كانت الخصومة الأخيرة بين عباس الفاسي وامحمد الخليفة بمناسبة اجتماع اللجنة التنفيذية التي حسمت في أمر المشاركة في حكومة بنكيران، آخر مظاهر الأزمة داخل حزب علال الفاسي الذي لم يتردد في صفع حليفه في الكتلة الديمقراطية حزب الاتحاد الاشتراكي مباشرة بعد إعلان نتائج الانتخابات التشريعية ليوم 25 نونبر الماضي، مقررا ودون سابق إنذار الانخراط في حكومة يقودها حزب العدالة والتنمية الذي حاربه عباس الفاسي قبيل الانتخابات الأخيرة متهما إياه بالتشكيك في العملية الانتخابية برمتها، آنذاك فقط تذكر حزب الاستقلال أنه حزب محافظ، وأن العدالة والتنمية هو الأقرب إلى قلبه من حبل الوريد. كثيرون اعتبروا أن موقف حزب الاستقلال ليس فيه تناقض سياسي، بل هو من صميم الممارسة السياسية لحزب الزعيم علال الفاسي، الذي يدبر مستقبله السياسي تبعا للظروف المحيطة به، فقد دخل حكومة التناوب الأولى مع عبد الرحمان اليوسفي، ولم يمانع في دخول حكومة إدريس جطو رغم الاختلافات الإيديولوجية مع كثير من مكوناتها، واستقبل في الحكومة التي سيرها منذ 2007 كثيرا من التكنوقراط الذين حملهم حزب التجمع الوطني للأحرار على ظهر حمامته، وقبيل الانتخابات التشريعية شرع أسلحته لمواجهة أغلبية الحكومة متهما إياها بممارسة الليبرالية المتوحشة، عائدا إلى أحضان المحافظين. وأمس أعلن عباس الفاسي على هامش اجتماع المجلس الوطني توصله ب 107 طلب استوزار، وهو نفس عدد برلمانيي العدالة والتنمية، رقم يستحق أن يدخل كتاب غينيس للأرقام القيادية، لنكتشف أن شعار الوحدة والتعادلية مات بموت زعيم الإستقلاليين علال الفاسي تاريخ سياسي في المزاد العلني لا يتورع حزب الاستقلال في اللعب على شعارات تاريخية تمتح من المقاومة التي يعتبر حزب الاستقلال نفسه وصيا عليها، ويعود في كل حملة انتخابية إلى سنة 1944 السنة التي شهدت تقديم وثيقة المطالبة بالاستقلال، والتي خرج من رحمها حزب علال الفاسي، ومنذ ذلك التاريخ ظلت هذه المرحلة حاسمة في مستقبل الحزب السياسي، وورقة يشهرها في كل مرة يجد نفسه معزولا. مواقف الحزب كانت دائما متذبذبة، ويتذكر المحللون انتخابات سنة 1992، حين قرر حزبا الاستقلال والاتحاد الاشتراكي دخول الانتخابات بمرشح واحد والتي كانت معبرا لتشكيل الكتلة، التي ولدت ميتة، ومع ذلك ظل حزب الاستقلال يراهن عليها في مواجهة خصومه السياسيين، بل ووصل الأمر إلى حد ضرب حلفائه في الكتلة كلما وجد أن مصيره السياسي في كف عفريت، آخرها قبول المشاركة في حكومة يقودها الإسلاميون، مع أن حزب الاتحاد الاشتراكي فضل التموقع في المعارضة، ولم يستشكل الأمر على حزب الاستقلال حين قرر الرجوع إلى جذوره التاريخية، والشرب من منبع الوحدة والتعادلية التي ليست سوى شعارا يلجأ إليه الحزب لرفع رصيده الانتخابي. بل إن الحزب لم يتورع في مهاجمة خصومه السياسيين خاصة الذين شكلوا معه الأغلبية خلال الولاية التشريعية السابقة، متهما إياهم بعرقلة برنامجه الحكومي، مع أن الحزب كان مسؤولا مسؤولية مباشرة على كثير من القطاعات المهمة، وذهب زعيمه عباس الفاسي إلى حد اتهام حلفائه السابقين بممارسة الليبرالية المتوحشة، منفذ كان ضروريا لإضفاء نوع من الشرعية على دخول حكومة بنكيران الملتحية، حتى لو كان الثمن التضحية بمشروع الكتلة، التي اعتبرها الفاسي أرضية أساسية لأي مشروع مجتمعي في المغرب، قبل أن تتحول إلى مجرد حادث للذكرى. برنامج براغماتي يخدم مصالح الحزب سياسيا وضع حزب الاستقلال ضمن أهدافه الرئيسية خلال الولاية التشريعية المقبلة التنزيل الديموقراطي للدستور الجديد في شقيه المتعلقين بالحكامة والمواطنة، دون أن يقدم أي تفسير مقنع لهذين المفهومين. فالحكامة بالنسبة لحزب الميزان تشكل أحد المداخل المركزية للتنزيل السليم والحقيقي للدستور الجديد، وفي الآن ذاته هي أرضية أساسية يجب ترسيخها وتقويتها لضمان دولة المؤسسات القوية وذات الشرعية والفعالية، ومع أن الحزب كان مسؤولا مسؤولية مباشرة على تدبير حصيلة الحكومة المنتهية ولايتها، فقد عاد مرة أخرى للحديث عن الأهداف النبيلة التي يحملها البرنامج التنموي لمغرب ما بعد 2011، برنامج يستجيب بشكل معقلن وفاعل لانتظارات المواطن المغربي، عبر المشروع المجتمعي التعادلي الذي يتأسس على محتوى وثيقة التعادلية الاقتصادية والاجتماعية التي تشكل مرجعا أساسيا في أدبيات الحزب وتتأسس على مبادئ الحرية والمواطنة المسؤولة وتخليق الحياة العامة وتقوية الإنسية المغربية في تنوعها وتحقيق التضامن والتماسك الاجتماعي، وكذا التوازن والمساواة وتكافؤ الفرص. لكن السؤال الذي يطرح نفسه بقوة اليوم، كيف يمكن لحزب علال الفاسي أن يوفق بين مشروع المجتمع التعادلي وشعارات حكومة عبد الإلاه بنكيران ذات التوجه السلفي، كيف يمكن أن يضمن حزب الاستقلال الجرية الفردية للمواطن، وهو يخضع لشروط حكومة بنكيران، ذات التوجه المنغلق. يعتبر كثيرون أن خطابات حزب الاستقلال بتوفير شروط التفاعل الحقيقي والمجرد والواضح مع انتظارات المواطنات والمواطنين الذين يتوقون الى تحقيقها في مجالات الشغل والصحة والتعليم والسكن وتوفير الحياة الكريمة ورفع الظلم ومظاهر الحكرة وكذا محاربة الفساد والقضاء على اقتصاد الريع والامتيازات، ليست سوى خطابالت للاستهلاك التي لن يحقق منها الحزب أي شيء، وذلك لعدة اعتبارات. أولها، أن تجربة الحزب في تدبير الشأن العام كانت كارثية بكل المقاييس، بالنظر إلى حجم المشاكل التي راكمها في كل القطاعات، وعدم قدرته على تدبير الممكن. ثانيا، أن شعار التعادلية الذي يرفعه الحزب فقد شروطه الموضوعية، في ظل التراكمات السياسية التي سجلها الحزب والتي جعلت منه أحد الدعامات الأسياسية لمنطق السوق، في ظل غياب شروط تحقيق العدالة الاجتماعية، ففي الحكومة التي كان الحزب عمادها الرئيسي استمر اقتصاد الريع، وعانى المواطن من الحڭرة، وتحولت البطالة إلى كابوس مخيف، بل أكثر من ذلك رهم حزب الاستقلال مستقبل المعرب لسنوات أخرى. تحالفه مع العدالة والتنمية ليس حلا للمشكلة، بل هو محاولة لتصريف الأزمة، في غياب مشروع مجتمعي مشترك، فخطابات الحزبين تتعارض لدرجة التنافر، ففي الوقت الذي يرفع فيه حزب الاستقلال شعار المشروع المجتمعي، يرفع فيه العدالة والتنمية شعار محاربة الفساد والاستبداد، وتكريس الهوية الإسلامية، كخطاب سياسي مرجعي بعيد عن أسس الديمقراطية، ليتحول خطاب بنكيران المطمئن إلى مجرد مسكن للألم وليس دواء للعلاج. أما حديث حزب الاستقلال عن الخبرة التي راكمها أطره ومناضلوه في تدبير الشأن العام والإشراف على قطاعات حكومية استراتيجية مهمة في التنمية الاقتصادية والاجتماعية، فهو يدخل ضمن لغة الخشب، لأن المشاكل التي راكمها المغرب في القطاعات التي أشرف عليها حزب الاستقلال تجعل التفكير في العودة إلى الحكومة هو من قبيل العبث. مشروع مجتمعي تعادلي فاقد للشرعية المجتمعية إذا كان المشروع المجتمعي التعادلي لحزب الاستقلال يتمحور حول تأهيل المواطن وتطوير الرأسمال البشري، ومن ثمة بناء مجتمع عادل ومتوازن، فإن رهانات الحزب ليست أقل من البقاء في دائرة الضوء، لذلك يبدو جليا هرولته نحو العودة إلى تدبير الشأن العام، مع أن المنطق يفرض أن يغادر في اتجاه ممارسة معارضة تكون مبنية على أساس استرجاع الثقة، خصوصا أن كثيرا من المحللين يعتقدون أن التصويت بكثافة على حزب العدالة والتنمية، كان عقابا لحكومة عباس الفاسي، التي فشلت فشلا ذريعا في تدبير الشأن العام، وخلفت كثيرا من المشاكل والإكراهات. لقد تحول حزب الاستقلال من حزب تاريخي يستمد شرعيته من المقاومة، إلى حزب مكمل للأغلبية، التي يقودها حزب العدالة والتنمية، الذي كان أشد المعارضين لحكومة عباس الفاسي قبل أن يتحول الإثنان إلى رمز للانتفاع السياسي، وتحقيق المصلحة الذاتية، ولا أدل على ذلك من الصراع الدائر حاليا بين أقطاب حزب الاستقلال بشأن الحقائب الوزارية، فعباس الفاسي يريد اقتسام التركة مع أقاربه والموالين له، وخصومه يعتبرونه أحد أسباب أزمة حزب الاستقلال. بين الاستقلال والعدالة والتنمية مصالح حزبية أم ابتزاز سياسي يجب الاعتراف أن الفشل الذريع الذي مني به حزب الاستقلال، سواء على المستوى التنظيمي أو التأطيري أو السياسي أو الجماهيري كان مرده إلى اعتماد الحزب على خطاب براغماتي انتهازي يروم اللحظة السياسية، وأن خطاب المشروع المجتمعي التعادلي ليس سوى خطابا للاستهلاك ومواجهة الخصوم، وهو الأمر الذي جعله يركض نحو حزب العدالة والتنمية باحثا عن أكبر عدد ممكن من الحقائب الوزارية، دون أن يلتفت إلى الوراء، بل اندفع الحزب هاربا إلى الأمام يختبئ في الجلباب المهلهل لحزب العدالة والتنمية، طالبا بركة الملتحين. وبدل الانكباب على تصحيح أوضاع الحزب الداخلية التي برزت تجلياتها في الصراع الداخلي حول المناصب، ومعالجة أعطاب أدائه السياسي والتدبيري فضل الركون ومواجهة العاصفة، حتى لو كان الثمن هو التضحية بالكتلة الديمقراطية التي وضعت قبيل الانتخابات أرضية لبرنامج مشترك أصبح في مهب الريح. وفي الوقت الذي كان ينتظر أن ينخرط حزب علال الفاسي في مراجعة علاقته بالمواطنات والمواطنين الذين أشرف على تدبير أحوالهم خلال أربع سنوات كاملة هي عمر حكومة عباس الفاسي، لم يجد من مهرب سوى خلق جبهة أخرى مع الإسلاميين بدعوى أنه حزب محافظ يدافع عن المرجعية الإسلامية، مع أنه لم يتذكر مرجعيته هذه إلا في الأسابيع الأخيرة من عمر حكومته التي فجرها الفاسي. الامتعاض اليوم، ليس فقط من قادة حزبي الاستقلال والعدالة والتنمية، الذين ركبوا موجة البحث عن المناصب الوزارية حتى لو تخلى كل واحد عن مبادئه السياسية والأخلاقية، ولكن الامتعاض الكبير أن تتحول مصلحة المواطن العادي إلى رقم يمكن أن نكمل به أية معادلة. ويبدو من خلال طريقة تعامل الحزبين مع المرحلة السياسية الراهنة، يثير ليس فقط أزمة أخلاقية، ولكن أيضا أزمة سياسية سترمي بظلالها في مستقبل الأيام. ويجب اليوم أن نعترف لحزب الإستقلال بالسبق الوزاري، خصوصا بعدما أعلن 107 من مناضليه عن رغبتهم في الإستوزار، وكأن الأمر يتعلق بوظيفة وليس حكومة سيكون عليها تدبير شِؤون المواطنين للخمس سنوات المقبلةعبد المجيد أشرف