الاحتجاجية تقليد مغربي بامتياز في المغرب لا يمكن أن تصفع شرطية مواطنا كما حصل مع البوعزيزي وإلاّ فهو حدث ناشز عن المناخ الحقوقي الجديد. لأنه يوجد لدينا محاكم إدارية وأيضا ديوان مظالم وأيضا صحافة مشاكسة تتمتع بهامش من الحرية لفضح مثل هذا السلوك . صحافة تواجه نوعا من الصعوبات لكنها تملك أن تصرخ عاليا. وقد يكون من الغريب أن نسمع مثل هذا يقع في الشارع، بينما بات الأمن يتحرج أن يرفع يده في وجه الضنين حتى أثناء الحراسة النظرية. وإن كان ثمة حالات من الخرق للمناخ الحقوقي العام ، فهي مبدئيا مرفوضة وغير مقبولة من القوانين المسطورة لمغرب مصادق على المواثيق الدولية الخاصة بحقوق الإنسان ، ومن الرأي العام شديد الاحتجاج. ففي المغرب توجد عندنا حركات احتجاجية. وثمة دراسات وأبحاث وكتب وأطاريح تناولت مظاهر وظواهر الحركات الاحتجاجية في المغرب. إن وجود الحركات الاحتجاجية معناه أننا نعالج أمراضنا بأقراص الدواء لا بعملية جراحية. فالاحتجاجات هي البديل الطبيعي والمنطقي عن الثورات. وليس المغرب هو الذي تفاجئه اليوم رياح الاحتجاجات العربية ، بل منه انتقلت إلى البلاد المجاورة فأحدثت ما أحدثت. من المؤكد أن معظم الانتفاضات التي جرت في بعض البلاد المغاربية إنما استحضرت الممكن المغربي. فحينما تم تدشين عهد الإصلاحات والانفتاح السياسي ، كان لابد أن تبلغ تلك الرياح إلى الجوار. كانت التجربة المغربية حاضرة في جميع هذه الدول. نستطبع أن ننصت إلى كل مطالب الثوار لنعرف أنها مطالب حسمت في المغرب على مستوى الإرادة السياسية وما تبقى هو عوائق التدبير وتعثّر الحكامة والمشكلات الاجتماعية والسياسية التي ترخي بظلها السلبي على المسار الديمقراطي في البلاد. ففي البحرين يرتفع السقف الثوري عاليا للمطالبة بملكية دستورية تشبه ما نحن عليه. ونحن بلسان إصلاحي نتحدث عن إصلاحات تتجه بالمغرب بعيدا عن الدستورية قريبا من البرلمانية. وفي تونس كما في مصر يتطلعون إلى أن لا يحكمهم الحزب الواحد وأن لا يحكموا بقانون الطوارئ. وفي ليبيا يتمنون أن يكون لهم دستور وأحزاب وحرية تعبير ورأي وحياة منفتحة على كل ألوان الطيف وليس على اللون الأخضر وحده. علما أن الأخضر ليس في عالم اللون لونا أصيلا بل هو نتاج خلطة الأزرق والأصفر. وكل هذه المطالب التي تبدو كبيرة في أعين ثوار مصر وتونس وليبيا واليمن والبحرين ، كنا بعد أن حسمناها مبدئيا في العهد الجديد ، تشكل في نظرنا نحن المغاربة مطالب صغيرة جدّا ومتجاوزة ، إذ لا ينقصنا اليوم سوى إرادة استكمال طريق تنفيذ الإصلاحات التي باتت محلّ وفاق. قلنا أن المغاربة مارسوا الاحتجاجية دائما. والمغربي وحده من يرفع يده منذ نعومة أظفاره تعبيرا عن الاحتجاج. يحتج بالصراخ والعويل والبكاء والحركات البهلوانية. إذا وجدت المغربي ساكتا فحاول أن ترضيه لأنه يفكر في الانتقام. كان المغاربة أول من أحرقوا أنفسهم في قضايا مطلبية. إن ظاهرة الحرق ظاهرة مغربية بامتياز انتقلت إلى تونس فصنعت ثورة. في تونس لا يتحمل الوضع القمعي حالة حرق واحدة ، لذا كانت ثورة. والمغاربة يحرقون أنسفهم بالجملة ، كما عرفوا ظاهرة "الحريق" ، وهي الانتقال غير الشرعي إلى الضفة الأخرى للمتوسطي وحرق الأوراق المثبتة للهوية. وقد كانت هذه العملية تشبه ما فعله طارق بن زياد في تاريخ المغرب حينما أحرق السفن من ورائه كي لا يعود. فكان العدو أمامه والبحر وراءه ليس له من مخرج سوى المعركة. بالتّأكيد لم يكن المغاربة مجوسا أو من عبدة النار، لكن كان لهم مع فعل الحرق والاحتراق حالات تقتضي كثيرا من التّأمل. كان هناك دائما هامش للتعبير بشكل أو بآخر. وسنوات الرصاص التي دوخنا بها العالم إن قستها بمعدل ما عانته بعض الشعوب في بضع ليالي في دول عربية أخرى لخجلنا أن نتحدث عنها، على الرغم من أنها أسوأ مرحلة عرفها المغرب. أعني ، لخجلنا أن نتحدث عنها بالأرقام واكتفينا بالحديث عنها بلغة الضمير. هكذا نجد أن حرمة الحياة قد تمّ التعبير عنها قرآنيا بلغة الضمير لا بلغة الأرقام : ( من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا). لا معنى للأرقام في ميزان الجريمة ، فمسيرة الشطط تبدأ بالنفس الواحدة والباقي أرقام تظهر مقدار البشاعة لا خطر الجريمة. لكن المغرب كان سبّاقا حينما اتخذ القرار الشجاع بفتح حوار حول تلك الحقبة وإعادة كتابة ذاكرة المغرب ونهج سياسة الإنصاف والمصالحة وجبر الضرر التي تعرف مدّا وجزرا لكنها شكلت منعطفا في تاريخ المغرب السياسي الراهن. يكفي أن تقرأ في الأكشاك الموزعة على قارعة الطرق في المدن المغرب الكثير من المؤلفات المصنفة في أدب السجون والتي تستعرض أحوال وأوضاع السجون المغربية في سنوات الرصاص. في مغربنا توجد حالات كثيرة لتجاوزات ورشاوى ومحسوبيات وفساد في التدبير والإدارة وعبث في المال العام... لكن يوجد حراك داخل المجتمع السياسي والمدني والصحافة وإرادات داخل الدولة لتصحيح الوضع وقطع دابر الفساد. ونحن لا زلنا لا نرى أنفسنا قطعنا المشوار بل نعتبر جميعا أننا نخوض تحديات واستحقاقات الانتقال الديمقراطي. والوعكات التي تصيب هذا المسار المتعثر هي مسألة صراع ايجابي يمنح فرصة عقلانية للتحول والتطور بالمغرب دون حاجة لعملية جراحية لا يتحملها المجتمع المغربي اليوم. حيث أصبح الأمل في تحقيق إصلاحات ثورية من دون ثورة. لا أحد في المغرب يرضيه الوضع الحالي، لكن الجميع لا يزال يحمل الكثير من الأمل. ولا يمكن أن نتحدث عن المغرب اليوم كما نتحدث عنه غدا. جرب المغاربة كل أشكال الاحتجاجات التي بعضها أدى الغرض ، وتحققت بموجبه تحولات ملموسة. كل ما وصل إليه المغرب اليوم هو بفضل الحركات الاحتجاجية. وما تحقق بالحركات الاحتجاجية في المغرب تحقق أقل منه في بلدان أخرى تطلب فيها الأمر قيام ثورات بكسور وندوب. وهنا فقط ندرك السبب الرئيسي خلف الخلاف بين المغرب وقناة الجزيرة. ذلك لأن الإعلام وإن سعى إلى استعمال تقنية الصورة الحديثة في عرض مشاهد الاحتجاجات الدورية في المغرب ، فلا ننسى أن التلفزيون العربي يستند على خلفية ثقافية عربية ، تشتغل في مجال عربي لا يميّز بين الاحتجاج والثورة. هكذا ظنّ البعض أن كل احتجاج هو ثورة وقيامة. وفي مثل هذه الحالات ، لا يكون بالإمكان حدوث غير ثورات نخبوية أو انقلابات. وقد جرب المغرب بعضها لكنها كانت فاشلة وغامضة . وعموما كل ما حصل في المغرب هو نتاج صراع حول السلطة ومن تداعيات تلك المرحلة من الانقلابات التي رفضها الشعب حيث كانت تسعى لفرض نفسها عليه بقوة الحديد والنار. ووحدها تلك المرحلة تؤكد على أن مشكلتنا لم تكن مشكلة قوانين أو دساتير بل كانت في الغالب مشكلة ممارسة للسلطة تتيحها مرونة الدساتير عموما. لا يوجد لدى المغاربة مشكل مع النظام السياسي ، بل مشكلتهم مع أداء الحكومة وفساد بعض السياسيين ونفوذ الانتهازية السياسية. ومن هنا يجب أن نفهم من منح صلاحيات للوزير وحكومته أن يصبحوا أكثر مسؤولية في برامجهم الحكومية وأدائهم الحكومي. ففي المغرب حتى لو اجتاحت الثورات كل الأقطار العربية فلن يكون إلا على ما هو عليه. هنا التاريخ يسعفنا لكي نكون تصورا عن المغرب الذي كان يهتزّ العالم من حوله في أوربا وفي الشرق وهو يعيش على سبيل تجاربه الخاصة. فهذا الاستثناء الذي هو قدر المغرب هو الذي جعله الوحيد الذي يتمنع عن الهيمنة العثمانية ويخوض تجربته الخاصة على هامش كل التجارب وفي صلب كل التجارب. ليس المغرب بلدا ديكتاتوريا ولا هو ديمقراطي بالمعنى المثالي للعبارة.. لا هو ثيوقراطي مهما استشهدنا بمسطور الدساتير والأعراف السياسية ما دام الملك دستوريا ممثل أسمى للشعب وليس ممثل أسمى عن الله ولا هو دولة علمانية..أقرؤوا المغرب بين السطور. في مغزى 20 فبراير وقرار الإصلاحات الدستورية حملت حركة 20 فبراير الكثير من المعنى المتوقع عن مشهد سياسي قادم في البلاد. لا يتعلق الأمر بشباب يبتلع العنصر اللّعبي كل أشكال معاقراتهم الاحتجاجية. فلقد تحقق فيها ما لم يتحقق عادة في الحركات الشبابية : عنصر السلم النّاضج وعنصر الوعي السياسي الكبير. وهذا الجانب هو ما يمكن أن نعتبره حدّ تأثر المغرب برياح الثورتين في تونس ومصر. فلقد عزّزتا نجاعة ومصداقية الاحتجاجات السلمية والواعية. ولو كان النظامين : التونسي والمصري لم يغرقا ويختنقا في منطق ومناخ قانون الطوارئ الفاسد، لعرفا كيف يستجيبا بروح رياضية لحركة احتجاجية كان بإمكانها أن تمنح النظامين قوة جديدة وعهدا جيدا ، لكن هذا هو مصير النظم المغلقة والمستغلقة على نفسها. جاءت حركة 20 فبراير سلسة وانسيابية متمتعة بأقصى درجات الروح الرياضية، فجاءت إرادة النظام في الإصلاح أيضا سلسلة ومنسابة وبروح رياضية. إن شباب الفايسبوك هو شباب سياسي ذكي وواعي وواعد جدا. ووحده هذا الشباب الذي عرف كيف يكسر نمطية سياسة الإلهاء التي جاءت بها ثقافة الشبكة العنكبوتية ليجعل من الفايسبوك وسيلة أسطورية للتغيير. وبعد أن صار الحديث عن موت الشباب في مقابر تجنيس الشبكة وتتفيه مهامها ، كنا أمام موعد تغيير هادر خرج من حيزه الافتراضي ليقطع مع ماضي ينوء بالهزيمة واليأس والحصر والسلبية. أصبح جليّا أن هذا الشباب الذي كان يسكن عالمه الافتراضي لم يكن عازفا عن السياسة بل كان يختزن موقفا ويبلور خيارا فاجأ السياسة ولعبتها التقليدية. يجب إذن أن تكبر هذه النظم أكثر لتلائم حلم وتطلع هؤلاء الشباب الذي لن تفعل فيه عناصر الضحالة فعلها في كل أجيالنا التي فطمت عن كل مطالبها بمرارة الأبوية السوسيو سياسية والقمع الممنهج. ولا ننسى أن ما حدث في 20 فبراير هو ثورة ناعمة حققت ما لم تحققه مصر وتونس حتى الآن. وقد وعت تلك الحركة الاستثناء المغربي فعرفت أن تستهدف رموزا محددة تعيق التنمية السياسية والاجتماعية في البلاد وسلكت على تقليد الثورة التوافقية، فكان أن حققت مطالب عجزت الأحزاب السياسية أن تحققها منذ سنوات. ولا أهمية لمن أصبح اليوم يتحدث بلسان ثوري في زمن الانفتاح السياسي بينما كان في زمن القمع وسنوات الرصاص قد ابتلع لسانه وداهن ما شاء له نفاقه السياسي. ففي زمن الإصلاحات لا يتحدث بلسان الثورة إلى جبناء عصر الثورة والتحدّي. إن حركة 20 فبراير استوعبت المطالب المشتركة ولم تغرق في خصوصيات مطلبية ، وتلك هي قوّة نفوذها. تشعر سائر القوى السياسية بضرورة تبرير مدى أهميتها التأطيرية بعد أن تأكد أن جيل 20 فبراير خرج من رماد العزوف والانحصار بحيوية جديدة افتقدتها أكثر الأحزاب السياسية. استفادت الكثير من الأحزاب من مسيرة شباب الفايسبوك بعد أن رفضت الانضمام إلى تلك المسيرة بدعوى أنهم في موقع قاطرة التغيير وليسوا مجرّد عربة. سوف نتساءل خلال السنوات القادمة عن دور الأحزاب في تأطير وقيادة عمليات الإصلاح بعد أن أصبح الشباب قادرين على تأطير أنفسهم وتقرير مصائرهم وقادرين على خلق ملف مطلبي عام ومشترك وفرض ثقافة ومطلب الكتلة التاريخية؟ ! إن ثورة 20 فبراير هي بالأحرى ثورة على الانتهازية السياسية للأحزاب والتأتأة السياسية لكثير من الوصوليين والنفعيين في المشهد السياسي والحزبي.