يعتبر داء السل أحد أقدم الأمراض الموجودة في العالم, فقد استطاع أن يتأقلم مع كل الظروف, مع الزمن, و مع المكان و كذلك مع كل التطورات البيئية و الإجتماعية و الإقتصادية التي عرفتها المجتمعات و ظل يقاوم مختلف الوسائل التي استعملت للحد من انتشاره أو القضاء عليه (الأعشاب - عزل المرضى- جراحة - أدوية وغيرها..). وهكذا نلاحظ أن هذا الداء مازال يحصد وإلى يومنا هذا مئات الآلاف من الأرواح ( ما يناهز 2 مليون حالة وفاة و 9 ملايين حالة داء السل تشخص كل سنة في العالم.) والمفارقة التي يمتاز بها هذا الداء هو أنه يمكن من الناحية العلمية ومن الناحية النظرية معالجته والشفاء منه تماما وكذلك الوقاية منه, لكن وبالرغم من ذلك فهو ما فتئ ينتشر وبكثرة في كل بقاع العالم, خاصة في الدول الفقيرة والتي هي سائرة في طريق النمو, زيادة على أنه أصبح يلوح بين فترة و أخرى بورقة إنذار للدول الغنية و حتى الأكثر تقدما كالولايات المتحدة و فرنسا مثلا , هذا ما وقع خلال الثمانينات,خاصة مع ظهور أول حالات داء فقدان المناعة المكتسب (السيدا) حيث أحدث جوا من الهلع والإرتباك .وظهرت حالات خطيرة للسل خاصة في أمريكا وفي عديد من دول أوروبا . وللتذكير فداء السل لم يكن يعرف سببه فيما قبل, فكان مرة يعتبر وعن خطأ كقدر محتوم ومرة أخرى كمرض وراثي ( يصيب العديد من أفراد الأسرة) إلى أن تم اكتشاف الجرثومة المسببة له سنة 1882 من طرف روبير كوخ , ثم ظهر أول لقاح ضده سنة 1908 و أصبح التلقيح (ب.س.ج) ممكنا و متداولا على صعيد واسع مند سنة 1921 , و قد تم تقديم هذا اللقاح في أول الأمر كالسلاح المنتظر الذي سوف يقضي على المرض من جذوره, لكن و مع مرور الزمن أبان هذا الأخير عن محدوديته رغم انه مازال يلعب دورا وقائيا نسبيا خاصة لدى الأطفال الصغار . وكان علاج داء السل قد عرف ( عصره الذهبي) وأهم سنوات إزدهاره بعد الحرب العالمية الثانية, حيث ظهرت أول الأدوية المضادة للجرثومة المسببة للداء, و التي أبانت عن فعاليتها و نجاعتها و كان التفاؤل مرة أخرى كبيرا للغاية و قيل بأن داء السل سيصبح من ذكريات الماضي المؤلمة . و هكذا وصل الغرور بالدول الغنية أن ظنت أنها حققت غايتها و لم يصبح هذا الداء يزعجها واعتبرت نفسها غير معنية بما يمكن أن يقع خارج حدودها فقلصت من ميزانياتها المخصصة لدعم الأبحاث العلمية في ميدان محاربة داء السل و تركت الدول الفقيرة و النامية تواجه بنفسها هذه المعضلة , وهكذا ظلت وسائل التشخيص و العلاج و الوقاية هي هي جامدة منذ نصف قرن ( نفس وسائل التشخيص بالمجهر و نفس الادوية و نفس اللقاح و ذلك منذ عشرات السنين...) و لم يطرأ عليها أي تغيير مهم و ملموس. وبما أن داء السل له ارتباط عضوي بالوضعية الاجتماعية و الإقتصادية للدول, و مع تفاقم الفقر و الحروب والتدهور الصحي الذي عرفته جل دول العالم, خاصة مع بروز داء السيدا وانتشاره الواسع, وجدت جرثومة داء السل كل الظروف المواتية للتكاثر و الانتشار, الشيء الذي خلق وضعية صحية مقلقة تهدد كل الدول كانت فقيرة أم غنية, بل الأخطر من كل هذا هو أن الجرثومة المعنية و في كثير من الحالات اكتست حلة جديدة وصارت تقاوم جل الأدوية التقليدية المتداولة حاليا. وهكذا ظهرت و في العديد من جهات العالم حالات مقلقة لداء السل الجديد المقاوم للأدوية والذي يصعب علاجه و التكفل به و بدأ ينتشر ويتزايد سنة عن سنة, بل أصبحنا نجد حاليا جيوبا و بؤرا يتمركز فيها هذا الداء خاصة في بعض دول أوروبا الشرقية و الصين والهند ومن المحتمل جدا أن هذا النوع الجديد من الداء يوجد وينتشر بصمت بإفريقيا وفي مناطق أخرى من العالم, الشيء الذي ينذر بتفاقم الوضعية الصحية للعديد من الدول . ومن بين أهم الأسباب التي تساعد على انتشاره وعدم التغلب عليه, نذكر مثلا: - عدم وجود إستراتيجية وبرامج وطنية مدعمة من طرف الحكومات لمحاربة داء السل - تراخي وتراجع المتدخلين المعنيين بتنفيذ البرامج الوطنية إن وجدت والإخلال بإلتزاماتهم. - عدم احترام ضوابط العلاج ( نوعية الأدوية, طريقة تناولها وانتظامها, مدة العلاج....) - صعوبة الولوج للعلاج و تعقيده(بعد المراكز الصحية, ندرة الأسرة المخصصة للعلاج, قلة الموارد البشرية.......) - عوامل اجتماعية واقتصادية غير ملائمة تساعد على انتشار الداء ( السكن غير اللائق , الفقر , الأمية ......) ونظرا لما أصبح يشكله داء السل من خطورة على المجتمعات و في جميع بقاع العالم جعل المنظمة العالمية للصحة تدق ناقوس الخطر وتتبنى إستراتيجية جديدة لمواجهته خصصت لها اعتمادات مالية مهمة جدا وذلك على المدى المتوسط و البعيد, بدأت تعطي ثمارها لدى العديد من الدول . ماهي وضعية داء السل ببلادنا تعتبر وزارة الصحة محاربة داء السل من بين أولويات تدخلها الاستراتيجية و قد وضعت من أجل ذلك برنامجا وطنيا محكما و ذلك منذ الثمانينات , حقق العديد من ألأهداف المسطرة نال على إثرها شهادة تقدير من طرف المنظمة العالمية للصحة ( الوقاية, التشخيص, العلاج, توفير الأدوية بالمجان , المتابعة, التكوين المستمر ...) هذه بعض الانجازات نسبة معدل الكشف عن الداء تجاوزت 95 في المائة, نسبة نجاح العلاج تجاوزت 85 في المائة , انخفاض نسبي لمستوى الإصابة بالداء الرئوي المعدي ( حاليا 37 حالة لكل 100000 نسمة) , البداية بالتكفل بداء السل المقاوم لبعض الأدوية الرئيسية......... ولكن بالرغم من المجهودات الهائلة التي تبدلها وزارة الصحة في إطار هذا البرنامج الوطني لمحاربة داء السل, فإن الحالة الوبائية مازالت تشكل معضلة للصحة العمومية وذلك ( في نظري ) لعدة اعتبارات نذكر منها : - أن إستراتيجية وزارة الصحة تعتمد على محاربة الداء من جانبه الصحي فقط, بينما نعرف حاليا أن من أهم العوامل التي تعيق التحكم في الداء تتمثل في الوضعية الإجتماعية الهشة للدول ويشكل الفقر وسوء التغذية والسكن ذغير اللائق أهم سماتها, بالإضافة إلى انتشار الأمية والبطالة والتدخين وتناول المخدرات والإرهاق... الشيء الذي يفرض على المسؤولين ببلادنا تبني إستراتيجية مندمجة تتحمل فيها كل قطاعات الدولة مسؤوليتها وتمثل وزارة الصحة محورها الأساسي - توفير العدد الكافي من الموارد البشرية من أطباء أخصائيين و ممرضين و تقنيين وتحسين ظروف العمل . - العدول عن سياسة التخلص من الأسرة المخصصة للمرضى بداء السل لاعتبارات اقتصادية أكثر منها علمية و إنسانية و العمل على توفير العدد الكافي من المصالح المختصة بالتكفل بالمرضى خاصة المصابين بالسل المقاوم للأدوية الرئيسية . - ونظرا لكل هذه الاعتبارات التي ذكرنا سالفا, فالمطلوب حاليا هو تعزيز البرنامج الوطني لمحاربة داء السل وذلك بأخذ بالاعتبار تنامي هذا النوع الجديد من الداء المقاوم للأدوية و إدماج قطاعات حكومية أخرى و التي لها صلة بالمعضلة في هذا البرنامج . توضيح حول ما نشر في بعض الصحف وارتباطا بهذا الموضوع و لوضع النقط على الحروف , أود أن أبدي بعض الملاحظات حول ما قيل و نشر على أعمدة بعض الصحف الوطنية فيما يخص داء السل ومسؤولية المرضى و التشهير بهم والتشكيك في جدوى وجود مستشفى مولاي يوسف من عدمه و.....ألخ : . يعتبر مستشفى مولاي يوسف منذ إنشائه (سنة 1918) قطبا مهما و مرجعية أساسية في مجال محاربة داء السل, سواء على الصعيد الوطني أو الدولي و له دور ريادي في وضع و تنفيذ كل البرامج الوطنية التي لها صلة بهذا الداء كما أنه مخاطب ذو مصداقية لدى المنظمات الدولية المختصة كالمنظمة العالمية للصحة أو غيرها . ومن بين المهام الأساسية التي يؤديها منذ عدة عقود نذكر : التكفل بمرضى الجهاز التنفسي عامة ومن بينها داء السل القيام بكل عمليات التشخيص , العلاج, الوقاية والتربية الصحية تكوين و تأطير الأطباء الأخصائيين وكذلك طلبة كلية الطب تكوين و تأطير الممرضين و التقنيين و كذلك العاملين في مجال التقويم و التدليك , القيام بأعمال البحث العلمي خاصة الميدانية, منها تقديم خبرة مختصة في مجال محاربة داء السل. إن العديد من ألأفكار والخلاصات التي كتبت على أعمدة الصحيفة لا ترتكز على أي مبرر واقعي أو علمي, ولا أظن أن هناك ممرضا واحدا يعمل في ميدان محاربة داء السل يمكن أن يدلي بمثل تلك الشهادات, ونذكر منها المغالطات التالية: متى كان هذا الداء ينتقل عن طريق الأحذية واللمس و الأكل والفواكه و الخضر.....؟ متى كانت كحة أو عطسة واحدة تؤدي إلى كارثة صحية (لو كان ذلك لانقرضت ساكنة الأرض منذ قرون)؟ متى كان يجب على المرضى أن يلزموا أسرة المستشفى طول مدة العلاج (عدة أشهر)؟ متى كان تشخيص المرض يتم عن طريق النفخ في كيس. أين هم الضحايا من الأطباء والعاملين بمستشفى مولاي يوسف؟ أين الأبحاث العلمية التي تظهر ازدياد حالات الداء لدى سكان العكاري مقارنة مع سكان أحياء أخرى بعيدة عن مستشفى مولاي يوسف (مثلا في الدارالبيضاء أو فاس..)؟ كان من الأفضل أن يِؤخذ برأي ذوي الاختصاص حتى يكون الربورطاج موضوعيا و ذو نقد بناء, و هذه بعض الحقائق : - لا يوجد أي مؤشر أو بحث علمي موثوق به يبين تفاقم داء السل لدى ساكنة الأحياء المجاورة للمستشفى, فانتقال الجرثومة من شخص إلى آخر و لكي يؤدي ذلك إلى المرض يتطلب شروطا و عوامل شتى نذكر منها : - الاحتكاك بمريض مصاب بداء السل الرئوي الشديد العدوى ويكون الانتقال, خاصة عن طريق الهواء -يجب أن تكون مدة التعرض لهذا الاحتكاك (متكررة و طويلة في الزمن وفي مكان غير صحي (بدون تهوية..) إن العدوى تحدث عامة قبل تشخيص المرض وتقل بعد ذلك مع بداية العلاج (الأسابيع الثلاثة الأولى ) لذلك نحث على أهمية التشخيص المبكر و كذلك الالتزام ببعض التدابير الصحية العامة البديهية (النظافة, عدم السعال او البصق, قرب الآخرين....) . لا يوجد أي مبرر مقبول علميا يلزم مرضى داء السل أن يمكثوا داخل المستشفى طول مدة العلاج ( في كل دول العالم) فالمنظمة العالمية للصحة تشجع التكفل بالمرضى بالمراكز الصحية خارج المستشفيات. أما فيما يخص وجود مصلحة مختصة في علاج الحالات المستعصية, فإننا نعتبرها مكسبا مهما ذا قيمة إضافية للبرنامج الوطني لمحاربة داء السل ببلادنا , فهذا الجناح استطاع أن يقدم خدمات من مستوى عال للعديد من المرضى خاصة المعوزين منهم, وفي ظروف ملائمة نسبيا في انتظار تعزيزه بالموارد البشرية اللازمة . كما أنه يتوفر على أدوية خاصة بهذا النوع من المرض. للإشارة , فقد توصلت إدارة المستشفى بعدة طلبات من أطباء أخصائيين يلتمسون العمل به. وهكذا يظهر جليا أن الدور الانساني و الطبي والعلمي الذي يقوم به كل العاملين بمستشفى مولاي يوسف وبدون استثناء, يستدعي منا جميعا أن نتعبأ من أجل المحافظة على هذا المرفق العام بل العمل على تعزيز كل المكتسبات والبحث العلمي التي حققها وتحسين جودة الخدمات التي يقدمها للمواطنين عامة والمعوزين منهم خاصة, بدل التشكيك في الجدوى من وجوده والتشهير بالمرضى المصابين بداء السل. طبيب بمستشفى مولاي يوسف بالرباط