حين يسمع المواطن في بلادنا أن عدد العمال العاطلين عن العمل في فرنسا وصل فوق المليون يعتقد أن الدنيا هناك قد توقفت عن الدوران . و الأمر أن احصاء البطالة عندهم – فرنسا أو أمريكا أو إنجلترا .. – غير إحصائها عندنا . فهناك تمثل "قوة العمل" الأغلبية الساحقة من الشعب ، الرجل والمرأة ، الشاب و العجوز و الكهل ، حتى الطالب في الإجازة إذا سجل إسمه في كشف طالبي العمل فإنه يضاف إلى هذا الرقم المذكور في تعداد العاطلين عن العمل . في حين أن بلادنا لو أحصيت فيها البطالة بنفس المقاييس لوجدنا أن الأصل هو التعطل بمعنى عدم الإنتاج و الإستثناء هو العامل عملا منتجا و نسبة من يكسب الأجر في بلادنا قد تكون واحدا من عشرة بينما هي هناك لا تقل عن واحد من ثلاثة … رغم كل هذا هناك أمر آخر يدعو للتأمل وهو أن من يقرأ الصحف من بعيد لا يسمع إلا تذمر الشعب الفرنسي و ارتفاع نسب البطالة و التضخم و زيادة الأسعار . ويصل المراقب إلى قلب فرنسا فيجد أنها لم تنعم في حياتها قط بمثل هذا الرخاء . و أن حياة الترف التي يحياها الفرنسيون – في مجموعهم طبعا – مبالغ فيها إلى آخر الحدود ، وحظهم من متع الدنيا ربما كان أكثر من حظ أي شعب آخر في الوقت الراهن . هذا هو الظاهر أما الباطن فالمعروف أن الشعب الفرنسي شعب بخيل مقتر على غيره و من أكثر الشعوب حرصا على الإدخار و أكثر "شعب" لا دولة يخزن الذهب في أوروبا كلها هو الشعب الفرنسي ، فالثراء في أوجه في الظاهر و الباطن ، ولو ضحت كل أسرة فرنسية بزجاجة نبيد مما تستهلكه كل يوم لقفزت موازينها المالية و الحسابية قفزات هائلة إلى أعلى ، و لكنها البلد الذي علم العالم تعبئة الماء وبيعه في زجاجات ، ثم إنه الشعب الذي يشرب النبيذ و يملأ جدران مدنه شعار قديم جديد يقول "أتركو الماء للضفادع" . إذن فهذه البلاد تعيش في عالم آخر من مستوايات من الكسب و الإنجاز و تحقيق الدات و معدل التقدم و المتعة لا علاقة لها البتة بما نعيشه نحن حين نتحدث عن هذه الأمور بالنسبة لحياتنا . سياسيا يقال إن الشعب الفرنسي قلبه في اليسار و جيبه في اليمين فثارة يصوت بجيبه و ثارة بقلبه والأحزاب الفرنسية أكثر الأحزاب تكاثرا و انشقاقا و تدبذبا لذالك نجد الحزب الواحد تارة يكسب مئات المقاعد و تارة يكسب عشرات دون فارق زمني طويل و هو ما لامسناه من الإنتخابات الرئاسية الأخيرة و ربما يتكرر المشهد في مقبل الإنتخابات . وكل الجدل في الإنتخابات الفرنسية يدور حول قدرة كل طرف على زيادة ترف الشعب الفرنسي و الدفاع عنه و لا يهتم أحد ما يجري وراء الأسوار غير المنظورة لمدينته .. منظر تنافس اليمين و اليسار على تبني طرد العمال الأجانب .. الذين ما قدمو بالأساس إلا للقيام بالأعمال االتي صار الأوروبي يأنف من القيام بها و إذا كان من المألوف سابقا و ربما حاليا أيضا القول إن الطبقة البرجوازية رجعية و الطبقة العمالية تقدمية ، فهذا ربما في الداخل و لكن إزاء الخارج سواء … العالم المتقدم و العالم الغير المتقدم .. تتزايد المسافة بينهما بدرجة هائلة و متصاعدة .. حتى كاد مجرد الحوار بينهما يصبح متعدرا ، لأن اللغة المشتركة تختفي ، المفاهيم تتباعد و المعايير يسير كل منها في إتجاه معاكس بسرعة البرق . ولا عجب بعد ذالك أن نرى "حوار الشمال الجنوب" حوار طرشان حقا لا يسفر منذ عقود عن أي نتيجة ولن يسفر عن أي نتيجة إذا كان كل طرف يعيش في "جو" يختلف تماما عن الآخر .. و كأن الكرة الأرضية تنقسم إلى كرتين منفصلتين في إنفجار مدمر رهيب . هذا هو الفصام الذي تعشه فرنسا و الغرب عموما بين العقل الجدلي المحلل الناقذ وريث الشك الديكارتي .. و بين ميزاجية الفرد و أنانيته و أهوائه و غروره .. وهو الذي يرفع فرنسا تارة إلى طلب المجد و ينزل بها تارة إلى مهاوى الإنشقاق و الإنقسام حتى قيل إن كل فرنسي هو في النهاية حزب قائم بمفرده . لكل ما سبق كان من الطبيعي أن نرى فرنسا بلد الإديولوجيات .. إن الإيديولوجيات تمر بأزمة طاحنة .. فهي مضطربة اضطرابا شديدا و مهتزة غاية الإهتزاز .. صارت شقشقة لغوية و سفسطة عقلية .. أضيفت بدورها كبند من بنود الترف المادي و المعنوي .. ولا بأس من تصديره إلينا بعد أن إستهلكوه و مضغوه و لفظوه من أفواههم في حقيقة الأمر منذ زمن بعيد . ولكن تصدر حوله المؤلفات بالمئات كل سنة و يصدرون إلينا هذه المؤلفات التي لم يعد المفيد منها إلا النادر القليل ، تماما كما يصدرون إلينا علب السجائر التي لا تخضع للمواصفات الطبية في بلادهم فيكسبون منها الملايين دون أن يكتبو على هذه الكتب أو علب السجائر أنها مضرة بالصحة كما يلزمهم القانون هناك … و لأن وسائل الإعلام الأقوى و الأعلى صوتا هي وسائل إعلام الدول المتقدمة ذاتها .. فإن مشكلة تعطل مليون شخص بهذا المعنى الواسع ، و بأخد العامل لتأمينات ضد البطالة قريبة من أجره الأصلي – تبرز حجم الكارثة التي تهدد العالم .. ولكن وفاة ملايين البشر جوعا في أفريقيا و آسيا خبر عادي ، و إذا تناولته الصحف الكبرى فمن باب الفضول لا غير .. و كأن هؤلاء البشر تحولو إلى نوع آخر من الكائنات كالدواب صار منظر موتها أو ذبحها مألوفا . ولعل هذا يبعث على الإهتمام بحوار آخر هو : هل صار العلم و التكنولوجيا معا يحكمان المجتمع و يحددان تطوراته بما في ذالك الإيديولوجيات مازالت هي التي توجه العالم و التكنولوجيا كما تعودت في بعض العصور . الإيديولوجيات موجودة دائما .. و العلم و التكنولوجيا موجودان دائما .. ولكن العلم و التكنولوجيا صارا يتقدمان بسرعة هائلة و مذهلة . بينما الإيديولوجيات أخذت تزحف في بطء السلاحف لاهثة وراء التطورات التي يحدثها العلم و غير قادرة حتى الآن على اللحاق به و الإمساك بزمامه الذي أفلت منها … فهذه الهوة الآخذة بالإتساع مثلا بين الشمال و الجنوب ربما كانت تصبح أقل خطورة لولا أن هذا البعد بين النصفين يتجاوزه العلم و التكنولوجيا بالتقريب الشديد بينهما . فوسائل الإتصال و نقل الأنباء و نشر المعلومات بل ونقلها حية على شاشات التلفاز تجعل أي مواطن عالميا رغم أنفه يرى من كوخه البئيس البعيد مدى الترف الذي يعيشه غيره رأي العين ، الأمر الذي يحرك كوامن نفسه ، و يستثير أعصابه و يغذي كل قوى الثورة و العنف و الإرهاب و كل ما يطلقون عليه من تسميات ، و الأمر الذي يجعل سكان المناطق المتميزة يعيشون على بركان ، دون أن يشعرو بذالك ، ففي السباق السياسي و المادي هناك .. لا يوجد لا السياسي الذي ينبههم إذا كان يريد النجاح و لا الإعلام الذي يبصرهم إذا كان يريد الرواج ، فحال هذه المجتمعات التي قررت أن تعيش يومها بأكثر ما تستطيع و في أنانية مطلقة عاكفة على زجاجات نبيذها حال من قال "اليوم خمر و غدا أمر" و لكن دون ان تشعر أن هذا الغد فيه اي امر . و هذا التقدم التكنولوجي المروع قضى حتى على معظم ما في السياسة من سياسة .. بما أدخل من وسائل تأثير كاسحة تجعل القدرة الإعلانية أهم من القدرة السياسية ، و إدراك كيفية التأثير على العقل الباطني للجماهير أهم من تبصيرها بحقيقة مصالحها . فالإعلان سيد الانتخابات ، و الإعلام سيد الأصوات . و المرشح أصبح مجرد سلعة تكسب إذا أحسن عرضها ، و التلفزيون بالذات يحول المعركة آخر الأمر من معركة سياسية إلى معركة شخصيات . و أي صفات في المرشح شخصيا تجعله أكثر جاذبية و أكثر مصداقية لديهم يصرف النظر عن الحقيقة . فقد كانت شخصية "فرانسوا هولاند" من هواياته إلى حياته الخاصة إلى تصميم ثيابه .. هي محور الحوار في المراحل الأخيرة من الإنتخابات .. و قبلها رأينا المعركة الإنتخابية في أمريكا تتركز على الصورة الشخصية "لأوباما" .. و يجد المواطن نفسه و كأنه لا يختار رئيسا للدولة ولكن يختار النجم السينمائي الذي يصلح للقيام بدور رئيس الدولة كما يتصوره كل ناخب … و بعد هذه لمحات خاطفة جدا يحتاج شرحها إلى مجلدات عن العالم المتقدم الذي يلهث العالم الثالث في محاولة تقليده و الإقتداء به .