين بالسل في مرحلته المتقدمة على عدم مغادرة المستشفى، إلا أن المدير لم يكن متواجدا في مكتبه، حيث اكتفى احد الإداريين بالتأكيد أن «هذا الوضع مستمر منذ أشهر طويلة»، وأنهم يجدون صعوبة في إقناع هذه العيّنة من المرضى بلزوم الجناح المخصص لهم إلى حين انتهاء مرحلة العلاج، التي تستغرق وقتا طويلا، بحكم أن جرثومة السلّ استوطنت رئاتهم و»عشّشت» فيها، ولم تعد الأدوية قادرة عل قهرها، وقال إن المرضى يمتنعون أيضا عن ارتداء زيّ الاستشفاء، رغم أن ممرضا أكد أنه منعدم وأن الحديث عن وجود زي موحد في الوقت الحالي هو «نكتة».. وقال المسؤول ذاته إن المرضى يواجهون العاملين في المستشفى بقولهم «نحن لسنا مساجين، بل مواطنين مرضى.. ومن حقتها الاستمتاع بحريتنا»، وأحيانا، تكون الردود عنيفة، ما يجعل مُستخدَمي المستشفى يتفادَون الدخول في نقاشات لا طائلَ منها مع المرضى. فقيرات في مواجهة مع السلّ إذا كان عدد من العاملين قد فضّلوا عدم المغامرة بالتعرض للجرثومة من خلال ولوج الجناح، في ظل غياب وسائل العمل، حيث يتم تقديم الغداء والأدوية ل11 حالة وُضعت في العزل خارج بوابة الجناح بعد المناداة على المرضى، فإن بعض عاملات النظافة التابعات لشركة خاصة ليس لديهنّ خيار آخر سوى تنظيف المعزل، من خلال وضع كمامة ليست لها القدرة على الحماية من هذا الداء لتنظيف الغرف، حيث أكدت إحداهن ل»المساء» أنهن مُلزَمات بالولوج إلى الجناح، وأن «السّتار الله».. وأضافت: «شْنو غادي نديرو؟ حْنا كنغامرو على وْدّ طرف ديال الخبزْ لوليداتنا»، قبل أن تتدخل زميلة لها، أخرجت من جيبها قناعا «مهترئا»، وقالت «كنْديرو هادا، وما خصّناشْ غي نقرّبو للمرضى»، دون أن تدرك أن مشغلها نسيّ تحذيرها من أنّ الجرثومة قد تظل عالقة بعدد من الأغراض التي يستعملها المرضى، ما يكشف الاستغلال البشعَ لهؤلاء النسوة الفقيرات والرّمي بهن -مقابل أجور لا تتجاوز 2000 درهم- في مواجهة يومية مع جرثومة قد تقتل، علما أن بضعهنّ لا يترددن في تسلم بعض الفواكه والأغذية التي يجود بها المرضى.. في السياق نفسه، أكد عدي بوعرفة، الكاتب العام للمنظمة الديمقراطية للصحة، أنّ «على الوزارة أن تتدخل بشكل مستعجل لإغلاق هذا المركز»، الذي أصبح يشكل خطرا كبيرا على العاملين والسكان، والعمل على استرجاع مركز بن صميم، الذي كان يستوفي شروط وظروف العلاج من السل، ويقع بعيدا عن التجمعات، وقال «إن تواجد مستشفى للسل وسط حي آهل بالسكان يفسر الأرقام المرتفعة للإصابة بهذا الداء في الرباط»، مشيرا إلى أن عدد كبيرا من سكان العكاري وقصر البحر يعلمون بهذا الواقع، لكنهم لا يملكون سوى التعايش معه، في ظل صمت السلطات الوصية، التي كان عليها إحداث مستشفى يستوفي المعايير وفي مكان معزول، وفق ما هو معمول به في عدد من الدول الأوربية، التي تفرض على الزوار والعاملين اتخاذ جميع الاحتياطات لتجنّب انتشار الأمراض المُعدية، فما بالك بالسل.. وأكد بوعرفة أن هذه «القنبلة» الصحية الموجودة في العاصمة الرباط، والتي تعد قلعة لجرثومة السل، مازالت في مكانها، رغم التهديد المباشر الذي تحمله، في الوقت الذي تؤكد المعطيات الرسمية أن داء السل مازال منتشرا بشكل كبير في صفوف المغاربة، إذ تبلغ نسبة الإصابة 80 شخصا في كل 100 ألف نسمة. وكان وزير الصحة، محمد الوردي، قد أشار إلى أن «وضع السل في المغرب يفرض الالتزام بالبرنامج الوطني المسطر لمكافحة هذا الداء»، بعد أن تأكد من خلال الأرقام أن انخفاض معدل الإصابة يبقى متواضعا للغاية، ولا يتجاوز %3 سنويا، وهي التصريحات التي رافقتها أرقام صادمة تم نشرها بمناسبة اليوم العالميّ للسلّ، وكشفت تسجيل حوالي 27 ألف حالة جديدة من داء السل تم تحديدها سنة 2011، أي 82 حالة جديدة لكل 100 ألف نسمة، و35 حالة جديدة من السل الرئويّ من بين 100 ألف نسمة.