بقلم راشد عيسى اختلف الجمهور والنقاد حول الأعمال التلفزيونية السورية التي عرضت أخيرا على الشاشات العربية, غير أنهم أجمعوا على أن الناجي الوحيد من عثرات الكتابة والإخراج هو المسلسل الكوميدي "ضيعة ضايعة" من تأليف ممدوح حمادة وإخراج الليث حجو. فهل كانت جرعة السياسة ونقد الفساد التي أحسن صناع العمل إخفاءها هي سر هذا النجاح ? في حلقة حملت عنوان "زمور الخطر" راح سكان قرية "أم الطنافس الفوقا" وهي قرية مفترضة ورمزية, يتدربون على ما يجب فعله أثناء إطلاق الزمور. لكن عطلا أصاب الزمور جعل النفير معلنا طوال الوقت, كما جعل سكان القرية في حالة استنفار, فخطر للشرطي أن يأخذ قيلولة ويترك النفير مدويا. ويختم المشهد بكلمات على الشاشة تقول إن القيلولة استمرت إلى يومنا هذا. مشاهدون كثر لم يروا في زمور الخطر سوى قانون الطوارئ, لكن المخرج الليث حجو في حديث لوكالة فرانس برس قال "إن زمور الخطر هو كل أشكال السيطرة على الناس, لكن القول إنه يرمز إلى قانون الطوارئ قد يكون تضييقا للمعنى". وفي ما إذا كان يصنف مسلسله كوميديا سياسية قال حجو "نحن لا نسميها كذلك, ولا نريد أن نقحم العمل بما هو أكبر من حجمه. الناس تريد أن تراه كوميديا من دون أي مقولات". أما الكاتب ممدوح حمادة, المقيم في بيلاروسيا فقد قال "الناس قيموه كذلك نتيجة للرسائل السياسية التي حملتها بعض حلقاته, ولكن بعض الحلقات كان بعيدا كل البعد عن السياسة واكتفى بصراع الطبائع والمعاناة الإنسانية العامة", وأضاف "الرسائل السياسية كان المقصود منها الوضع العربي بشكل عام". ولدى سؤاله إن كان واجه أي مشكلات مع الرقابة في الجزء الثاني من المسلسل الذي عرض حصريا على قناة "أورينت" السورية التي تبث من دبي, قال "على الإطلاق, ونحن الآن بصدد تقديم أوراق العمل للتلفزيون السوري". وأضاف "لا نريد أن نجعل العمل عدائيا, علينا أن نترك قناة للتواصل, وليس مشروعنا التذاكي على الرقابة". اللافت في هذا العمل, الذي حظي جزؤه الأول بمتابعة واسعة في سوريا, أنه محكم بمختلف عناصره, كتابة وإخراجا وتمثيلا وموسيقى, وبمقدار ما يبدو بسيطا بلا رسائل ولا يرمي إلا إلى الضحك البريء, يبدو محملا برسائل كبيرة. يبحث المسلسل في واحدة من حلقاته عن "أم الطنافس التحتا", فطالما أن هناك أم الطنافس الفوقا, فلا بد من وجود أخرى تحتها. ذلك يستدعي الآثاريين للبحث في طبقات الأرض, وحين يتم العثور على كنوز أثرية يقتحمها مجهولون ويسرقونها, وعندما تستنفر القرية لمواجهتهم, وعلى رأسها رئيس المخفر, يلاحظ الأخير أرقام سيارات اللصوص, فيتعرف فيها على جهات أكبر من أن يطالها, فينصح أهل القرية بالعودة إلى بيوتهم. وفي حلقة "تملق" تأمر السلطة الناس بأن يكفوا عن التملق و"تمسيح الجوخ" والتعبير عن آرائهم بحرية, ولكن من لم يعرف في حياته سوى التملق, يعجز عن معرفة الطريق إلى غيره, تنتهي الحلقة بأن الناس يطالبون السلطة بسجنهم, ذلك أهون عليهم من حرية التعبير, ومن التخلي عن التملق. أما الحلقة التي أثارت الحزن في النفوس, فتلك التي يصحو فيها أهل القرية وهم على حال من الكآبة واليأس, تسميها الحكومة "ظواهر مدهشة". تحاول الحكومة عبر مخفر الشرطة أن تدفعهم إلى الابتسام والخروج من حالتهم, فليس العبوس مناسبا للسياحة, وللأجانب الذين يلتقطون صورهم. لا تفلح الحكومة في بث الحياة, كل الاقتراحات تخيب, فلا الأعمال الكوميدية, ولا رفع الأدرينالين بالخطابات الرنانة, لا الإغراء ولا التهديد, يبدو أن القرية تمارس عصيانا عن الضحك. الحلقة الأخيرة كانت الأكثر إثارة للجدل, لا لشيء, إلا لأنها تغلق الباب أمام جزء ثالث من العمل, فسكان القرية يعثرون على علب معدنية مدفونة في بئر قريبة, يتوازعونها بينهم على أنها دهان يطلون بها بيوتهم, لكن تلك لم تكن سوى نفايات نووية تصيب جميع من بالقرية بالمرض. نهاية تذكر بماكوندو, قرية "مئة عام من العزلة" التي يأخذها الطوفان في ختام رواية ماركيز الشهيرة.المشاهدون غضبوا مرتين, أولا لأنهم انتظروا من هذه الكوميديا نهاية سعيدة غير هذه المأساة, ثم ان الجمهور لا يريد إقفال هذا الفصل الجميل من حياة الدراما السورية.