قال الله تعالى في محكم كتابه العزيز »ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس والله سميع عليم. لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم والله غفور حليم « . قال القرطبي في تفسير هذه الآية "فيه أربع مسائل : الأولى، قال العلماء : لما أمر الله تعالى بالإنفاق وصحبة الأيتام والنساء بجميل المعاشرة، قال : لا تمتنعوا عن شيء من المكارم تعللا بأنا حلفنا ألا نفعل كذا، قال معناه ابن عباس والنخعي ومجاهد والربيع وغيرهم. قال سعيد بن جبير : هو الرجل يحلف ألا يبر ولا يصل ولا يصلح بين الناس، فيقال له : بر، فيقول : قد حلفت. وقال بعض المتأولين : المعنى ولا تحلفوا بالله كاذبين إذا أردتم البر والتقوى والإصلاح، فلا يحتاج إلى تقدير "لا" بعد "أن". وقيل : المعنى لا تستكثروا من اليمين بالله فإنه أهيب للقلوب، ولهذا قال تعالى : »واحفظوا أيمانكم.« وذم من كثر اليمين فقال تعالى : ولا تطع كل حلاف مهين". وقال العلامة الطاهر بن عاشور في تفسيره التحرير والتنوير "اللام في قول لأيمانكم لام التعدية تتعلق ب"عرضة" لما فيها من معنى الفعل : أي لا تجعلوا اسم الله معرضا لأيمانكم فتحلفوا به على الامتناع من البر والتقوى والإصلاح، ثم تقولوا سبقت منا يمين، ويجوز أن تكون اللام للتعليل : أي لا تجعلوا الله عرضة لأجل أيمانكم الصادرة على ألا تبروا. والأيمان : جمع يمين وهو الحلف سمي الحلف يمينا أخذا من اليمين التي هي إحدى اليدين وهي اليد التي يفعل بها الإنسان معظم أفعاله، واشتقت من اليمن : وهو البركة، لأن اليد اليمنى يتيسر بها الفعل أحسن من اليد الأخرى، وسمي الحلف يمينا لأن العرب كان من عادتهم إذا تحالفوا أن يمسك المتحالفان أحدهما باليد اليمنى من الآخر". وقال النابغة الذبياني "حلفت فلم أترك لنفسك ريبة.. وليس وراء الله للمرء مذهب". أوردنا القرطبي مباشرة بعد سرد الآية الكريمة لأنه أقرب المفسرين إلى عقول أولاد التوحيد والإصلاح بحكم انتمائهم السلفي الوهابي. أما سياق هذا الكلام فهو إقدام مصطفى الرميد، وزير العدل والحريات، على القسم علانية على أنه إذا لم يتم تطبيق الاقتطاع من أجور الموظفين فإنه سيقدم استقالته. فالرميد هو وزير العدل والحريات بما يعني أنه رئيس للموظفين الذين تم الاقتطاع من أجورهم. وهو الذي يأمر وينهى في الوزارة، فما الذي يمنعه من الاقتطاع دون قسم؟ أقسم الرميد على الاقتطاع وهو بيده سلطة الاقتطاع، لأنه يعلم أن القرار ليس بيده. لأنه يعلم أن هناك رئيس حكومة ورئيس دولة يعرف جيدا مصلحة المغرب ويعرف مصلحة الموظفين. رئيس دولة يحترم الدستور الذي يقر بالحق في الإضراب وبقانونيته ومعقوليته وأن الحل للمشاكل ليس الهروب إلى الأمام وإنما الحوار. لقد أقسم الرميد لأنه لا يؤمن بالحوار، وكان يجتمع مع النقابات نهارا ويتفق معهم على حل المشاكل وفي الوقت ذاته يأمر مدير الموارد البشرية بالاقتطاع من أجور المضربين منذ تسعة أشهر وهو ما لم يفعله المدير المذكور. فهل يعقل أن يتم الحوار والضرب تحت الحزام في لحظة واحدة؟ ففي عهد الملك الراحل الحسن الثاني حيث كانت النقابات بالقوة التي تجعلها تشل الاقتصاد الوطني وتوقف عجلته، لم يسجل اقتطاع من أجور المضربين. اليوم يريد الرميد أن يدخل فوهة البركان وأن يدخل في عهد الفوضى، لأن اللجوء إلى حل الاقتطاع وحده سيؤدي، لا قدَّر الله، إلى كارثة اجتماعية ويمكن أن تكون اليد من حديد التي أشهرها الرميد سببا في العصيان. فهل سيفكها الرميد بحراس وزارته؟ غير أن السؤال الذي لم يطرحه الرميد على نفسه أو لا يريد طرحه فهو : ماذا لو تبين أن الاقتطاع من أجور الموظفين سيؤدي إلى خلل اجتماعي ومشاكل اقتصادية وسيؤثر سلبا في دورة المال والأعمال؟ لا يمكن فهم المحاكم على أنها المكان الذي يذهب إليه الناس للشكاية، إنه المكان الذي ينصف المواطن، سواء كان مواطنا بسيطا أو رجل أعمال، وعليه تتوقف العمليات الاقتصادية الكبرى، وكم من المعاملات التجارية لا تقوم لها قائمة إلا بتدخل القضاء. فماذا لو تبين للجميع أن قرار الاقتطاع خاطئ وسيضر بالمصلحة العليا للمغرب؟ فهل سيقوم الرميد بصيام ثلاثة أيام أم سيركب رأسه ويدمر كل شيء؟ بقيت نقطة مهمة لابد من ذكرها، وهي أن الرميد أقسم على أن يقتطع بعد أن قام بالاقتطاع. فهل قسمه جائز فقهيا أم لا؟ أما سياسيا فنحن نعتبره غير ذي أهمية فلا قسم في تدبير الشأن العام ولكن أخذ ورد.