كانت منطقة واد نون بصفة عامة و منطقة كليميم على وجه التحديد عبر العصور و القرون الضاربة في أغوار التاريخ ، منطقة منفتحة على العالم و على سمفونية تمازج الحضارات بكل تلوينها العرقي و الاثني على اعتبار أن كليميم وواد نون كانت ملتقى تجارة القوافل التي تجتمع قبل الرحيل جنوبا نحو مالي و تمبكتو و النيجر و باقي دول إفريقيا السوداء ، أو العكس نحو شمال إفريقيا حيث مراكشفاس الأندلس و القيروان ووهران و تندوف .. هذا التنوع لم يمر هكذا دون أن يترك بصمات ووقع على تاريخ المنطقة ، فبالإضافة إلى الممارسة التجارية التي تميزت بها المنطقة ، فقد عرفت واد نون علماء داع نبوغهم ، و أدباء و شعراء وفنانين و ما إلى ذلك . كل هذا التنوع تفاعل و فعل فعله في منطقة واد نون لتكون بذلك سباقة إلى ما أصبح يعرف في زمننا هذا بالتسامح الثقافي و تمازج الحضارات . و هذا ليس بغريب على ارض الرجال الزرق و على بساطة الإنسان الصحراوي الذي تشبث بأرض أحبها و عشقها حتى النخاع ، رغم قسوة بيئتها و بساطة عيشها . و نحن نتجول بين رفوف مكتبة التاريخ الوادنوني نفتح صفة أخرى من تاريخ هذه المنطقة العزيزة على قلوبنا, لتناول شخصية طبعت و بصمت على مرحلة مشرقة من ذلك الزمن البهيج المشرق الذي أنار و أضاء و مهد الطريق للأجيال الحالية من اجل متابعة ومواصلة المسيرة التنموية للمنطقة والتعريف بها على الصعيد الوطني و الدولي ..والهدف من تناولنا لهذه الشخصيات كما سبقت الإشارة إلى ذلك في أعداد سالفة ,هو إزالة ستار النسيان و الإهمال ، وإعادة الاعتبار لرموز النهضة التنموية الذين شكلوا في يوم من الأيام حلقة مميزة وهامة في هذا المسلسل الإنمائي ونواة مثمرة نجني نحن اليوم محصول ثمارها .. فشخصية ذاكرتنا لهذا العدد غنية عن كل تعريف , وبكل بساطة و بدون روتوشات أو تقديم أكاديمي .. نقدمها لكم كما عاشت و كما كانت رحمها الله امرأة متواضعة اجتماعية .. وهذا هو هدفنا السامي من عمود ذاكرة واد نون , أي تقديم الشخصيات بشكل مبسط ، لربط الماضي بالحاضر, و ضمان تواصل بين أهل واد نون أينما وجدوا .. فهي المسماة قيد حياتها ' لبشارة بنت حمودي بن محمود ' المرأة التي أسست لأول فرقة فلكلورية لفن الكدرة بالمناطق الصحراوية و بالضبط بمنطقة واد نون و على وجه التحديد بمدينة كليميم , وكان ذلك طبعا بداية الخمسينات إلى أن وافاها الأجل المحتوم .. وظلت طيلة مشوارها الفني تبدع و تجدد و تعطي في هذا المجال التراثي الأصيل لفن ' الكدرة ' هذا الفن الذي شكل مادة هامة اعتمدها كتاب مغاربة و أجانب و باحثين في مجال التراث و الانتروبولوجيا و عملية تطور الشعوب , للتعريف بسكان و ثقافة و فن هذه المنطقة الغنية و التي تظل مؤشرا هاما لمقياس مدى تطورها .. فرقصة الكدرة تنتشر بين سكان منطقة واسعة، تمتد من لحمادة شرقا عبر أقاليم درعة وزمور إلى الساقية الحمراء. إلا أن صيتها ارتبط بمنطقة وادي نون. ورقصة الكدرة هي رقصة شعبية قديمة، ارتبط اسمها بالقدر المصنوع من الطين الذي تم إقفاله بجلد المعز المذبوح لتوه. وذلك بجعل الشعر إلى الأسفل والجانب الأملس إلى الأعلى ثم يعرض لأشعة الشمس قصد تجفيفه بعد أن يتم أحكامه في فم القدر جيدا . ثم يؤخذ مغزلان خشبيان لضرب الجلد في موقع القدر وفق إيقاع خاص وأغنيات خاصة. ولقد ارتبطت الكدرة في منطقة وادي نون، باسم الفنانة "لبشارة بنت حمودي بن محمود". وهي من أقطاب الغناء والرقص الحساني، وهي فنانة داع سيطها على الصعيد الوطني والعالمي. تربت وازدادت بمنطقة وادي نون، وقد أحبت كثيرا الفنون المرتبطة بالتراث الحساني منذ نعومة أظافرها. بحيث كانت لها مكانة هامة في الحياة الفنية الصحراوية دشنتها منذ أواخر الأربعينات وبداية الخمسينات، فساهمت مساهمة فعالة في الحفاظ على نمط مهم من التراث الزاخر والمتمثل خصوصا في رقصة الكدرة، بل ذهبت إلى أبعد من ذلك إذ إرتقت بهذا النمط الفني لتساهم بالتعريف به إقليميا ووطنيا، خصوصا بالساحة الحمراء بموسكو وباريس وكندا وإسبانيا... وبهذا تبقى لبشارة بنت حمودي ولد محمود، بحق و حقيقة سفيرة فن الكدرة و التراث الصحراوي بصفة عامة , بحيث أنها جابت و زارت العديد من الدول العربية و الأوروبية و الأمريكية بما فيها أمريكا الشمالية في مناسبات ومشاركات مغربية في المهرجانات الدولية الخاصة بالفلكلور المحلي لكل بلد . فكانت تمثل منطقة واد نون هي و الفرقة التي كانت تتكون من خمسة نساء و رجلين , أحسن تمثيل و التعريف بها من خلال فن الكدرة ، مرورا بالتعريف بالزي الصحراوي المتميز وصولا إلى العادات و التقاليد التي تطبع المنطقة . و كانت في كل مكان محط اهتمام من طرف الأجانب و حتى المغاربة في شمال المملكة يتابعون باهتمام العروض التي تقدمها فرقتها .. و الذين مازالوا إلى الآن منبهرين لتلك الرقصات على نغمات الكدرة و خاصة حركات الأصابع التي تتحرك في تناغم و تناسق تامين , يصعب على المتتبع العادي فهما . و صدق من قال بان فن الكدرة هو بمتابة مسرحية مرتجلة تعكس إيحاءات لوحة متناغمة الألوان و الأصوات عنوانها البارز : '' يا عريش البنان خلي داك زين إبان '' أو '' يمباركة ورغية دلي لكرون علي '' ..