ينعم الناس في فصل الصيف بدفء أشعّة الشمس ويتمتعون بحرارة مرتفعة. بيد أنّ فصل الشتاء لا يلبث إلاّ أن يطلّ عليهم حاملاً معه الصقيع والطقس البارد والمطر والثلج والعواصف . وما على المرء سوى أن يتكيّف مع تغيّرات الطقس ليتجنب الإصابة بإنتكاسات صحّيّة إثر التعرّض المستمرّ لحرارة متدنيّة. مرادف الشتاء الأوّل غالباً ما يكون تفاقم الأمراض البسيطة عند الناس، كالسعال والزكام والرشح، إضافة إلى ألم الحنجرة ووجع الرأس. لكن الأمر الأخطر أن البرد الشديد لا يناسب المرضى أصلاً، كما يساهم في انتشار الإلتهابات والعدوى أكثر فأكثر بين الناس. لسعات البرد القارسة لا ترحم الناس ولا توفر أحداً من عواقبها ولا تفرّق بين الأشخاص، بل تطال جميع الذين لا يتخذون الحيطة في فصل الشتاء، وبشكل خاص، خارج البيوت. إذ على الشخص أن يجهّز نفسه لمواجهة الرياح القويّة والعواصف الهادرة والمطر الغزير والثلج المتساقط والضباب الكثيف والبروق الساطعة والرعود المدوّية… كلّ واحد بيننا معرّض لأن يُصاب بنزلة برد عابرة، لكن الأهمّ هو تفادي الأمراض الخطرة التي قد تتفاقم إذا أهمل المرء الأعراض الأوليّة البسيطة ولم يتّقِ من البرد وتلافى الإهتمام بصحّته. يشرح الدكتور أسعد مظلوم، الإختصاصيّ في الطبّ الداخليّ، أخطار التعرّض للبرد القارس والمضاعفات التي قد تطرأ على الجسم من جرّاء إنخفاض الحرارة. طقس بارد… يقول الدكتور أسعد مظلوم إنّ "الحرارة الطبيعيّة التي يحيا عليها جسم الإنسان هي 37 درجة مئويّة. وكلّ حرارة متدنّية عن 20 درجة مئويّة تُعدّ باردة وتستلزم بالتالي أن يأخذ المرء تدابير خاصّة للحؤول دون إصابته بمرض ما ناتج عن الصقيع". في البلدان التي تتمتّع بعدد من الفصول، يبقى فصل الشتاء هو الأشدّ برودة، إذ تنخفض درجة الحرارة بنسبة ملحوظة، ويضطرّ الناس لإرتداء ملابس سميكة، وتدفئة المنازل والمكاتب والسيارات، وفرش السجّاد، وإستخدام الأغطية. ذلك أنّ جسم الإنسان عُرضة لإلتقاط أمراض أكثر وإلتهابات جمّة عندما يكون الطقس بارداً. أمراض ومضاعفات يشير مظلوم إلى أنّ "للبرد أضراراً كثيرة على جسم الإنسان. فهو يؤثر على كل الأعضاء ويولّد مضاعفات لأمراض موجودة أصلاً. فالمرضى الذين يعانون مرضاً معيّناً، معرّضون لأن تسوء حالهم الصحيّة إذا لم ينتبهوا إلى أنفسهم ويتخذوا الحذر كي لا يُصابوا بإنتكاسات". يضيف أنّ "الطقس المصقع يسبّب أن يزيد سماكة الدم في الشرايين، مما يجعل الإنسان عُرضة للجلطات الدماغيّة أو الجرحات القلبيّة. فأمراض القلب والشرايين تتفاقم مع تدني درجة الحرارة، وتزيد نسبة الإصابة بسكتات دماغيّة. وعلى صعيد آخر، يسبّب البرد أوجاعاً معويّة عديدة وعسر هضم، إذ توجد أنزيمات خاصّة في المعدة لا تعمل في حرارة متدنّية، وبالتالي لا يستطيع المرء أن يهضم الأكل جيّداً فيعاني تقلّصات ونوبات ألم. والأمر الأكثر شيوعاً هو إلتقاط الرشح والزكام في موسم الشتاء بسبب وجود ميكروبات وجراثيم تعيش في الطقس البارد. ويلتقط الناس العدوى من الطقس ومن بعضهم البعض. وقد تتطوّر بعض حالات الزكام العابرة إلى إلتهابات في القفص الصدري والرئتين. كما أنّ المسالك البوليّة قد تتأثر بالصقيع، فتتقلّص عضلات مجاري البول ما يولّد حصر بول مثلاً عند الأشخاص الذين يعانون تضخّماً في غدّة البروستات". وما إن يدخل "الميكروب" الجسم حتى يتمكّن منه وينتشر في كل أعضائه، مخلّفاً حالات من الأمراض والإلتهابات التي كان الإنسان بغنى عنها. فالحرارة المتدنّية تسيء إلى الجسم برمّته، الذي يفقد شيئاً فشيئاً دفاعاته بسبب البرد القارس، فلا يستطيع مجابهة الجراثيم التي قد تتسرّب إلى نظامه. حالات متقدّمة يؤكّد الدكتور مظلوم أنّ "الطقس البارد يسبّب بعض الأمراض التي يمكن معالجتها. بيد أنّ الطقس القارس وتدني درجات الحرارة بشكل ملحوظ قد يؤديان إلى حالات متقدّمة من الأمراض… وأحياناً إلى الموت"! فإذا ما تعرّض جسم الإنسان لحرارة متدنّية كثيراً، ولفترات طويلة، يمكن أن تنخفض درجة الحرارة في جسمه بنسبة مقلقة، فيعاني من Hypothermia، أي إنخفاض واضح في حرارة الجسم، التي إذا ما وصلت لأقلّ من 35 درجة مئويّة تسبّب خطراً على الصحّة. فشرايين القلب حسّاسة، وأيّ تدنٍ في الحرارة قد يؤدّي إلى قصور في عمل القلب. يمكن أن يعالَج المريض الذي يعاني تدنياً في حرارة الجسم بأوكسيجين دافئ ومصل دافئ بحرارة الجسم، إضافة إلى وضعه في بيئة دافئة وإلباسه ثياباً سميكة. أّمّا الحالة الثانية التي يمكن أن تصيب الإنسان إذا تعرّض للسعات البرد القارسة، فهي منتشرة أكثر في البلدان التي تشهد إنخفاضاً كبيراً في درجات الحرارة لما دون ال40 درجة مئويّة، مثل كندا مثلاً. عندها، تنغلق الشرايين نهائياً، وبخاصّة في المناطق المغذاة بنسبة دم عالية مقارنة بمساحتها الصغيرة. فإذا تعرّض شخص ما إلى لسعات البرد هذه التي تسمّى Frostbite، قد يفقد أنفه أو إصبعه مثلاً،الذي يتجمّد جرّاء الطقس القارس، ولا يلبث إلاّ أن يسقط. برد أم حرّ؟! يفسّر الدكتور مظلوم أنّ "بعض الأشخاص معرّضون أكثر من سواهم لأن يشعروا بالبرد ولأن يمرضوا بعدها. فالمرضى الذين يعانون شتى أنواع الإلتهابات والأمراض، عُرضة لأن تتدهور حالهم الصحيّة اكثر أثناء الموسم البارد، لأنّ الدفاعات في جسمهم تكون متدنّية. كما أنّ الذين يعانون قصوراً في عمل الغدد، وبخاصة الغدّة الدرقيّة، يشعرون بالبرد أكثر من غيرهم. والأطفال والمتقدّمون في السن هم أكثر فئة تتأثر بتغيّرات الطقس. فالأطفال يلتقطون عدوى الزكام والرشح التي يمكن أن تتأزّم. وأمّا المتقدّمون في السن، فقد يعانون أمراض القلب والشرايين والدماغ". والأمر الجدير بالذكر هو وجود بعض الأشخاص الذين لا يشعرون بالبرد كثيراً. وهؤلاء قد يكونون هكذا بسبب زيادة عمل الغدّة الدرقيّة لديهم، فلا يحسّون بالبرد كسواهم من الناس. وقاية سهلة من السهل جداً أن ينتبه المرء إلى تغيّرات الطقس ويتكيّف بالتالي معها، كي يتفادى الإصابة بالمرض من جرّائها. تبقى الوقاية بمتناول الجميع، عبر إرتداء طبقات من الثياب، كي يتمكّن الشخص من خلع المعطف أو الجاكيت مثلاً عندما يكون في الداخل حيث الدفء، ومن ثمّ إرتدائها قبل أن يتوجّه إلى الخارج حيث الطقس بارد. كما يستطيع أن يحضّر جسمه تدريجياً قبل الخروج إلى حيث الحرارة متدنّية. فقد يشرب الماء أو ينتقل إلى مكان أقلّ دفئاً قليلاً، قبل أن يتوجّه مباشرة إلى الخارج. وعلى كلّ إنسان أن يحرص على أن ينعم ببيئة دافئة داخل البيت عبر أجهزة التدفئة المتنوّعة والسجاد والأغطية والملابس الشتويّة وسواها… إنّ التغير المفاجئ في درجات الحرارة مضرّ كثيراً بالصحّة. فعلى كلّ شخص أن يتفادى الدخول والخروج كثيراً من منطقة دافئة إلى أخرى باردة، تجنباً لردّات الفعل السلبيّة على جسمه. والعلاج؟ يرى الدكتور مظلوم أنّ "من الضروريّ أن يعمد المرء إلى معالجة ما قد ينجم عن إصابته بالبرد. وعليه أن يتعامل مع كلّ حالة حسب الضرورة، فيلجأ إلى الطبيب الذي يصف له الدواء المناسب والإجراءات الواجب إتباعها كي يشفى". لكنّ معالجة نتيجة الطقس البارد من أمراض عديدة لا تفي وحدها بالغرض. بل على كلّ شخص أن يتجنّب أحد الأسباب الرئيسيّة لإصابته بالمرض"البرد! فعليه أن يراقب حالته الصحّيّة بإستمرار، ويحصل على قسط وافر من الراحة والدفء، إضافة إلى شرب السوائل إذا شعر بأعراض طفيفة جرّاء تدنّي درجة الحرارة.تبقى النصيحة الأخيرة هي الوعي التام لكل الإنتكاسات التي تسبّبها التغيّرات الخارجيّة على الجسم البشريّ لأنّه حسّاس للغاية وفي حاجة إلى عناية دائمة وإنتباه. أشخاص يتكلّمون * يقول هيثم غ. أنه عانى آثار عدم إنتباهه إلى صحّته في فصل الشتاء ودفع الثمن باهظاً. فقد كان يعتبر أنه لا يمكن أن يمرض كثيراً من جرّاء الطقس السيء كونه لا يشعر بالبرد غالباً ولأنّ صحّته جيّدة. فكان يستحمّ بماء بارد ويخرج بعدها مباشرة إلى عمله أو إلى الشارع من دون أن يعتمر قبّعة أو يرتدي معطفاً. لكن ما لبثت لسعات البرد أن تمكّنت منه وطرحته أسير الفراش يعاني "لقوة" أي شبه سكتة دماغيّة. فقد تفاعلت الرياح القويّة والبرد القارس مع حرارة جسمه الدافئة بعد الإستحمام، وأدّت إلى أن يُصاب بالسكتة! فنقل إلى المستشفى مباشرة وجرى علاجه لفترة من الوقت. وقد تخلّل هذه المرحلة الكثير من التعب والعذاب بالنسبة إليه، إذ كان قد فقد الحركة بيده اليمنى ومال فمه إلى جهة واحدة، فبات يتلعثم بالكلام… وبعدما سيطر الأطباء على حالته، بدأ تدريجياً يخضع لإعادة التأهيل وتعلّم النطق من جديد ليعاود نشاطه في المجتمع. يشير هيثم إلى أنه، وبعد سنة من إصابته بالحادث، عاود إستخدام يده اليمنى مع بعض التحفظ، لكنه لا يزال يعاني من صعوبة في الكلام إذا ما طال الحديث معه. ذلك أنّ مفعول السكتة الدماغيّة الطفيفة التي أصابته لم يزل نهائياً بل خلّف مضاعفات. إنّ عدم الوقاية من البرد والإستهتار بمفاعيله قد يدفع بالمرء إلى تناسي ما يمكن أن يسبّبه من أمراض وإلتهابات. لكنه سرعان ما يدفع الثمن من صحّته ويتعلّم بالطريقة الصعبة. يختم قائلاً أنه لم يكن يتوقع قط أن يؤول به المطاف إلى هذه الحال من جرّاء عدم الإنتباه وعدم أخذ الحيطة في موسم الشتاء، لكنه شاكر لأنه نجا ممّا ألمّ به وبقي معافىً وعلى قيد الحياة. بيد أنه ينصح الجميع بضرورة الوقاية وإرتداء الملابس السميكة في الشتاء، وبخاصّة لدى الخروج من البيت. * جيزيل ب. سيّدة تؤمن بأنّ الوقاية أمر جوهريّ ولا بدّ منها ولا شيء مبالغ بها! فهي تحرص على أن تكون بكامل جهوزيّتها لإستقبال موسم الشتاء والبرد والصقيع. هي ربّة منزل ولها ثلاثة أطفال، تتولّى مهمّة إلباسهم ثياباً دافئة ما أن تلوح أوّل بوادر الفصل الماطر. لكنها لا تعتقد أنها تغالي في الموضوع: فهي تلبس أولادها، قميصاً داخليّاً وكنزتين ومعطفاً، إضافة إلى جوارب عالية سميكة وسروالاً وجزمة عالية… كلّ هذا مع القبّعة والقفازات وسواها تفادياً للأمراض. كما أنّ بيتها مجهّز بعدّة وسائل تدفئة وسجّاد مفروش في كلّ الأرجاء، إضافة إلى عدد من الأغطية. وهي على إتصال دائم بالطبيب وبيتها مزوّد بعدد من الأدوية لمكافحة الأمراض. تشير إلى أنها تفضّل أن تتخذ كلّ هذه التدابير، مخافة من أن يتعرّض أحد أفراد العائلة لإنتكاسة صحّيّة، لأنها تخشى المرض ولا تتحمّل أن تنتقل العدوى إلى الجميع. والسببب الأوّل الكامن وراء إفراطها في العناية بالبيت والأولاد والصحّة هو أنها شهدت في طفولتها العديد من الأمراض التي كانت تحيط بعائلتها. فقد كانت تعيش بجوار جدّيها، وكان أفراد العائلة يفتقرون إلى الوعي الكافي والمال الكافي لشراء وسائل التدفئة والثياب الكثيرة. فكانوا يمضون فصل الشتاء، يعانون الزكام والرشح والبرد وإلتهاب الحنجرة والسعال… إلى أن تفاقم المرض مرّة وتحوّل الزكام العابر إلى إلتهاب في القفص الصدري والرئتين عند جدّها. وقد شهدت على عذاباته المتكرّرة لمحاولة القضاء على المرض الذي لم يستطع أن يغلبه! ومنذ ذلك الوقت، أيقنت أنّ الوقاية، وإن بمبالغة، خير من العذاب والمرض. ترى أنها ليست تفرط في العناية وإن إتهمها الآخرون بذلك. بل هي حريصة على أن توفّر لأولادها كلّ ما يلزم في سبيل الحفاظ على صحّتهم.