كأنّ المغرب لم تعد فيه قضايا أهم وأكبر تثير اهتمام المواطنين والفاعلين وتدفعهم للانكباب على دراستها وتحليلها والبحث، بالتالي، عن أَقْوَمِ وأنجع السُّبُل لإخراجها وتنزيلها على أرض الواقع. كأن هذا البلد تنقصه مشاكل تستدعي التركيز لإيجاد الحلول المناسبة لها إِنْ لم نقل التخلّص منها.. كأن مسؤولي المكتب الوطني للسكك الحديدية يريدون أن يُشْغِلُونَا بموضوع التّأْخِيرات، المُعْلَنَة وغير المعلنة، التي أصبحت هي القاعدة واحترام المواعيد، المُعلنة وغير المعلنة، هو الاستثناء. كأنّ المغاربة لم يعد أيّ شيء يفكرون فيه غير مسلسل تَأَخُّر القطار. وهو تأَخُّر ليس بالدقائق بل بالساعات الطِّوَال التي تُجْبِر المواطن على انتظار ما يأتي وما لا يأتي، وتتركه على حافة الانهيار. وتكبر المأساة حين لا يجد المواطن من يفسّر أو يشرح له طبيعة التأخير وأسبابه. لا اعتذار ولا احترام. ما عليك سوى أن تجلس في الكراسي الحديدية التي تضرّ أكثر ممَّا تنفع، أو تمشي جيئة وذهابا على طُول الرصيف، أو تُدَارِي الوقت بقراءة جريدة أو الاستماع إلى ما يوجد في هاتفك النّقّال من موسيقى أو قرآن.. في انتظار وصول القطار. وماذا يُجْدِي الاعتذار، المُسَجّل، بينما ضاع موعد الوصول إلى المطار وأقلعت الطائرة إلى وِجْهَتِها، وضاع موعد زيارة الطبيب، وضاعت المحاضرة على الطالب، وضاع التوقيت على الموظف والمستخدم الذي ترفع الإدارة في وجهه سيف الاقتطاع من أجره الأجر على الله وتضيع مصالح أخرى على مواطنين آثَرُوا استعمال القطار الذي يظل جاثِماً على قُضْبان السكك الحديدية التي لا يبدُو أن معالم المستقبل أصبحت تظهر على خطوطها. لا يعرف المسؤولون عن المكتب الوطني للسكك الحديدية مدى ما يُكَابِدُه المواطنون من معاناة مع مسلسل تأخير القطارات، وهو مسلسل نجح مُخْرِجُوه تماما في اللعب على أعصاب المواطنين لدرجة أصبح يُؤْرِقُهُم ويقضّ مضاجعهم، ويكتفي هؤلاء المسؤولون بمتابعة الوضع "عن كَثَبٍ" من غرفة القيادة العامة التي بالإدارة العامة. لكن هذا "الْكَثَب" يتحوّل إلى ألم بسبب أن قطارات الخليع أصبحت تخلع. وما على الخليع ومستشاري الخليع وتِقْنِيِي الخليع سوى مغادرة مكاتبهم ويتفضّلُون بقضاء يوم واحد في محطة من المحطات التي يُتَابعون نشاطها "عن كثب" ولا يعرفون شيئا عنها، ولا ما يجري فيها وحولها عن كثب. أما حين يتوقّفَ قطار الخليع وسط الأنفاق أو الغابات أو الفيافي، فتلك مأساة تُضَاف إلى المآسي التي لا يعرفها ولا يكتوي منها إلاّ من عاشها وعايشها بالدقائق والساعات. إن المواطن ضاق ذرعا بالمسلسل المُملّ الذي يحمل عنوان "تأخر القطار"؟ والمواطنة الحقّة تفرض تحديد المسؤولية وتَحَمُّل أوزارها، والواجب الوطني يقضي بربط المسؤولية بالمحاسبة. والضمير يفرض على من لم يستطع تَحَمُّل وِزْرَ المسؤولية أن ينسحب ويترك المكان لغيره. أما الوازع الأخلاقي حتى لا نقول الديني فيُحَتِّم على المسؤول تَجَنُّب التخاذل والتماطل والكذب، وكل ما من شأنه أن يترك المواطن مُعَلَّقاً أو تائها لا يعرف أين يُوَلِّي وجهه. وكلما حاول الاستفسار يُوَاجَهُ بكلمة "لا أعرف"، في حين إن المسؤولين يتابعون الوضع "عن كثب" من القيادة العامة بالإدارة العامة. هذا غَيْضٌ من فَيضٍ. أما الحديث عن قلّة النظافة والسلامة وغياب الجودة في الخدمات داخل العربات، فتلك مسألة أخرى لا يكف المسافرون عن الحديث عنها وعن انعكاساتها وأبعادها خاصة حين يتوقّف القطار ولا يريد التحرّك. ويستمر الكلام حولها إلى أن يصل القطار إلى محطته والمواطن إلى غايته وهو يُقْسِم بأغلظ الأيمان ألاّ يعود لاِمْتِطَاءِ القطار الذي يسير على خطوط أتلفت عجلاته معالم المستقبل. القطارات أصبحت تخلع السيد الخليع.