يمكن اعتبار تعيين الحكومة في بداية 2012 نهاية مرحلة وسمت المشهد السياسي في المغرب بكثير من المستجدات و التطورات ، وساعدت النهاية الإيجابية الحالية لهذا المسلسل في إسترجاع أهم فتراته بالتحليل الهادئ ، هذا المشهد الذي لعبت فيه أطراف متعددة دورا مهما في تأكيد مفهوم الاستثناء المغربي و جنبت البلاد الدخول في متاهات كان سيكون لها انعكاسات خطيرة . ولاشك أنه يمكن اعتبار حزب العدالة و التنمية من أهم هذه الأطراف التي ساهمت بأدائها في الوصول إلى هذه الصورة السياسية اليوم ، وسنحاول من خلال هذه المقالة رصد أهم تفاعلات هذا الحزب مع التطورات التي عرفتها الساحة المغربية في سنة 2011 و التحديات التي من الممكن أن تواجهه مستقبلا. ما قبل 20 فبراير تميزت وضعية الحزب في هذه المرحلة بالصراع المحتدم مع رموز حزب الأصالة و المعاصرة وكثرة الجبهات التي فتحت ضد حزب العدالة و التنمية (قضية جامع المعتصم – إقالة بلقايد ..) كاستمرار لمنهج التضييق على حزب العدالة ومحاصرة أدائه على مستوى المجالس الجماعية في أفق إضعاف إستعداده و حضوره في الإنتخابات التشريعية المزمع عقدها في 2012وقد كان رد فعل قيادة الحزب قوي و مباشر في تلك الفترة ضد حزب البام وقياداته ( الهمة – العماري- بنشماس- الرويسي..) النسخة المغربية من الربيع العربي وظهور 20 فبراير ردة فعل الحزب الأولى ، في شخص أمينه العام ، خلقت بلبلة (نعت شباب 20 فبراير ب الطبالة و الغياطة) كما أن تصريح الأمين العام بكون الحزب لن يشارك في مسيرة 20 فبراير خلق ردة فعل داخلية قوية من طرف بعض أعضاء الأمانة العامة للحزب ومسئولين تنظيميين والعديد من أعضاء الحزب، هذا إذا أضفنا إلى ذلك الضغط في اللحظات الأخيرة على شبيبة الحزب للتراجع عن بيانها المؤكد و الداعي للمشاركة ،كل هذا يمكن اعتباره من مظاهر الارتباك التي ميزت أداء الحزب في تلك اللحظات ، وهو ارتباك راجع بالأساس إلى ضعف متابعة و تحليل تطورات الوضع العربي المشتعل ( تونس – مصر – اليمن-ليبيا – سوريا) وتقدير حجم تأثيراته على الوضع الداخلي ، وبالتالي عدم الإستشراف الجيد وإمتلاك القدرة الإستباقية التي تمّكِن من الإستعداد القبلي لمختلف المآلات و تهيئة التنظيم و الأعضاء للوضعيات المحتملة. نتائج هذا الارتباك كانت واضحة في صفوف أعضاء الحزب وكثير من قياداته المجاليين ،فالبعض أصابته الدهشة والبعض انخرط خارج الفضاء التنظيمي في نقاشات إعلامية ماراطونية على صفحات الفايسبوك و المواقع الإعلامية الإلكترونية و الجرائد لتتناسل المواقف و ردود الأفعال و التعقيبات وصلت إلى حد المطالبة بتوقيع عرائض لإقالة الأمين العام للحزب عبد الإله بنكيران ،إلا أن نقطة الانعطاف الأساسية التي ساعدت على استرجاع المبادرة كانت انعقاد المجلس الوطني الاستثنائي الذي تميز” بمصالحة ” وتراجع أعضاء الأمانة العامة المستقيلين عن استقالاتهم ومن ثمة بداية البروز الإعلامي و التجاوب السريع مع التطورات بانتاج مذكرة الحزب الخاصة بالتعديل الدستوري ،التي أشاد بها العديد من المتخصصين و المراقبين، وكذلك المذكرة الخاصة بالإنتخابات التشريعية. المرحلة كذلك تميزت باستماتة قيادة الحزب في الدفاع عن خصوصية الهوية المغربية بعد تواتر معلومات تفيد بوجود نية لدى بعض أعضاء لجنة مراجعة الدستور لإدخال تغييرات مؤثرة في هذا الجانب . فاعلية الحزب كانت حاضرة في باقي المراحل ( إصدار مواقف من مختلف المستجدات في الساحة ) دون أن يضيّع الفرصة في إنزال أكبر قدر ممكن من النقد اللاذع على حزب الأصالة و المعاصرة و العديد من رموزه و على رأسهم الهمة ، حيث إزدادت جرعة الصراحة في كثير من الخطابات( كانت بعض الخطابات صريحة ومباشرة للملك بخصوص مخاطر مشروع الهمة ). تصريف موقف الحزب الرسمي من مشروع الدستور بإصدار بيان المجلس الوطني الاستثنائي كان ناجحا ، إذ أن الحزب أنتج موقفا متوازنا داعيا من جهة إلى التصويت على المشروع مع التأكيد ، من جهة أخرى، على جملة من الملاحظات التي تجعل من ورش الإصلاح الدستوري ورشا مفتوحا ، كما شدد كذلك على مجموعة من الإجراءات المستعجلة التي تقوى الثقة في المسلسل الإصلاحي. على العموم ،الحزب إستعاد ، بعد فترة الإرتباك الأولى ، المبادرة السياسية و أكد من خلال كل الفضاءات المتاحة على شعاره الذي يلخص منظوره للوضع المغربي ، الإصلاح في ظل الاستقرار . من جهة أخرى تميزت المرحلة ببروز أكبر لدور عبد الإله بنكيران كقيادة كارزماتية مؤثرة ذات خطاب قوي واضح وبسيط ، كان لحضوره الميداني ( المشاركة القوية في عشرات المهرجانات التي غطت مختلف جهات المملكة ) و الإعلامي ( المائدة المستديرة التي نظمتها مجلة الأيام مع بعض شباب 20 فبراير – حضوره التلفزي الناجح في برنامج حوار أو برنامج حميد برادة بالقناة الثانية…) دور مؤثر ، لكن في أحيان عدة سُجِّلت عليه مواقف أدخلت الحزب في معارك جانبية وشغلت الكثير من طاقته ووقته ( موقفه في البداية من 20 فبراير- الموقف من حرف تيفيناغ … ) ولقد برر هذا الأمر بكونه مرتبط بالعفوية و الارتجالية التي تميز الأستاذ عبد الإله بنكيران في خطاباته ، لكن أمامه اليوم تحدي التأقلم السريع و المستوعب لمهامه وصفته الجديدة، التي من أسباب النجاح فيها القدرة على الضبط الكامل للتصريحات، لأن أية فلتة في هذا الاتجاه أو ذاك ستكون ضريبتها كبيرة . لكن تبقى لهذا القيادي خصوصياته الإيجابية الكبيرة التي تؤكد صوابية اختياره في المؤتمر الوطني السادس للحزب كالرجل المناسب لقيادة هذه المرحلة. مابعد الإستفتاء الدستوري التصويت الإيجابي في الإستفتاء الدستوري ونسبة التصويت” الكبيرة ” منحت الحزب دفعة نفسية قوية ،إذ أعادت له الثقة في مواقفه و منحته زخما في التقدم بقوة في نفس المسار و أحس بأنه أصبح رقما مركزيا في المعادلة السياسية في عهد مابعد الدستور الجديد ،وتميزت المرحلة ، التي هي مرحلة إعدادية لأول انتخابات تشريعية في ظل الدستور الجديد ، بدفاع الحزب عن التنزيل الديموقراطي لبنود كثيرة من الدستور ( تصويت المغاربة بالخارج – الإشراف القضائي- التقطيع الانتخابي- العتبة – …)بل وصل الأمر إلى حد التهديد بمقاطعة الإنتخابات من بعض رموز الحزب . ماميّز مرحلة ماقبل الإنتخابات التشريعية تكوين ما يسمى بِ: جي 8( الخطوة التي خلفت استهجانا على مستوى الساحة السياسية لأنها أُعتبِرت محاولة آخر لحظة للإلتفاف على كا تحقق) مما منح فرصة أخرى للحزب لكسب نقاط وظفها لصالحه في محطة 25 نونبر. الإنتخابات التشريعية عوامل كثيرة ساهمت في نجاح الحزب وحصوله على تلك النتائج المتميزة التي فاجأت حتى قيادات الحزب نفسه ، فإضافة للجرأة في مواجهة الهمة ودوافع مشروعه الصريحة في الوقوف في وجه الإسلاميين ، يمكن تسجيل أهم الأسباب التالية: - التعبئة التنظيمية التي تميز الحزب عن أغلب الأحزاب المغربية. - الحضور الإعلامي و الإشعاع الميداني للحزب وقياداته . - أداء فريقه البرلماني. - البرنامج الانتخابي للحزب الذي وظّف جيدا مطلب محاربة الفساد و الاستبداد. - تطورات المحيط العربي وتوجه الرأي العام الشعبي العربي إلى التيارات السياسية الإسلامية المعتدلة ( النهضة في تونس ، الإخوان المسلمون في مصر …) - ضعف المنافسة السياسية وفراغ الساحة من تيارات ذات حضور وازن. التحضير للحكومة أدار الحزب مرحلة تشكيل الحكومة بأقل الخسائر وفرض تصوره المؤطِر لمراحل التشكيل و شكْل الحكومة الجديدة و يمكن إبراز أهم مميزات ذلك في ما يلي: - تشكيل التحالف الحكومي وإحداث هزة في المشهد الحزبي ( تأثر الكتلة- هزة في الجي 8) -النفس التشاركي الذي ميز مختلف مراحل الإعداد للتحالف . - تبني آلية الميثاق، لتوضيح المسؤوليات و ضمان التماسك المستقبلي لمكونات التحالف. - الحصول على وزارات مهمة قادرة على تنزيل برنامج الحزب الإنتخابي ( العدل-النقل و التجهيز – الميزانية-الحكامة..) - تعميق الديموقراطية الداخلية بإبداع مسطرة ترشيح مقترحي الحزب للوزارات - إقتراح أسماء وازنة للإستوزار و التشبت بها ( الرميد – العثماني- بوليف) - سرعة ردة الفعل بخصوص تعيين الهمة مستشارا للملك و إمتصاص المفاجئة . هذا المسار الناجح في عمومه تعترض مستقبله تحديات مهمة قد تؤثر فيه، منها : * التوازن بين متطلبات التدبير التنظيمي وحاجيات تدبير الشأن العام فرض الواقع الجديد على الحزب تحديان كبيران ، أولهما تأهيل الحزب تنظيميا للتأقلم مع تحديات الوضع الجديد بخصوص استقبال العدد الكبير من طلبات العضوية و مع ما يتطلب ذلك من مجهود وقدرات اقتراحية إبداعية في هذا الباب وهو مجهود سيكون مضاعفا للحفاظ على القوة التنظيمية التي تميز هذا الحزب بل و تقويتها ، من جهة أخرى يتطلب التدبير الحكومي كفاءات عالية ، خاصة وأن هذه التجربة الأولى للحزب و الأنظار مركزة عليها ،القراءة الأولى لنوع الإستجابة التي تعامل بها الحزب مع هذا التحدي تكشف عن إعطاء قيادة الحزب الأولوية للملف الحكومي حيث نجد مثلا أن جل أعضاء الأمانة العامة للحزب أصبحوا وزراء كما أن قياديين آخرين أوكلت لهم مهام بدواوين هؤلاء الوزراء أو مسؤوليات بهياكل مجلس النواب، الأمر يتطلب إذن وضع إستراتيجية للخروج من هذا التحدي التنظيمي الذي ستكون له كلفة كبيرة على الأداء الداخلي و الخارجي للحزب خاصة إذا أخذنا بعين الإعتبار أن الرصيد المتبقي من القيادات التنظيمية المجالية في الغالب الأعم سيتم ” إستهلاكه ” بعد الإنتخابات الجماعية و الجهوية المقبلة . * تحدي الانفتاح التنظيمي على الكفاءات و الأطر وهو تحدي مرتبط بالأول إذ الملاحظ محدودية الإنفتاح على أطر خارج التنظيم و أهم مؤشرعلى ذلك ضعف ضم كفاءات جديدة في مرحلة الانتخابات ،لتبقى محصلة استقطاب الأطر خارج التنظيم ضعيفة. * تحدي تنزيل الوعود و ما أكثرها في محيط مشبع بالإنتظارات و ما أكثرها حجم التطلعات كبيرة و المعيقات المنظورة لا تقل حجما عن الغير المنظورة ( اللوبيات و ذووا المصالح..) والغير المنتظرة لا تقل تحديا عن المنتظرة ، مما سيزيد هذا التحدي ثقلا آخر ويفرض عدم الوقوع في التناقض بين الوعود و التطبيق وضرورة القطع مع نماذج المسؤولين السابقين الذين احترافوا الإقتباس من القاموس التبريري ، عكس هذا سيقضي على ما بقي في نفوس المغاربة من رصيد الثقة في الإصلاح و هو الرصيد الضعيف أصلا وهذا هو جوهر المصداقية السياسية المفقودة وهي الإضافة النوعية التي ينتظرها كثيرون من العدالة و التنمية . * تحدي التنزيل الديموقراطي لمضامين الدستور الجديد المطمح الرئيسي للربيع العربي هو تجسيد الديموقراطية في الحياة اليومية للمواطن ، لا تدبيج بنود الدستور بعبارات و مضامين تصبغه بحلة النص الديموقراطي ، و الأنظار موجهة للحكومة الحالية التي يقودها العدالة و التنمية مرتقبة مدى التنزيل الديموقراطي لمضامين دستور 2011 وما مدى المجاهدة في الدفاع عن ذلك ،وهذاتحد يفرض القدرة و الشجاعة في المبادرة في الترجمة الديموقراطية لهذه المضامين و الصلاحيات إلى أكبر مدى ممكن ، و تحصينها وتحييد التدخلات الخارجية التي من الممكن أن تحول دون ذلك. * تحدي الإحتجاجات و الإضرابات وردود فعل 20 فبراير بوادر الإحتجاج بدأت تظهر بقوة ، فالمطالب الملحة لن تمكن الحكومة الحالية من أخذ الوقت الكافي للمعالجة ، وهنا تأتي القدرة التفاوضية لوزراء الحكومة مع مصاحبة ذلك بإشارات مطمئنة * تحدي التواصل، خاصة الإعلامي منه جهات كثيرة ستفتح نيرانها على الحزب وتدبيره الحكومي الحالي وهنا يبرز تحدي جديد وهو القدرة التواصلية مع المواطن المغربي شكلا و مضمونا لوضعه أمام الحقائق أولا بأول ، شروط هذا التواصل لازالت ضعيفة إذ الحزب لحد الآن يعترف بتواضع إمكانياته الإعلامية ومحدودية تأثيرها. ختاما ، تواجد حزب العدالة و التنمية في مهمة التدبير الحكومي وبهذا الحجم إلى أجل قريب كان حلما لكنه الآن أصبح واقعا ، والتجربة الحالية ستكون لها انعكاسات كبيرة على مستقبل الحزب و على انخراط التيارات الإسلامية بقوة في العمل الإسلامي وطنيا و دوليا فهل سيكون الحزب و أعضاؤه في مستوى هذه التحديات المذكورة وغيرها؟